كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتى ( روسيا حاليا ) مليئة بالكثير من الصراعات الأستخبارية التى كانت تدور فى الكواليس بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA و المخابرات السوفيتية KGB و كانت معظم دول العالم ساحات لتلك الصدامات التى كان أبطالها العديد من الجواسيس و العملاء الذى يعد كشفهم و معرفة هوياتهم هى أعظم الإنتصارات لدى تلك الأجهزة لفوائدها المتعددة من غلق مصدر لتسريب المعلومات و معرفة أساليب الخصم فى التجنيد و التحركات و هى بالطبع مميزات دفعت أيضا تلك الأجهزة لمحاولة الوصول الى الظباط المنشقين عند خصومهم و حمايتهم و منحهم الكثير من الإمتيازات بإعتبارهم بمثابة كنز معلوماتى لا يمكن تجاهله حيث يمتلئ التاريخ بالعديد من الأسماء لظباط خدموا بلادهم ثم لم يلبثوا أن أنشقوا عليه و ساروا فى درب الخيانة و يأتى فى مقدمتهم العقيد الروسى فيتالي يورتشينكو الذى ترك بلاده ليستجدى الحماية من الأمريكيين مقابل التعاون معهم لينتهى الأمر بعدها بمفاجئات لا تخطر على بال أحد .
تبدأ قصة الجاسوس ” فيتالي يورتشينكو ” في منتصف ليلة 2 من أغسطس عام 1985 حين دق هاتف منزل العميل الخاص فى مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI “مايكل راشفورد” ليسمع صوت مديره و يخبره بأن هناك طائرة قادمة تقل ظابط سوفيتى منشق رفيع المستوى و الذى كان موجودا يوم أمس فى “إيطاليا ” و قد دخل إلى مقر القنصلية الأمريكية في “روما” و أخبر المسؤولين الأمريكيين أنه كان عقيدا في المخابرات السوفيتية و يريد الهروب إلى “الولايات المتحدة” مع وعد منه بكشف الأسرار السوفيتية مقابل حياة جديدة في الغرب و بالفعل تم تجهيز طائرة له و أستقلها و من المقرر أن تهبط في قاعدة “أندروز” و يطلب منه المدير الذهاب إلى القاعدة و مقابلة أحد عملاء المخابرات المركزية و يدعى ” ألدريتش إيمز ” و التحقيق سويا مع ذلك الظابط و معرفة طبيعة المعلومات التى يتحدث عنها .
كان الظابط “راشفورد” عميلًا شابًا يبلغ من العمر 30 عامًا و لديه معرفة عملية باللغة الروسية و بعد وصوله إلى القاعدة اكتشف أن طائرة المنشق قد هبطت بالفعل و أن زميله ” إيمز ” قد أشرف على نقله بعيدًا إلى منزل آمن تابع لوكالة المخابرات المركزية و عندما وصل “راشفورد” إلى هناك كان فى إستقباله ” ألدريتش إيمز ” الذى كان رجل نحيف و يرتدي نظارات كبيرة الحجم و شارب كثيف و عمل فترة في مكتب وكالة المخابرات المركزية في “الاتحاد السوفيتي “و كان برفقته رجل آخر بدا أنه في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات من عمره و لديه شعر أشقر و شارب و بنية رياضية و لديه ندبة ظاهرة في يده اليمنى و كان إسمه ” فيتالي يورتشينكو ” و كان يعمل عقيدا فى المخابرات السوفيتية حيث لاحظ ” راشفورد ” أن ضباط المخابرات الأمريكية الموجودين كانوا قد بدأوا بالفعل في استخلاص المعلومات منه و توثيقها على جهاز تسجيل و التى كان يقولها باللغة الإنجليزية ذات لكنة روسية حيث كان يفشى عدد من الأسرار السوفيتية المذهلة بمنتهى الحماس حتى ان مشكلة الأمريكيين كانت فى إبطاء تدفق تلك المعلومات لمحاولة إستيعابها و بعد ساعتين أو ثلاث من الاستماع إليه قرروا أخذ قسط من الراحة و نزلوا إلى الطابق السفلي و اجتمعوا معًا و رؤوسهم تطن من كثرة المعلومات .
