منذ نحو خمس و عشرون عاما أقيمت مباراة غير عاديه للشطرنج سواء فى مجرياتها او فى تداعياتها حيث ارتكب لاعب اللون الأسود خطأ فادحا أستطاع خصمه الأبيض إستغلاله فى تعزيز هجومه للفوز بالمباراة حيث لم يكن أمام الخاسر أى مفر سوى الاعتراف بالهزيمه إلا انه لم يحدث بل على العكس أتهم منافسه الأبيض بالغش ليفتح مجال الحديث عن نظريات للمؤامرة لا تزال مستمرة حتى وقتنا الراهن فالمنافس الأبيض الذى تم اتهامه بالغش لم يكن بشريا بل كومبيوتر يطلق عليه إسم ” ديب بلو ” اما الطرف الخاسر فهو اللاعب الروسى الشهير ” جارى كاسباروف ” بطل العالم فى لعبة الشطرنج فى ذلك الوقت .
لم تكن تلك المباراة و التى أجريت في 11 مايو عام 1997 هى الأولى بين الطرفين حيث أجريت قبلها خمسة مباريات أنتهت الاولى بفوز “كاسباروف” و خسر الثانية ثم تعادل في مبارتين و عند الوصول الى المحطة النهائيه و المباراة الأخيرة أنتهت بفوز “ديب بلو” ليصبح أول كمبيوتر يهزم بطل العالم رغم رفض “كاسباروف” الاعتراف بذلك بسبب توجيه اتهامات للمسئولين عن الكومبيوتر بأنه لم يكن الطرف الذى يواجهه كذكاء صناعى بل كان يتم التحكم به عبر أحد أساتذة اللعبه خاصة و أن أسلوبه فى اللعب يحمل طابعا انسانيا بحتا و ليس إاليكترونيا الا انه و بعيدا عن اتهامات “كاسباروف” كانت النتيجة مثار قلق لدى العديد من الناس بعد أن وصلت الأله الى مرحلة من الممكن أن تتفوق فيها على الإنسانية أو على الأقل في لعبة كانت تعتبر منذ فترة طويلة معقدة للغاية بالنسبة إليها .
و بالعودة الى مباراة الأزمة فقد بنى “كاسباروف” تلك الإتهامات بالغش الى المباراة الثانيه التى جمعته بـ”ديب بلو ” حيث كان دائما يتبع استراتجية معتادا على لعبها أمام خصومه البشريين عبر القاء أحد البيادق كفخ لاغرائهم على مهاجمته و التى تعد حركة مصيريه يستطيع منها كاسباروف التحكم فى زمام المباراة الا أنه و على عكس توقعاته لم يقع الكومبيوتر فى ذلك الفخ و بشكل وصفه خبراء اللعبه بانها خطوة مذهله لـ “ديب بلو “و هو الامر الذى جعل “كاسباروف” غاضبا لاضطراره الى تغيير استراتجيته فى اللعب و بشكل أثر عليه بالسلب لدرجة خسارته تلك المباراه و الأسوأ من ذلك استمرار تلك الحالة فى المباراتين التاليين و الذان انتهوا بالتعادل معه ثم أنتهت بإرتكابه خطأ أدى إلى هزيمته نهائيا في المباراة الأخيره .
و بنظرة عامه على ذلك الفوز فإن صلابة ” ديب بلو ” أثناء اللعب و تجاوزه للافخاخ التى وضعها ” كاسباروف ” ترجع الى مبرمجيه الذين قاموا بدمج العديد من الحركات و الاحتمالات خلال اللعبة الواحدة كما وضعوا فى أكواده برمجة خاصة تقوم أثناء اللعب على وضع “كسباروف” دائما فى موقف دفاعى و هى خاصية نفسيه عملت على أضعاف “كاسباروف” فى النهايه , الا أن انصاره و الذين كانوا مقتنعين بوجود شبهة تلاعب أتهموا الشركة المبرمجه و هى IBM بسماحها وجود تدخل بشري خلال المباراة الا أن الشركه نفت بشدة تلك الاتهامات و قالت ان التدخل البشرى الوحيد الذى سمح به هو اجراء النقلات التى يحددها الكومبيوتر بالاضافة الى إصلاح اى خلل برمجى يحدث أثناء اللعب كما رفضوا الادعائات بأن البرمجة قد تم تكييفها مع أسلوب لعب “كاسباروف” لأنهم اعتمدوا على قدرة الكمبيوتر على البحث من خلال أعداد هائلة من الحركات المحتملة .
