فى أحد أيام نوفمبر عام 1941 جلست امرأة بمفردها تدعى هيلين دانكن على خشبة مسرح أحد الكنائس الروحية في مدينة “بورتسموث” مرتدية حريرًا أسود و رأسها يتدلى إلى الأمام و يراقبها بفارغ الصبر حشد صغير من المتفرجين في صمت تام ثم تبدء حركة غريبة بظهور شخصية شبحية بيضاء ترتدي قبعة بحارة كتب عليها ” أتش أم أس بارهام ” و يتجه عن قصد نحو امرأة شابة في الجمهور و يحوم أمامها ثم يبدأ في التحدث اليها بصوت خافت قائلا لها آسف يا عزيزتي لقد غرقت سفينتي في البحر المتوسط و عبرت انا إلى الجانب الآخر , كلمات ربما كانت بسيطة الا أنها أثارت ضجة كبيرة داخل المجتمع البريطانى و حكومته .
رغم صعوبة تقبل ذلك المشهد بمقاييس وقتنا الراهن الا أنه كان يحدث بشكل طبيعى فى ” بريطانيا ” عندما أودت الحرب العالمية الثانية بحياة الكثير من البريطانيين و لجأ العديد من أقاربهم إلى الأمور الروحانية لتخفيف آلامهم مما أدى إلى ظهور ما يقارب من 50 ألف حلقة في جميع أنحاء “بريطانيا ” و مع ذلك كانت هذه الجلسة مختلفة لأنه لا أحد سوى المسؤولين الحكوميين فقط من كان يعلم بغرق السفينة الحربية “أتش أم أس بارهام” على يد الألمان و كان خبرها مصنفا كمعلومات سرية و نتيجة لعلم الروحانية ” هيلين دانكان ” بتلك المعلومة رغم حساسيتها فقد لفت ذلك الأمر انتباه كثير من الأرامل اليائسات اللواتي يتوقن إلى التواصل مع أزواجهن المفقودين و على الجانب الأخر سعى المتشككين و من بينهم الحكومة البريطانية نفسها الى اجراء تجارب مثيرة لمعرفة حقيقة تلك المرأة و قدراتها .
ولدت “فيكتوريا هيلين ماكفارلين” و التى عرفت لاحقا بإسم ” هيلين دانكان ” في بلدة “كالاندر” فى بمقاطعة “بيرثشاير” بنوفمبر عام 1897 و خلال طفولتها كانت تزعج زملائها التلاميذ بنبوءاتها الرهيبة و سلوكها الهستيري و بفضل شخصيتها العنيدة إضافة إلى ميولها المسترجلة و ادعاءاتها بأنها شاهدت رؤى شبحية مروّعة أصبحت مصدر إزعاج داخل بلدتها الهادئة و عبثا حاولت والدتها مرارًا وتكرارًا إجبارها على رفض هذه الأفكار السخيفة لكنها كانت تصر على أنها رؤى حقيقة و بعد أن تركت المدرسة عملت في مستوصف “دندي” الملكي و في عام 1916 تزوجت من “هنري دانكان” الذى كان يعمل نجارا و محاربا سابقا و تصبح أم لستة أبناء حيث دعم زوجها مواهبها الخارقة المزعومة و أقنعها باستغلالها فى تحقيق مكاسب مالية و سرعان ما أصبحت ” هيلين دانكان ” مشهورة و لديها شعبية كبيرة لدرجة أن زوجها كان قادرًا على تكريس وقته بالكامل لمرافقة زوجته في رحلاتها بجميع أنحاء البلاد و عمل كمساعد لها و بحلول أواخر العشرينات من القرن الماضي أصبحت واحدة من أشهر الوسطاء الروحانيين فى تلك الفترة .
و مع تزايد شهرة ” هيلين دانكان ” ازداد الناس عليها لطلب خدماتها بسبب المشاهد المذهلة و الصادمة التي تصاحب جلساتها و التى كانت تبدء دائمًا بدعوة المشاركين لفحص جسدها العاري و كانت تجلس أو تقف إذا طُلب منها ذلك لتؤكد أنها لا تخفي أي قطعة من المواد التي قد تمكنها من تزييف قواها و بمجرد أن يشعر المتفرجين بالرضا كانت ترتدي فستانها المصنوع من الحرير الأسود و تأخذ مكانها على خشبة المسرح و هناك تقع في غيبوبة و تظهر أدلة روحية متجسدة على هيئة أشباح مختلفة مثل الشبح “ألبرت” الذى كان رجل إنجليزي حسن الكلام و “بيني ” الطفلة المتفائلة و المليئة بالحيوية و كان يرافق ظهورهم مادة بيضاء لزجة تخرج من فم ” هيلين ” يطلق عليها ” الإيكتوبلازم ” و التى تأخذ شكل البشر المتوفين .