و قبل وصول ” فيتالي يورتشينكو ” بعدة أشهر كان الأمريكيين يشتبهون في احتمال وجود جاسوس سوفيتى داخل إحدى أجهزتهم الأمنية حيث كان ذلك هو التفسير الوحيد للعديد من الأحداث المحيرة لا سيما الاعتقال المفاجئ قبل شهرين لأهم جاسوس أمريكى في “الاتحاد السوفيتي” و الذى كان متخصصا في الطيران و يُدعى “أدولف تلكاشيف” لذلك كانت أهمية ذلك الإستجواب الأولى في أول ساعتين فى المنزل الآمن هى الإجابة عن تساؤلات الأمريكيين بعد أن كشف “يورتشينكو” بأنه لا يوجد خائنًا واحدًا فقط بل اثنين و الذين كانوا يسرقون الأسرار الامريكية لصالح المخابرات السوفيتية حيث قال إنه لا يعرف أسمائهم تحديدا لكنه أعطاهم معلومات كافية لبدء البحث عنهم و قال إن أحدهم يعمل محللا داخل الوكالة و هو رجل أطلقت عليه المخابرات السوفيتية اسم كودى “السيد روبرت ” بينما كان الآخر موظفًا في وكالة الأمن القومي المعنية برصد الإتصالات الخارجية حيث كانت تلك اعترافات صادمة لأنها كانت لحظة كاشفة بضعف ” الولايات المتحدة ” أمام التجسس الروسي و تغلغلهم فى مفاصل الدولة الامريكية .
و فى اليوم التالى وصل عميل جديد من وكالة المخابرات المركزية و هو “كولين طومسون” إلى المنزل الآمن لينضم الى ” ألدريتش إيمز و مايكل راشفورد ” و يبدء معهم التحقيق و استخلاص المعلومات من ” فيتالي يورتشينكو” حيث أصبح لاحقا هو المسئول عنه بعد تولى ” إيمز ” مهمة جديدة و عند مقابلته لأول مرة فحصه بعين متمرسة حيث لم يكن متأكدًا في البداية عما إذا كان “يورتشينكو” يقول الحقيقة أم يكذب لذلك فقد دخل معه فى تحقيقات مكثفة أستمرت لساعات كان معظمها باللغة الإنجليزية مع بعض العبارات بالروسية و بعدها كان أجرى مكتب التحقيقات الفيدرالي مقابلة معه وحده دون وجود رجال المخابرات المركزية و في بعض الأحيان الاخرى كان يحدث العكس و أحيانا كانوا يجرون معه مقابلات سويا حيث غالبًا ما كان يسأل المحققين “يورتشينكو” أسئلة كانوا يعرفون بالفعل إجاباتها كاختبار لمعرفة مدى صدقه و دقته و طلبوا منه أن يصف مسار حياته المهنية بالتفصيل و أجابهم بأنه خدم في البحرية السوفيتية حيث حصل على تلك الندبة على يده اليمنى بسبب حادث ثم في منتصف السبعينيات انضم إلى المخابرات السوفيتية كضابط أمن بمقرها في “واشنطن” و هو مبنى يضم حوالي 100 مسؤول و موظف سوفيتي 40 منهم من جواسيس و موظفي الـ KGB و عمل فى ذلك المكان لعدة سنوات حتى تم نقله إلى بلده في “موسكو” عام 1983 و على الرغم من أنه لم يصل إلى أعلى المستويات فى المخابرات السوفيتية إلا أن اتصالاته منحته إمكانية الوصول إلى المعلومات و الأسرار العميقة .