و مع أشتعال الأزمة طلب “كاسباروف” اعادة المباراه الا ان شركة IBM رفضت طلبه و قامت بتفكيك الكومبيوتر و تأخير إصدار السجلات التفصيلية للكمبيوتر لتزداد شكوك المعارضين و بعد ان أصدرت الشركة لاحقا تحليلات تفصيليه لذلك الجهاز ظهر أن ” ديب بلو ” قد قام بالعديد من الأخطاء الكبيره أثناء مبارياته مع ” كاسباروف ” ففى المباراة الثانيه و التى انتصر فيها وقع فى خطأ أدى الى اضطراره لصنع نقلة عشوائيه كانت كفيلة بهزيمته الا أن “كاسباروف” لم ينتبه اليها و أساء تقديرها باعتبارها نقلة خططيه يلعب بها الجهاز و هو أمرا لم يكن صحيحا حيث تم تدارك ذلك الخطأ و إصلاح ذلك الخلل لاحقا فى المباريات المتبقيه مما سهل على ” ديب بلو ” الانتصار عليه خاصة و أن “كاسباروف” أصبح أكثر حذرا فى اللعب معه بعد اهتزازه من فكرة هزيمته على يد أله بشكل ساهم فى فقدانه لرباطة جأشه حيث يرجع البعض الى ان ذلك هو السبب الرئيسى فى هزيمته لمبالغته فى تقدير نقلات الكومبيوتر و قدراته بشكل اصابه بالكثير من القلق ادى الى فقدان تركيزه و ارتكابه العديد من الاخطاء مكنت ” ديب بلو ” من الانتصار عليه .
و رغم تلك المباراه و ما شابتها من إشكاليات الا أننا لا نستطيع انكار فضل الفريق الذى ساهم فى برمجة ” ديب بلو ” و الذى بناه على امكانيات تكنولوجية عملاقه اعتبرت نقطة انطلاق فى الاعتماد على الذكاء الصناعى الذى يعتمد على معالجة أرقام ضخمة من البيانات فى العديد من المجالات المختلفه سواء اقتصاديه فى المعاملات الماليه او اجتماعيه عبر شبكات التواصل الاجتماعى .
تاريخ ديب بلو و مواجهته كاسباروف
يرجع تاريخ ذلك الكومبيوتر الى المبرمج التايوانى ” فينج هسيونج هسو ” الذى وصل الى الولايات المتحدة عام 1982 لدراسة البرمجيات حيث بدأ ذلك المشروع بجامعة ” كارنيجي ميلون ” فى ولاية بنسلفانيا تحت مسمى Chip Test و التى فيها يتم دمج آلاف الترانزستورات في شريحة واحدة بشكل يسمح للكمبيوتر بالقيام بالتفكير و التحليل و النقل لنصف مليون نقلة فى الثانية الواحدة و بعد تخرجه من الجامعه طلبت منهم شركة IBM مواصلة مشروعهم لبناء آلة شطرنج يمكنها هزيمة بطل العالم حيث قاموا بإنشاء جهاز كومبيوتر أطلقوا عليه اسم ” ديب ثوت ” Deep Thought و الذى واجه اللاعب ” كاسباروف ” عام 1989 و خسر أمامه مما جعل ” فينج ” و فريقه على يقين من انه لا يزال امامهم الكثير لانجازه حيث نجحوا فى الحصول على دعم من شركة IBM الامريكيه للبرمجيات لاستكمال مشروعهم و استطاعوا انشاء جهازا للكومبيوتر أطلقوا عليه إسم ” ديب بلو ” Deep Blue تقوم معالجاته بتحليل و نقل ما يقارب من 100 مليون نقلة فى الثانية الواحدة حيث كان ذلك العدد مهما للغاية لأن أجهزة كمبيوتر الشطرنج