لم تقتصر الحرب العالمية الثانية علي المعارك العسكرية فقط و لكن كان يتم إستكمالها بمعارك إستخبارية شرسة كان أبطالها مجموعة من العملاء الذين قاموا بعدد من المهمات الحساسة و الخطيرة كان من أبرزهم إمرأة غامضة عرفت بإسم فيرجينيا هول و المصنفة لدي النازيين بإعتبارها واحدة من أخطر جواسيس الحلفاء في الحرب و من أجل محاولة الإيقاع بها و إعتقالها قاموا بتسخير كل الإمكانيات و لصقوا صورها أو الشكل المعروف عنها في كافة شوارع فرنسا مع وعد بمكافأة ضخمة لمن لديه معلومات قد تقودهم إليها و مع ذلك دون أي نتيجة حتي أنه تم الإعتماد علي أكفأ الظباط النازيين و هو كلاوس باربي المعروف بإسم جزار ليون من أجل التعرف علي هويتها و إلقاء القبض عليها دون جدوي لدرجة أنه في إحدي نوبات غضبه صرخ قائلا سأقدم أي شيء لأضع يدي على تلك العاهرة العرجاء و ذلك نظرا لأن فيرجينيا هول كانت إمرأة بقدم واحدة فقط و مع ذلك نجحت في إذلال النازيين بشكل كبير .
ولدت ” فيرجينيا هول ” في 6 أبريل عام 1906 في مدينة “بالتيمور” بولاية “ماريلاند” و خلال سنواتها الأولى كانت تقول عن نفسها بأنها كانت غريبة الأطوار حيث كانت ترتدي ملابس الرجال و تهتم بالصيد أكثر من الرقص و ذهبت ذات مرة إلى مدرستها الثانوية الراقية مرتدية الثعابين الحية كسوار و مع ذلك رغم تصرفاتها الغريبة إلا أنها كانت طالبة استثنائية حيث تم إنتخابها رئيسة للفصل في مدرسة ” رولاند بارك ” و أيضًا رئيسة تحرير صحيفة المدرسة و قائدة لفريق الهوكي الميداني و كان يتذكرها أقرانها على أنها الفتاة الأكثر أصالة في الفصل و حين كبرت أرادت والدتها أن تتزوج من شخص ثري لتستعيد ثروة الأسرة التي خسروها إلا أن كان من الواضح أن لديها خطط أخري .
و مع إنتهاء ” فيرجينيا هول ” من الدراسة في المدرسة أمضت السنوات الأربع التالية في كليتي “رادكليف و بارنارد” لكن نفورها من الأجواء الراسخة للأكاديميين و كفاءتها في اللغة الفرنسية دفعها للسفر إلى “باريس” ثم “فيينا” حيث هناك حصلت على شهادة في الإقتصاد و القانون الدولي ثم وقعت في حب ضابط شاب في الجيش البولندي و خلال تلك الفترة تعلمت الألمانية و الإيطالية و الروسية و الإسبانية و بحلول الوقت الذي عادت فيه إلى “بالتيمور” عام 1929 كانت نموذج للمرأة الأوروبية الحديثة و المتحررة من كل شئ و كان حلمها هو أن تنضم إلى وزارة الخارجية للعمل كدبلوماسية و أن تصبح في النهاية سفيرة و كانت تعتقد أنها بفضل إتقانها لكل تلك الغات و أسفارها المتعددة كانت ستجعل منها المرشحة المثالية لهذا الدور و لكن في تلك الفترة من الزمن كان المجتمع الديبلوماسي ذكوريا بشكل كامل و لم يكن أعضاءه يتسامحون بوجود امرأة في صفوفهم لذلك كان يتم رفضها رغم تقديمها لطلبات عديدة للإنضمام و في كل مرة كانت تتنافس ضد مئات من النساء الأخريات اللائي لم يُقبل منهن إلا عدد قليل .