و تم تسجيل جلسات استخلاص المعلومات من ” فيتالي يورتشينكو ” و أخذ ” راشفورد ” الأشرطة و نسخها و وزع نصوصها داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي حيث قام العملاء بفحص المعلومات التى تم الإدلاء بها و اجتاز بالفعل الاختبارات حيث كان كل ما يقدمه يمكن التحقق منه من مصادر أخرى و كانت متطابقة بالفعل و بشكل عام كشف ” يورتشينكو ” عن تفاصيل مهمة حول خلفيات 55 شخص يتبعون المخابرات السوفيتية و يعملون في أمريكا حيث كان مكتب التحقيقات الفيدرالي على علم ببعض منهم بالفعل كما أضاف “يورتشينكو “معلومات جديدة إلى التحقيقات أهمها عن طبيعة الجاسوس الموجود داخل وكالة المخابرات المركزية ” السيد روبرت ” و الذى بناء على وصفه اشتبه الأمريكيين في أنه “إدوارد لي هوارد” و هو ضابط فى الوكالة عمل في مكتبها بالاتحاد السوفيتي بين عامي 1982 و 1983 و بعدها تم فصله من الخدمة و للتحقق من تلك المعلومة أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي عملاءه لمواجهة “هوارد” في ولاية “تكساس” و الذى نفى أنه عمل في أي وقت مع المخابرات السوفيتية ثم بعدها هرب و أختفى من مراقبيه و وصل إلى أحد المطارات و منها فر إلى “موسكو” حيث عاش تحت اللجوء حتى وفاته في عام 2002 أما بالنسبة الى الجاسوس الأخر الذي حدده “يورتشينكو” و الذى عمل كمحلل وكالة فى الأمن القومي فقد كان العثور عليه ضروريا نظرا لأنه حذر المخابرات السوفيتية في الماضي من برنامج أمريكي لاعتراض الاتصالات السوفيتية فى عملية مخابراتية طموحة أطلق عليها اسم ” إيفي بيلز ” بدءًا من أوائل السبعينيات و عن طريق تلك العملية قامت الوكالات الأمريكية بالتنصت على كابلات الاتصالات تحت البحر التي كان يستخدمها السوفييت من خلال ارسال غواصات أمريكية و غواصين في أعماق بحار المياه السوفيتية المتجمدة الى أن اكتشفها السوفييت و دمروا أجهزة التنصت بفضل معلومات أرسلها ذلك الجاسوس الغامض .
و تدفقت المعلومات من “فيتالي يورتشينكو” لأسابيع داخل البيت الآمن حيث كان يقفز كل ليلة عند تذكر أى معلومة و يكتبها ليقولها للامريكيين فى الصباح و من بين جلسات استخلاص المعلومات كان يلقى تلميحات حول سبب اتخاذه لتلك الخطوة الجذرية للانشقاق حيث قال أشياء كان يتوقعها الأمريكيين فى أنه لم يعد يؤمن بالشيوعية و اعتقاده أن المخابرات السوفيتية كانت فاسدة لكن بدا من الواضح أكثر أن دوافعه الرئيسية بدت شخصية حيث قال أنه لم يعد هناك شيء يستحق بقاءه في “الاتحاد السوفيتي” حيث كان لديه زوجة لا يحبها و ابن مضطرب عقلى يبلغ من العمر 16 عامًا و توفيت والدته مؤخرًا بسبب سرطان المعدة و قال لهم إنه مصاب بنفس المرض أيضا الذي قتل والدته لذلك لم يكن لديه وقت طويل ليعيشه لذلك قرر الإنشقاق على الفور و من دون تردد و هو ما لاحظه العملاء الذين أشاروا الى أنه من طبيعة هيئته و ملابسه تؤكد إلى أن العقيد قد غادر فجأة دون خطة , و في مقابل تعاونه قدم ” فيتالي يورتشينكو ” مطلبين رئيسيين و هم المال و عدم الكشف عن هويته و المحافظة على سرية انشقاقه موضحًا أنه طالما أن النظام القانوني السوفييتي لم يتمكن من إثبات أنه خائن فلن ينتقم الكي جي بي من زوجته و إبنه الذين تركهم وراءه و وافق الأمريكيين و وعدوه أيضًا بدخل ثابت و رعاية صحية مجانية مدى الحياة إذا بقي و بدا الأمر و كأنه صفقة معقولة.