تستخدم ما يعرف بتقنية “القوة الغاشمة” Brute Force و هى تعنى ببساطه ان اللاعبون البشريون و نتيجة وقوعهم فى اخطاء ناجمة عن تجاربهم السابقة فهم يتعملون منها و لا يكرروها عبر استبعاد حركات معينة قد تؤدى الى حدوث ذلك الخطأ و هو ما يعرف بالخبرة الا أن حاسبات الشطرنج في ذلك التوقيت لم يكن لديها تلك الامكانيه و تستعيض عنها بالاعتماد على قدرتها بالنظر إلى الأمام في ما يمكن أن يحدث لكل حركة لذلك كان يتم استخدام تقنية “القوة الغاشمة” في تحليل أعداد كبيرة جدًا من الحركات و التى من المرجح أن تنجح لذلك فإن زيادة عدد الحركات التي يمكن للآلة النظر إليها في ثانية واحدة أمرا يعطيها ميزة كبيرة فى اللعب .
أقرأ أيضا : قصة اللاعبة جوديت بولجار أعظم لاعبة شطرنج عبر كل العصور
و بحلول فبراير عام 1996 كان ذلك الفريق مستعدا لمواجهة “كاسباروف” و هذه المرة مع جهاز ” ديب بلو ” بإصداره الأول و الذى أصبح أول جهاز ينتصر على بطل العالم الا ان إجمالى المباريات التى لعبوها سويا لم تكن فى صالحه حيث اجريت خمسة مباريات فاز ” كاسباروف ” بثلاث و تعادل في اثنتين و هو الامر الذى أعطى اشارة الى ان العقل البشرى لا يزال متفوقا على الأله و نتيجة لتلك الخسارة قام الفريق بعمل ترقية للجهاز عن طريق استخدام عددا أكبر من المعالجات لتصدر نسخة ثانية منه ذات قدرات أكبر قادرة على تحليل و نقل ما يقارب من 200 مليون نقلة فى الثانية الواحدة حتى أن البعض أطلقوا عليه اسم ” ديبر بلو ” و اجريت مباراة جديدة له مع كاسباروف فى نيويورك عام 1997 و أنتهت بالنتيجة التى أسلفنا ذكرها .
و بعد تلك الخسارة حدث تطور هائل فى أجهزة الكومبيوتر المخصصة للعبة الشطرنج و على الرغم من تجربته المريرة مع “ديب بلو ” فقد وافق “كاسباروف” عام 2003 على مواجهة اثنان من أبرز حاسبات الشطرنج فى ذلك الوقت و هم “ديب فريتز وديب جونيور” و في المرتين نجح في تجنب الهزيمة رغم ارتكابه أخطاء أجبرته على التعادل و مع ذلك فإن كلا الجهازين قد هزما من البشر في بطولة العالم للفرق بين عامي 2004 و 2005 حيث تميزت تلك الاجهزة الحديثه بتقنية التعلم من الاخطاء السابقه و الموجودة فى أجهزة الذكاء الصناعى الحاليه بعكس ” ديب بلو ” و الذى أعتمد على تقنية ” القوة الغاشمه ” و لكن رغم كل ذلك التقدم الا اننا لا نستطيع ان نقول بأن تلك الأجهزة تشبه الذكاء البشري في الطريقة التي تلعب بها اللعبة حيث يخسر البشر نتيجة إنسانيتهم و مشاعرهم الناجمة عن قلقهم من هزيمتهم امامها بعكسها الخالية تماما من المشاعر و المنحصرة دورها على تطبيق حسابات منطقيه الا انه قد يكون مستقبلا أجهزة تستطيع مجاراة البشر فى تفكيرهم الا اننا نرجو الا يحدث ذلك الا فى وجود قيود أو ضمانات .