و بعد وفاة والدها تمكنت “فيرجينيا هول” من تأمين وظيفة كاتبة في السفارة الأمريكية في العاصمة البولندية “وارسو” قبل أن تنتقل إلى “إزمير” في “تركيا ” بعد بضعة أشهر و هناك و أثناء وجودها في رحلة صيد عام 1932 أطلقت النار على نفسها عن طريق الخطأ في قدمها اليسرى مما أدي إلي إصابتها بجرح بالغ سرعان ما كون غرغرينا تسببت في وضع حياتها علي المحك و لم ينقذها سوي إجرائها لعملية بتر سريع و تستكمل باقي حياتها و هي بساق واحدة و رغم إصابتها بالإكتئاب لفترة جراء ذلك إلا أنها تمكنت من تجاوز الأمر و بدأت في إستخدام ساق صناعية أطلقت عليها إسم “كوثبيرت” و تقدمت مرة أخرى للعمل في السلك الدبلوماسي عام 1937 إلا أنه تم رفضها مرة أخرى و تلك المرة كانت بسبب وجود لائحة تقضي بمنع مبتوري الأطراف من العمل في الدبلوماسية و لم تيأس حيث تقدمت بإستئناف لذلك الرفض ليرد عليها وزير الخارجية “كورديل هال” بفظاظة على أنها يمكن أن تعمل كموظفة جيدة في الخدمة القنصلية .
و مع إندلاع الحرب العالمية الثانية بدأت إهتمامات ” فيرجينيا هول ” في التبدل حيث أستقالت من وزارة الخارجية و أنضمت إلي فوج المدفعية التاسع الفرنسي للعمل كسائقة سيارة إسعاف متطوعة عام 1940 و لكن عقب نجاح الهجوم الألماني و سيطرتهم علي خط ماجينو و بدء “ألمانيا” في غزو “فرنسا” أجبرت على الفرار إلى “لندن” حيث كانت تلك المحطة بمثابة لحظة محورية في حياة “فيرجينيا هول” التي نجحت في الحصول علي رقم هاتف من أحد معارفها و قد طُلب منها الإتصال به لطلب العمل بمجرد الوصول إلى الأراضي البريطانية حيث أفترضت أنها ستكون وظيفة أخرى لقيادة سيارة إسعاف لكنها أندهشت عندما أتصلت بمسؤول كبير في إدارة العمليات الخاصة (SOE) و هي وكالة بريطانية سرية للغاية أطلقها رئيس الوزراء “ونستون تشرشل” من أجل القيام بعمليات إستخبارية في أوروبا .
و أثناء الإختبارات التي مرت بها ” فيرجينيا هول ” أثارت جرأتها و ذكائها إعجاب مسئولي ذلك الجهاز الأمني لدرجة أنه تم قبولها على الفور للتدريب على الأسلحة و أساليب التخريب و التمويه و التجسس و كان لها إسم كودي و هو ” جيرمين ” و الذي كان واحد من بين العديد من الأسماء الأخرى و بعد الإنتهاء من تدريبها سرعان ما أعيدت إلى “فرنسا” لجمع المعلومات الإستخبارية عن العمليات الألمانية هناك و للمساعدة في تنظيم و تسليح المقاومة الفرنسية تحت ستار عملها كمراسلة لصحيفة ” نيويورك بوست ” في أغسطس من عام 1941 حيث نجحت في إنشاء شبكة من العملاء و المقاتلين الفرنسيين أطلق عليها اسم ” هيكلر ” و كان قاعدة عملهم هي مدينة ” ليون ” و تركزت أنشطتهم علي تنسيق الإمدادات و الأسلحة و تقديم الدعم اللوجستي لمجموعات المقاومة الناشئة حيث كانت تلك الأعمال تتسم بالخطورة فمن بين أكثر من 400 عميل تم إرساله إلى “فرنسا” لم يعد منهم سوي 25% بينما تمكنت “فيرجينيا هول” من الإفلات لعدم قدرة الأجهزة الأمنية الألمانية من التوصل إليها أو معرفة هويتها .