و بعد شهر من إفشاء الأسرار للمحققين الأمريكيين بدأ ” فيتالي يورتشينكو ” فى الشعور بالملل و لم يعد يستيقظ في منتصف الليل متحمسًا لتدوين الملاحظات و كان من الصعب إرضاءه حيث بدء عملاء وكالة المخابرات المركزية يظنون أنه ربما يفتقد لرفقة أنثى لكن “يورتشينكو” لم يكن مهتمًا بمقابلة النساء و بدلاً من ذلك بدا أنه مهتم بامرأة معينة و التى كانت عشيقته يوما من أواخر السبعينيات عندما كان مقيماً في “واشنطن” و كانت تعمل طبيبة أطفال سوفيتية تدعى “فالنتينا يريسكوفسكي” و تعيش حاليا في “مونتريال” حيث قال أنه يريد الذهاب إلى “كندا” و إعادتها إلى “أمريكا” حيث كان حلمه هو العيش في منطقة نائية نسبيًا في “الولايات المتحدة” مع امرأة ناطقة بالروسية يمكنها الاعتناء به .
من ناحيتهم بذل الأمريكيين قصارى جهدهم لإسعاد ” فيتالي يورتشينكو ” و حاولوا لم شمله بعشيقته السابقة و أحضروه إلى “مونتريال” بالتنسيق مع المخابرات الكندية و أوصلوه إلى الباب الأمامي للمنزل الذى تعيش فيه عشيقته حيث كانت المخابرات الأمريكية مستعدة لمنحها اللجوء هى الاخرى و تم ترتيب كل شيء لنقلها إلى “الولايات المتحدة” على الفور و اعتبارها منشقة هى الأخرى و لكن بدلاً من احتضانها لـ “يورتشينكو” قابلته بجفاء و وصفته بالخائن و بأنها لن تترك زوجها و أبنائها من أجله و أغلقت الباب في وجهه و ازدادت الامور سوء بعد أن قام ” يورتشينكو ” بملاحظة خبر فى احدى الصحف حول قيام وكالة المخابرات المركزية بإلقاء القبض على منشق سوفيتي كبير حيث قام شخص ما بتسريب قضية يورتشينكو (وإن لم يكن اسمه صريحا بالخبر ) للصحافة و هو ما يخل بالاتفاق معهم حيث اشتبه العملاء في أن التسريب ربما جاء مباشرة من مدير وكالة المخابرات المركزية انذاك “وليام كيسي” و هو ما أدى الى استشاطته غضبا بسبب ما حدث و في محاولة يائسة للحفاظ على ذلك التعاون وضع الأمريكيين خطة مكونة من رحلة برية لمدة أسبوعين للترفيه عنه و طاروا من “واشنطن” إلى “فينيكس” فى رحلة مكونة من ستة أشخاص و هم “طومسون” من وكالة المخابرات المركزية و “راشفورد” و زميل أخر له من مكتب التحقيقات الفيدرالي و اثنين من حراس الأمن و “يورتشينكو” حيث كانت الفكرة هي إخراجه من روتين المنزل الآمن المعتاد و إذا لزم الأمر العثور له على امرأة .
