عصر النهضة في الحضارة الأوروبية هي الفترة التي تلت العصور الوسطي مباشرة و يتفق أغلب المؤرخين علي أنها حدثت خلال القرنين الخامس عشر و السادس عشر و كانت البداية من فلورنسا إحدي الولايات الإيطالية و منها إلي باقي أنحاء أوروبا و يُعتقد بشكل واسع أنها فترة زمنية تميزت بإهتمام كبير بالعلوم المعرفية و الفنون و المعمار إضافة إلي ظهور إختراعات جديدة بها كان لها أثر إيجابي لا يزال يتردد صداه علي البشرية حتي وقتنا الراهن مثل الورق و الطباعة و البارود كما شهد عصر النهضة إكتشاف القارات الجديدة من العالم و حدوث تراجع في النظام الإقطاعي و نمو في الحركة التجارية و ساعد بشكل كبير العلماء و المفكرين علي الدعوة إلي إحياء العلم و التعلم بعد فترة طويلة من التدهور و الركود الثقافي الذي نتج من بعض القيود المفروضة قبل ذلك .
ظهور و تطور عصر النهضة
و قبل عصر النهضة كانت تعيش أوروبا في مرحلة ظلامية تسمي العصور الوسطي و التي صاغ العلماء مصطلحها للإشارة إلى الفترة الفاصلة بين سقوط الإمبراطوريات الكلاسيكية لليونان و روما و بداية عصر النهضة و قد تم التعبير عن تلك المرحلة بأنها فترة طويلة سادها الظلام الثقافي أدت في النهاية إلي إطلاق سلسلة من التحولات الإجتماعية و السياسية و الفكرية التي بلغت ذروتها في عصر النهضة و ذلك نتيجة الفشل المتزايد للكنيسة الكاثوليكية الرومانية و الإمبراطورية ذاتها في توفير إطار ثابت و موحد لتنظيم الحياة الروحية و المادية مع زيادة أهمية المدن و الملكيات الوطنية علي حساب الإمبراطورية كلها بالإضافة إلي حدوث تأكل في الهياكل الإقطاعية القديمة .
و في حين أن روح عصر النهضة أتخذت في نهاية المطاف أشكالًا عديدة إلا أنه تم التعبير عنها في وقت مبكر من قبل الحركة الفكرية التي قادها الأدباء العلمانيين بدلاً من رجال الدين الذين سيطروا في السابق على الحياة الفكرية في العصور الوسطى ثم بدأت تلك النزعة في تحقيق صدي لدي الناس و كانت ثمارها الأولي في “إيطاليا” حيث كان روادها الأوائل مثل “دانتي” و “بترارك” و من بين أبطالها الرئيسيين “جيانوزو مانيتي” و “ليوناردو بروني” و “مارسيليو فيسينو” و “جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا” و “لورينزو فالا” و “كولوتشيو سالوتاتي” و قد قدم سقوط القسطنطينية عام 1453 دفعة كبيرة لتلك الحركة بعد أن فر العديد من علماء الشرق إلى “إيطاليا” حاملين معهم كتبًا و مخطوطات مهمة و دراسات يونانية و من الدولة الإيطالية أنتشرت روح عصر النهضة شمالًا إلى جميع أنحاء قارة أوروبا و مع ظهور إختراع الطباعة فقد ساهم ذلك في محو الأمية لدي شعوب تلك الدول نتيجة توافر النصوص الكلاسيكية و بالتالي أصبحت الحياة الفكرية على شفا التنوير .