و نتيجة تلك الظواهر الخارقة الموجودة لدى ” هيلين دانكان ” و تزايد أتباعها بدء بعض من المشككين فى قدراتها بالظهور أيضا فمع حلول عام 1928 قام مصور يدعى “هارفي ميتكالف” بتصوير جلسات قامت بها ” هيلين دانكان ” في غرفة ذات إضاءة خافتة و استخدم خلال التصوير الفوتوغرافي الفلاش لالتقاط تلك الأرواح المزعومة حيث كشفت الصور عن دمى غريبة مكونة من وجوه من الورق و أغطية قديمة و أحدثت تلك الصور ضجة كبيرة دفعت “تحالف لندن الروحاني” عام 1931 بفحص عينات من ” الإيكتوبلازم ” المصاحب لجلسات ” هيلين ” و يقرر أنه ليس أكثر من قماش قطني و ورق و بياض البيض و لوضع المسمار الأخير في نعش قدراتها الخارقة اخترقت شرطية متخفية إحدى جلساتها و عندما ظهرت الشبح ‘بيجى’ ، قامت تلك الشرطية بإمساك الروح لتتفاجئ بأنها ممسكة بحفنة من الملابس الداخلية البيضاء و عليه أدينت ” هيلين دانكان ” بالاحتيال و تم تغريمها بمبلغ 10 جنيهات إسترلينية.
و رغم تكشف الحقائق الا أن معجبيها كانوا مصرين على امتلاكها لتلك القدرات الفائقة لأن ” هيلين دانكن ” كانت على علم بحياتهم و أحبائهم الذين لم تكن تعرفهم كما أنها كانت قادرة على إصدار أصوات على عكس صوتها فكيف استطاعت فعل ذلك ؟ , و أستمر الطلب عليها بشكل كبير و نتيجة إيمان أتباعها الراسخ بقدراتها جذب ذلك الأمر “هاري برايس” و هو باحث نفسي تمت الإشادة بتحقيقاته في الظواهر الخارقة ليس لدحض الوسطاء عن قصد و لكن لمجرد التحقق من قدراتهم في الواقع حيث أكد بالفعل سابقا على امكانيات العديد منهم و الآن هو حريص على التحقيق عن كثب مع ” هيلين ” حيث أتفق معها على دفع 50 جنيهًا إسترلينيًا للحصول على فرصة لفحصها في ظل ظروف علمية حيث كان يشتبه “برايس” في أنها تبتلع الشاش قبل الجلسة ثم تقوم باخراجه لانتاج ” الإيكتوبلازم ” و بمجرد أن وضع أجهزته و منها جهاز للأشعة السينية سقطت ” هيلين دانكن ” في حالة هستيرية و رغم أن زوجها حاول تهدئة مخاوفها الا أنها صرخت فيه و لكمته بشدة في وجهه و أندفعت الى خارج الباب مهرولة و تعثرت ثم قامت بتمزيق ثوبها الأسود إلى أشلاء و هي تركض حتى أصبحت عارية بالكامل تقريبًا و خرجت من المبنى و سقطت على ركبتيها و هي تصرخ و تبكي منهارة و حاول زوجها تهدئتها وسط حشد من الناس لكنها لم تهدأ حتى وصلت الشرطة و بعدها لم تمانع من إجراء تصوير الأشعة السينية و هو أمر أزاد من شكوك “برايس” الذى شعر أن كل ما فعلته كان لمجرد مغافلته لاعطاء القماش القطني لزوجها و طالبه بإخراج ما فى جيوبه لكنه رفض و تم الغاء التجربة الا أنه بعدها وافق الزوج على اجرائها مجددا مع السماح للباحثين بأخذ عينة من “الإيكتوبلازم” و وافق ” “برايس” حيث وصف لحظة التجربة قائلا :
كان مشهد مكون من ستة رجال يترقبون المشهد الذى كان مسليا و مع خروج الإيكتوبلازم من فمها قفزنا جميعًا و حصل أحد الأطباء على عينة ثم صرخت الوسيطة و ليخرج باقى الإيكتوبلازم من حلقها و هذه المرة لم يكن قماش لقد ثبت أنه ورق منقوع في بياض البيض و مطوي في أنبوب مسطح حيث كان مشهد طفولى بوجود مجموعة من الرجال البالغين الذين يضيعون وقتهم و مالهم و طاقتهم على تصرفات أنثى بدينة محتالة .