و خلال تلك الرحلة طور الرجال صداقة حقيقية مع بعضهم البعض و استأجروا سيارتين و اتجهوا شمالًا مرتدين ملابس مدنية و أخذه الأمريكيين لزيارة معالم تلك المنطقة و علموه لعبة الجولف و أخذوه لفترة وجيزة إلى “لاس فيجاس” و مع قرب نهاية الرحلة تلقى الأمريكيين تعليمات من “واشنطن” تفيد بأن بعض رجال المخابرات المركزية كانوا بحاجة للتحدث مع “يورتشينكو” حول جاسوس وكالة الأمن القومي حيث ألتقى بهم و عرضوا عليه مجموعة مصورة من المشتبه بهم و أشار “يورتشينكو” إلى صورة محلل كمبيوتر سابق في وكالة الأمن القومي يبلغ من العمر 44 عامًا يدعى “رونالد بيلتون” و في الشهر التالي تم القبض عليه (حُكم عليه لاحقًا بالسجن المؤبد لكن أطلق سراحه في عام 2015) و كان اعتقاله بمثابة لحظة ابتهاج للأمريكيين حيث آتت الأسابيع الطويلة من التحرى و الاستجوابات ثمارها و تم التعرف على جاسوس آخر من المخابرات السوفيتية و تحييده و لكنها كانت بمثابة نقطة اللاعودة ليورتشينكو حيث أخبره الأمريكيين أنه قد يُطلب منه الإدلاء بشهادته في المحكمة و بالتالي كشف نفسه على أنه خائن و بعدها عادت المجموعة إلى المنزل الأمن حيث أتوا بخبر سار ليورشنكو حين قالوا له أن آلام المعدة تلك لم تكن بسبب السرطان و لكن بسبب اضطراب بسيط في الأمعاء و هو أمر قابلاً للعلاج لكن ما أثار ارتباكهم أن الجاسوس بدا محطمًا و ليس سعيدا بذلك الخبر .
أما الجانب الأخر فقد كان وقوع خبر إنشقاق ” فيتالي يورتشينكو ” صاعقا فى أوساط المخابرات السوفيتية نظرا الى أن الظباط الرفيعي المستوى لا ينشقون ببساطة و كان الأمر بمثابة كارثة دعائية اذا تم نشر ذلك الخبر فى الإعلام و كارثة استخبارية بسبب إدلائه بالأسرار التي يعرفها حيث لم تكن المخابرات السوفيتية بحاجة إلى التخمين حول ما كان “يورتشنكو” يقوله للأمريكيين حيث كانوا يعرفون كل شئ لأنه رغم وقوع جاسوسين لهم بقبضة المخابرات المركزية ” إدوارد لي هوارد ورونالد بيلتون ” نتيجة وشاية ” يورتشنكو ” الا انه كان يوجد جاسوسين أخرين لا يعلم الأمريكيين عنهم شيئا و كانوا لا يزالون نشطين كان أحدهم “ألدريتش إيمز ” نفسه ضابط المخابرات المركزية الذي كان قد التقط “يورتشينكو” في قاعدة “أندروز” الجوية اما الجاسوس الآخر فقد كان عميلًا خاصًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي يدعى “روبرت هانسن” و كلاهما كانا يقدمان تقارير سرية إلى المخابرات السوفيتية بشأن قضية “يورتشينكو” أى بعبارة أخرى كانت لدى المخابرات السوفيتية آذان داخل المنزل الآمن دون علم الأمريكيين و الذين رغم اختراقهم للمنزل الا انه كان من الصعب على السوفييت استعادة ” فيتالي يورتشينكو ” حيث كان محتجزًا تحت حراسة مشددة طوال الوقت و إلى جانب ذلك يبدو أنه يريد أن يكون هناك و سيكون اختطافه مستحيلا .