و كان لتلك الحركة الإنسانية العديد من الميزات الهامة أولها إتخاذ الطبيعة البشرية بكل مظاهرها و إنجازاتها المختلفة موضوعاً لها و ثانيها التشديد علي وحدة و توافق الحقيقة الموجودة في جميع المدارس و الأنظمة الفلسفية و اللاهوتية و هي عقيدة تُعرف بالتوفيق بين المعتقدات و ثالثها التأكيد علي كرامة الإنسان بدلاً من المثل الأعلى في العصور الوسطى لحياة التكفير عن الذنب بإعتبارها أعلى و أنبل شكل من أشكال النشاط البشري كما نظروا إلي محاولة ممارسة السيادة على الطبيعة و أخيرًا التطلع إلى ولادة جديدة لروح و حكمة بشرية مفقودة و في سياق السعي لإستعادتها و ترسيخ نظرة روحية و فكرية جديدة و في تطوير جسم جديد من المعرفة و مساعدة الرجال على التحرر من القيود العقلية التي تم فرضها من قبل القيادات الدينية و إلهام الإستفسار و النقد الحر و العمل علي إظهار الفكر و الإبداع البشري .
و أنتهى عصر النهضة كفترة تاريخية موحدة بسقوط روما عام 1527 و بعدها أدت التوترات بين الإيمان المسيحي و الإنسانية الكلاسيكية إلى التكلفية في الجزء الأخير من القرن السادس عشر و مع ذلك أستمرت الأعمال الفنية العظيمة التي تحركها روح عصر النهضة في شمال “إيطاليا” و شمال أوروبا.
التطورات الفنية
كان الفن هو روح عصر النهضة حيث كان يُنظر إليه على أنه فرع من المعرفة و له قيمة في حد ذاته و قادر على تزويد الإنسان بصور عن الله و إبداعاته بالإضافة إلى رؤى ثاقبة لوضع الإنسان في الكون و كان من بين الفنانين الرواد لذلك العصر “ليوناردو دافنشي” حيث أعتمد الفن في تلك المرحلة على مراقبة العالم المرئي ثم ممارسته وفقًا للمبادئ الرياضية للتوازن و الإنسجام و المنظور و ظهر ذلك في بعض من أعمال الرسامين “ماساشيو” و الأخوان “بيترو و أمبروجيو لورينزيتي” و “فرا أنجيليكو” و “بيروجينو” و “بييرو ديلا فرانشيسكا” و “رافائيل” و ” دوناتيلو ” بالإضافة إلي نحاتين مثل “جيوفاني بيسانو” و “أندريا ديل فيروكيو” و “لورنزو جيبيرتي” و “مايكل أنجلو” و أيضا المهندسين المعماريين مثل “ليون باتيستا ألبيرتي” و “فيليبو برونليسكي” و “أندريا بالاديو” و “ميشيلوزو” و “فيلاريت” و كان من الملاحظ التعبير عن كرامة الإنسان في تلك الفنون .
و في “إيطاليا” سبقت عصر النهضة “نهضة أولية” بدأت في أواخر القرن الثالث عشر و أوائل القرن الرابع عشر و أستلهمت من الراديكالية الفرنسيسكانية حيث كان القديس “فرنسيس الأسيزي” رافضا للمدرسة الرسمية للاهوت المسيحي السائد و خرج بين الفقراء مادحًا جمال الطبيعة و قيمتها الروحية و ألهم مثاله عدد من الفنانين و الشعراء الإيطاليين للإستمتاع بالعالم من حولهم حيث تكشف أعمال “جيوتو ” عن أسلوب تصويري جديد يعتمد على بنية واضحة و بسيطة و تغلغل نفسي كبير بدلاً من الزخرفة المسطحة و الخطية كما عاش الشاعر العظيم “دانتي” في نفس الوقت تقريبًا و تظهر أشعاره إهتمامًا بالتجربة الداخلية و الظلال الدقيقة و التنوعات في الطبيعة البشرية و على الرغم من أن الكوميديا الإلهية تنتمي إلى العصور الوسطى في خطتها و أفكارها إلا أن روحها الذاتية و قوتها في التعبير تتطلع إلى عصر النهضة كما ينتمي “بترارك” و “جيوفاني بوكاتشيو” أيضًا إلى فترة النهضة الأولية من خلال دراساتهما المكثفة للأدب اللاتيني و من خلال كتاباتهما باللغة العامية و لسوء الحظ نتيجة إنتشار وباء الطاعون عام 1348 و الحروب الأهلية اللاحقة فلم تظهر روح عصر النهضة مرة أخرى حتى القرن الخامس عشر .