و رغم تلك الحقائق الجديدة الا أنه لم يكن له تأثير مطلقا على جمهور ” هيلين دانكن ” و مع اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى باستثناء أنه لم يكن الباحثين النفسيين فقط هم من يهتمون بها و لكن الشرطة و الحكومة أيضا فبعد تنبؤها بغرق تلك السفينة الحربية عام 1941 أصبحت تُراقب عن كثب و في عام 1944 داهمت الشرطة جلسة كانت تجريها و كان شرطي منهم مختبأ بين المتفرجين حيث أطلق صافرته ليتدفق زملاؤه إلى الغرفة و التى تم تفتيشها بدقة لكنهم لم يجدوا شيئًا على الإطلاق الا أنه لم يكن أمر مهما حيث تم القاء القبض عليها و اقتيدت إلى محكمة “بورتسموث” الجزئية بتهمة التآمر و حين أحيلت القضية الى “المحكمة الجنائية المركزية” وجهت لها تهمة غريبة من نوعها و التي لفتت انتباه البلاد إلى القضية و هى ممارسة السحر حيث تم الأستشهاد بقانون السحر الذى صدر عام 1735 و لكن بدلا من اتهام ” هيلين دانكن ” بأنها ساحرة فعلاً اتهمت بزعم امتلاك قوى سحرية و بغض النظر عن التفاصيل كان ذلك الأمر غريبا على المجتمع الانجليزى فى فترة الأربعينيات من القرن العشرين فى أن يتقبل فكرة محاكمة ساحرة و خاصة أن ذلك القانون السئ السمعه كان مسؤولاً عن حرق عدد كبير من النساء أحياء حتى أن رئيس الوزراء البريطانى أنذاك ” وينستون تشرشل ” انخرط في تلك المحاكمة و كتب عنها ملاحظة غاضبة طالبا الدوافع الغريبة لمحاكمة انسان يعيش فى القرن العشرين بقوانين وضعت منذ القرن الثامن عشر .
و خلال جلسات المحاكمة تم إحضار شهود النفى و الذين صمموا على أن قدراتها كانت حقيقية وأنها قد جلبت الراحة لمعاناتهم و زعموا أنهم لم يشهدوا أقنعة مصنوعة من الورق و لكنها كانت لأحبائهم الفعليين الذين خرجوا من الظلام كما لو كانوا لا يزالون على قيد الحياة كما أكد الدفاع أنه سيكون من المستحيل عليها وضع كل تلك الكمية الكبيرة من القماش القطني المزعوم داخل فمها لإخراجه لاحقا الا أن تاريخ ” هيلين دانكن ” كان غير داعما لها بداية من الصور التي التقطت قبل حوالي 20 عامًا و كذلك تجربة “هاري برايس” حيث أظهر الإدعاء زيف قدراتها و أن الوجوه المزعومة إما تنتمي إلى دمى أو تم قصها من المجلات اضافة الى أنه تم اكتشاف قبعة تحمل اسم السفينة الحربية الغارقة وسط متعلقات ” هيلين ” و بعد مداولات قررت المحكمة معاقبتها بالسجن لمدة تسعة أشهر حيث أستقبلت الحكم بالبكاء و تسقط مغشيا عليها .
و على الرغم من وعد ” هيلين دانكن ” بالتوقف عن عقد الجلسات الروحانية عند إطلاق سراحها إلا أن إيمان المجتمع الروحاني بها ظل قويًا لتعود مجددا لممارسة تلك المهنة و يتم القبض عليها لاحقًا عام 1956 خلال اجرائها جلسة أخرى و مع ذلك تم إطلاق سراحها هذه المرة عندما لم يتم اكتشاف أي دليل على الاحتيال حتى توفيت في وقت لاحق من ذلك العام و بعد فترة اعترف زوجها برؤية زوجته تبتلع الأشياء قبل جلستها بينما أكدت خادمتها الشخصية أنها رأتها تشترى أطوالًا متعددة من القماش القطني كما تم حل لغز معرفتها بغرق السفينة الحربية و ذلك عن طريق تسريب تلك المعلومة إليها من شخص داخل الحكومة الإنجليزية .
أقرأ أيضا : عن عمر خمس سنوات فقط .. قصة لينا ميدينا أصغر أم فى العالم
و تعتبر قصة ” هيلين دانكن ” قد ساهمت بشكل كبير في إلغاء قانون السحر الذى صدر عام 1735 و استبداله بقانون الوسيط الاحتيالي و على الرغم من التصاق اسمها بالوسطاء الروحانيين المزيفين و الذين أستفادوا من آلام الآخرين لتحقيق مكاسب مالية إلا أنها كانت بالنسبة لأتباعها واحدة من الشهداء و حتى اليوم يقوم أتباعها و أسلافها بحملة لتبرئة اسمها من القناعة التي وصفتها بأنها “ساحرة بريطانيا الأخيرة” كما قاموا بصنع تمثال نصفى لها من البرونز و المعروض حاليا في معرض و متحف ستيرلنج سميث للفنون .