و في يوم 31 من أكتوبر عام 1985 أى بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى “الولايات المتحدة ” ذهب ” فيتالي يورتشينكو ” لمشاهدة عرض عيد الهالوين في “جورج تاون” مع طبيبه النفسي في وكالة المخابرات المركزية و بعد يومين في 2 نوفمبر تحدث “يورتشينكو” مع حارسه الشاب عديم الخبرة في وكالة المخابرات المركزية ليصطحبه للتسوق في متجر متعدد الأقسام و كان يحمل معه بضعة آلاف من الدولارات نقدًا أعطتها له وكالة المخابرات المركزية للتسوق و في المتجر اشترى قبعة جديدة و شفرة حلاقة لحلق شاربه و بعد إجراء مكالمة غامضة على هاتف مدفوع دعا حارسه للذهاب الى أحد المطاعم لتناول الطعام حيث كان الطقس باردًا و ممطرًا و سأل “يورتشينكو” حارسه عما تفعله أمريكا بالمنشقين الذين يحاولون الفرار و عما اذا كان يطلق عليهم النار فأجابه الحارس بالنفى و بأن أمريكا لا تعامل المنشقين بهذه الطريقة و بعدها قال ” يورتشينكو ” بأنه سيرحل الأن و اذا لم يعود فهو ليس خطأه .
و غادر ” فيتالي يورتشينكو ” المطعم و لم يتبعه الحارس و يتوجه إلى السفارة السوفيتية حيث كانت المكالمة التي أجراها من الهاتف العمومي قبل ساعات قليلة مع جهة اتصال في السفارة و التى كانت مع “فيكتور تشيركاشين” رئيس الاستخبارات المضادة و الذى كان له الفضل فى تجنيد الجاسوسين ” ألدريتش إيمز و روبرت هانسن ” حيث التقى بفيكتور و ادعى أنه لا يعرف كيف انتهى به المطاف في “الولايات المتحدة ” و أن الأمريكيين خطفوه في “روما” و خدروه و بطبيعة الحال كان ” تشيركاشين ” يعلم أن “يورتشينكو” كان يكذب لأن جاسوسه داخل مجتمع المخابرات الأمريكية قد أعطاه تقارير استخلاص المعلومات الخاصة بالأمريكيين و منه عرف رئيس الاستخبارات المضادة أنه قد خان “الاتحاد السوفيتي” لكنه قرر أن يتماشى مع قصة ” يورتشينكو ” حيث كانت أولويته هي التأكد من أنه لن ينشق مرة أخرى قبل أن ينقل إلى “موسكو” لذلك كان من الضرورى التظاهر بالسعادة لرؤيته و على الجانب الأخر تلقى “كولين طومسون” و الذى كان على وشك مغادرة منزله مكالمة من حارس ” يورتشينكو ” يقول إنه لا يعرف مكان المنشق ليتصل “طومسون ” على الفور بمكتب التحقيقات الفيدرالي و تبدء عمليات البحث عنه و التى أستمرت لساعات على أمل أن يروا ” فيتالي يورتشينكو ” مرة أخرى و هو ما حدث بالفعل و لكن عندما ظهر على الهواء مباشرة .
و فى يوم 4 من نوفمبر دعا الدبلوماسيين السوفييت إلى مؤتمر صحفي مفاجئ في السفارة السوفيتية في “واشنطن” و دعوا أعضاء هيئة الصحافة في العاصمة و وصل الصحفيين ليجدوا “فيتالي يورتشينكو” مرتديًا بدلة و ربطة عنق جالسًا على منصة و محاطاً بالعديد من المسؤولين السوفييت حيث افتتح ” يورتشينكو ” ببضع كلمات باللغة الإنجليزية المتذبذبة. قائلا “أود أن أخبركم أنه خلال هذه الأشهر الثلاثة الرهيبة لم يكن لدي أي فرصة للتحدث باللغة الروسية و بعد ذلك تحدث بالروسية من خلال مترجم و بدأ في إخبار الصحافة بما قال إنه القصة الحقيقية لمحنته و التى كانت وفقا له أنه فى 1 أغسطس كان جالسًا في ساحة القديس بطرس في “روما” يشرب زجاجة من الماء المغلي لتهدئة معدته عندما شعر بشيء مثل السائل يتناثر عليه و يظلم كل شئ حوله و عندما استعاد وعيه وجد نفسه بمنزل في ولاية “فرجينيا” حيث أجبره رجال وكالة المخابرات المركزية على تناول بعض العقاقير الخاصة و استجوبوه و أبقوه هناك رغماً عن إرادته لعدة أشهر و نتيجة للمخدرات لم يستطع تذكر ما قاله لوكالة المخابرات المركزية لكنه كان متأكدًا من أنه لم يكشف أبدًا عن أي أسرار سوفيتية عن طيب خاطر ثم وجه طلبا للصحفيين قائلا من فضلكم اسألوا مسؤولي المخابرات الأمريكية عن نوع المعلومات السرية التي قدمتها لهم لأنه سيكون من الممتع جدًا بالنسبة اليه أن يعرف .