و خلال عصر النهضة كان الوضع في “فلورنسا” موات بشكل فريد للفنون و التي ظهرت في تماثيل القديسين الراعين لمنافذ نقابة سوق الحبوب المعروفة باسم ” أورسان ميشل ” و في أكبر قبة تم بناؤها منذ العصور القديمة في كاتدرائية “فلورنسا” كما تم تأمين تكلفة بناء و تزيين القصور و الكنائس و الأديرة من قبل عائلات التجار الثرية و على رأسهم عائلة “ميديتشي” و في تلك الفترة بدلا من إستخدام الطلاء بالحرارة المعتادة تم الإعتماد علي طلاء زجاجي شفاف ينتج لونًا شبيهًا بالجواهر و سطحًا لامعًا و كان رسامي عصر النهضة الأوائل مهتمين بالإستنساخ التفصيلي للأشياء و معناها الرمزي أكثر من إهتمامهم بدراسة المنظور العلمي و التشريح حتى بعد أن أصبحت هذه الإنجازات معروفة على نطاق واسع و من ناحية أخرى بدأ الرسامين الإيطاليين في تبني الوسيط الزيتي بعد فترة وجيزة من إحضاره عام 1476 .
عصر النهضة العليا
تمحور فن عصر النهضة العليا و الذي أزدهر لمدة 35 عامًا تقريبًا بداية من أوائل تسعينيات القرن الخامس عشر و حتي عشرينيات القرن السادس عشر حول ثلاثة شخصيات و هم “ليوناردو دافنشي” (1452-1519) و “مايكل أنجلو” (1475-1564) و “رافائيل” (1483-1520) بعد أن جسَّد كلٌّ فنان منهم جانبًا مهمًا من تلك الفترة حيث كان “دافنشي” هو رجل عصر النهضة المطلق أما “مايكل أنجلو” فقد إستندت مشاريعه الإبداعية علي جسم الإنسان كأداة نهائية للتعبير العاطفي بينما أبتكر “رافائيل” أعمالًا تعبر تمامًا عن الروح الكلاسيكية بشكل متناغم و جميل و هادئ .
و على الرغم من أن “ليوناردو دافنشي ” كان معروفًا في وقته كفنان عظيم إلا أن أبحاثه في علم التشريح و طبيعة الطيران و هيكل الحياة النباتية و الحيوانية لم تترك له سوى القليل من الوقت للرسم لذلك ترتكز شهرته على عدد قليل من الأعمال المنجزة أبرزها لوحة الموناليزا و عذراء الصخور و اللوحة الجدارية المتدهورة للأسف العشاء الأخير أما “مايكل أنجلو ” فتكشف منحوتاته المبكرة قدرة فنية مذهلة في قواعد التشريح و على الرغم من أنه أشتهر كنحات إلا أن أشهر أعماله هي اللوحة الجدارية العملاقة في كنيسة سيستين في “الفاتيكان” و التي تم الإنتهاء منها في أربع سنوات و التي دمج فيها اللاهوت المسيحي التقليدي مع الفكر الأفلاطوني الحديث أما ” رافائيل ” فقد كانت أعظم أعماله “مدرسة أثينا” الموجودة في “الفاتيكان” أيضا و التي رسمها في نفس الوقت الذي كان فيه “مايكل أنجلو” يعمل في كنيسة سيستين مع الفارق أن هذه اللوحة الجدارية الكبيرة جمع فيها ممثلين عن المدارس الفكرية الأرسطية و الأفلاطونية و بدلاً من السطح المزدحم و المضطرب لتحفة “مايكل أنجلو” وضع “رافائيل” مجموعاته من الفلاسفة و الفنانين الذين يتحدثون بهدوء في ساحة واسعة مع أقبية تنحسر بعيدًا.