و في نوفمبر عام 1942 و بينما كان الإحتلال الألماني لفرنسا يتزايد بدأت الشكوك تحوم حول ” فيرجينيا هول ” لذلك أستقلت قطارًا متجها جنوبا نحو الحدود و سارت لمسافة 80 كيلومتر إلى “إسبانيا” المحايدة عبر شتاء البيرينيه القاسي و في مرحلة ما خلال تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر تمكنت من إرسال رسالة إلى رؤسائها في “لندن” تفيد بأنها تأمل ألا تتسبب لها “كوثبيرت” في أي مشكلة ليردوا عليها بأنه إذا كانت ” كوثبيرت ” مزعجة فأقضي عليها و بعد فترة وجيزة من التواجد في سجن إسباني لدخولها البلاد بشكل غير قانوني تمكنت “فيرجينيا هول” من التواصل مع المسئولين الأمريكيين في “برشلونة” الذين ضمنوا إطلاق سراحها و أعتبرت الإستخبارات البريطانية أن إستكمال مهمتها في ” فرنسا ” أصبح من الصعب جدا لذلك أنضمت إلى مكتب الخدمات الإستراتيجية OSS الذي كان بمثابة النواة الأولي لعمل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA في وقت لاحق .
و مع عمل ” فيرجينيا هول ” تلك المرة مع الأمريكيين و التى أصبح لها إسم كودي جديد و هو ” ديان ” تم إرسالها مجددا إلى “فرنسا” بإستخدام غطاء جديد لإمراءة فرنسية ريفية تحمل إسم ” مارسيل مونتاجني ” و تنكرت تلك المرة في هيئة جديدة من خلال شعر مصبوغ باللون الرمادي و طوال عام 1944 قطع رجال “فيرجينيا هول” ستة عشر خطًا للسكك الحديدية و أخرجوا ثمانية قطارات عن مسارها و فجروا أربعة جسور للسكك الحديدية و قطعوا جميع أسلاك الهاتف في المنطقة و قتلوا ثمانين ألمانيًا بينما كانت خسائرهم اثني عشر شخصا فقط و ذلك لبراعة قيادتها لهم و هو ما جعل رؤسائها يعتبرون أن شبكتها هي الأقوي في مضايقة قوات العدو و إستنزافه و لكن بقدر ما كانت عملياتها ناجحة كانت نهاية مسيرتها في زمن الحرب قد أقتربت فمع غزو الحلفاء لنورماندي لم تعد أنشطتها ضرورية لذلك و في سبتمبر عام 1944 تم إنهاء عملها الإستخباري .
أقرأ أيضا : الراقصة الهولندية ماتا هاري هل كانت جاسوسة للألمان و الفرنسيين أم كبش فداء
و بعد انتهاء الحرب تم تكريم ” فيرجينيا هول ” حيث مُنحت وسام “كروا دي جويري” الفرنسي و وسام الخدمة الأمريكية المتميز و هو ما جعلها المرأة المدنية الوحيدة التي حصلت على مثل هذه الميدالية خلال الحرب العالمية الثانية كما تم منحها العضوية الفخرية في وسام الإمبراطورية البريطانية و بعدها عملت كمحللة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة إلا أن رؤسائها كانوا غير مرحبين بوجودها و مع ذلك أستمرت في الخدمة و قامت بأداء واجبات كتابية تشبه إلى حد كبير تلك التي تسعي للهروب منها في وزارة الخارجية قبل عقد من الزمان إلي أن تقاعدت عن العمل عام 1966 و عاشت باقي حياتها في ” الولايات المتحدة ” بمزرعة في “بارنسفيل” بولاية “ماريلاند” مع زوجها الملازم السابق في مكتب الخدمات الإستراتيجية “بول جويلوت” و أمضت سنواتها المتبقية بعيدًا عن أعين الجمهور حتي توفيت عن عمر يناهز 76 عامًا عام 1982 .