و على الرغم من أن الصحفيين الأمريكيين كانوا متشككين في قصة ” فيتالي يورتشينكو ” لأنه بدا بصحة جيدة و ليس كشخص تم تخديره أو إساءة معاملته الا أن ذلك الحدث أضر بصورة وكالة المخابرات المركزية لأنه فى كلتا الحالتين ستظهر الى أنه إما قد اختطفت ضابط مخابرات سوفيتي لامع أو سمحت لأحد كبار المنشقين عن “الاتحاد السوفيتي” بالخروج من أيديها و بعد فترة وجيزة قام جهاز المخابرات السوفيتية بدفع “يورتشينكو” إلى طائرة و أعادته إلى “موسكو” حيث تم الترحيب به كبطل و كان هذا أيضًا جزءًا من حيلة الدعاية لأنه إذا عاقبت المخابرات السوفيتية “يورتشينكو” فسوف تمد يدها إلى الأمريكيين لتكشف عن أنها تعرف أنه كان منشقًا حقيقيًا و عند هذه النقطة قد يتساءل الأمريكيون كيف عرفت المخابرات السوفيتية ذلك و بالتالى سيتم البحث عن من سرب تلك المعلومات و الوصول الى جاسوسيين إضافيين فى قبضة الأمريكيين و هو أمر سيكون من الصعب على المخابرات السوفيتية تحمله لذلك كان عليهم منح الخائن ميدالية بدلاً من إطلاق النار عليه حتى ان أحد ظباط المخابرات السوفيتية قال أنه إما أن “يورتشينكو” ذكي مثل الشيطان نفسه أو أنه أكثر اللقطاء حظًا على قيد الحياة .
أقرأ أيضا : العملية جولد .. نفق المخابرات الامريكية السري أسفل برلين الشرقية للتجسس على إتصالات السوفييت
أما بالنسبة الى الأمريكيين فقد سأل أحد المراسلين الرئيس “ريجان” في مؤتمر صحفي لاحق بالبيت الأبيض مستفسرا عما اذا كان ” فيتالى يورتشينكو ” كان موجودا فى ” الولايات المتحدة ” ليجيبه ” ريجان ” بأنه لا توجد طريقة يمكن من خلالها إثبات الأمر حيث أعترف بشعوره بالحيرة من أن أي شخص يعيش في “الولايات المتحدة” يفضل العيش في “روسيا” ثم بعدها قررت لجنة استشارية شكلها الرئيس ” ريجان ” أن وكالة المخابرات المركزية و مكتب التحقيقات الفيدرالي قد ارتكبوا أخطاء جسيمة و تم استدعاء مسؤولي المخابرات أمام الكونجرس للإجابة على أسئلة حول الحادثة حيث أشعل الإحراج الناجم عن خسارة “يورتشينكو” النار في ظل جهود “الولايات المتحدة” لمكافحة التجسس الا أنه لاحقا تم القبض على الجاسوس الآخر في الـ KGB “ألدريتش إيمز ” و تم سجنه ثم يلحق به ” روبرت هانسن ” اما بالنسبة الى ” فيتالي يورتشينكو ” فقد إنقطعت أخباره و لا احد يعرف مصيره .