خلال الحرب العالمية الثانية و أثناء غزو ألمانيا لأراضى الإتحاد السوفيتى ( روسيا حاليا ) تكبد الجيش الأحمر خسائر فادحة فى الأرواح و المعدات و بشكل جعل الطريق الى العاصمة موسكو مفتوحا أمام قوات الفيرماخت ليصبح سقوطها مسألة وقت فقط و فى ذروة اليأس و الاحباط الذى دب فى صفوف السوفييت جأتهم أنباء تبعث على التفاؤل بأن القوات السيبيرية قادمة فى الطريق و التى بدأت بالفعل طلائعها فى الظهور بأعداد ضخمة و تشتبك مع الألمان فى معارك شرسة و يتحول السوفييت من مرحلة الدفاع الى الهجوم و يبدأ مسار الحرب فى التغير و يرجع الفضل لكل ذلك الى احد اشهر جواسيس القرن العشرين و يدعى ريتشارد سورج و هو الشخص الذى وضع فيه الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين ثقته الكاملة فى معلوماته التى قدمها اليه و على إثرها قام بسحب مجموعات من القوات السوفيتية المتمركزة فى الشرق الأقصى و دفعها نحو الجبهة المواجهة للألمان .
بدأت قصة الجاسوس “ريتشارد سورج ” أحد أشهر جواسيس جهاز المخابرات السوفيتي بميلاده في 4 من أكتوبر عام 1895 في قرية صغيرة بالقرب من “باكو” عاصمة جمهورية “أذربيجان” و كان ترتيبه الأصغر من بين تسعة أطفال في منزل ألماني روسي حيث كان والده “أدولف” مهندس بترول ألماني و كان ذات شخصية قوية بينما الأم “نينا” امرأة روسية جميلة ورث منها ملامحه السلافية و أستمرت حياته فى ظل الإمبراطورية الروسية لمدة سبع سنوات و بعد انتهاء عقد والده حزمت الأسرة أمتعتها و انتقلت إلى العاصمة الألمانية “برلين” و نظرا الى أنه ينتمى الى الطبقة المتوسطة العليا فقد أنضم الى مدرسة “برلين” و تعلم الأساسيات المطلوبة لجميع الأطفال الألمان ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة و برع في العديد من المواد كالتاريخ و العلوم السياسية و في عام 1911 توفي والده تاركًا لعائلته ما يكفي من المال لمواصلة العيش بشكل جيد و على مدى السنوات الثلاث التالية واصل “ريتشارد سورج ” تعليمه و شعر بالملل إلى حد ما من دراسته مثل بعض من المراهقين المنتمين الى تلك الطبقة الا أن كل ذلك قد تغير بعد اغتيال الأرشيدوق “فرانز فرديناند” في 28 من يونيو عام 1914 و في غضون أسابيع كانت “ألمانيا ” تخوض غمار الحرب العالمية الأولى .
أقرأ أيضا : كيم فيلبي الجاسوس السوفيتي الذى أستطاع تقلد منصب مدير مكافحة الأنشطة السوفيتية داخل
و خلال تلك المرحلة أثار الحماس الذي خاضت به أوروبا الحرب الحس الوطني لشباب القارة و لم يكن ” ريتشارد سورج ” استثناءً منهم فبعد أن تم تجنيده في جيش القيصر و تدريبه لفترة استمرت ستة اسابيع فقط تم إرساله إلى “بلجيكا” و سرعان ما أطفأ جحيم الخنادق الشعلة الوطنية التي جلبت “سورج” من “برلين” إلى تلك الحياة البائسة التي كانت تمثل الجبهة الغربية و خلال ما كان متعمقا في الوحل و يرتجف في الهواء البارد الرطب أواخر الخريف بدأ يتساءل عن شرعية الحرب اضافة الى افكار أخرى بعد أن التقى فيها بفئات مختلفة من الناس منهم رجال لم يكن ليقضي وقتًا معهم في مجتمع “برلين” المرفه حيث كان بعضهم من الاشتراكيين و البعض الآخر من اليساريين الراديكاليين و عندما تحدثوا عن عائلاتهم و مقدار اضطهاد الطبقة العاملة بدأ ” ريتشارد سورج ” فى التحول البطئ الى الايمان بالأفكار الشيوعية و في عام 1915 أصيب خلال القتال الدامي بالقرب من “إيبرس” في “بلجيكا” و أُعيد إلى منزله في إجازة نقاهة لكنه سرعان ما تطوع للعودة إلى الجبهة ليرسل تلك المرة شرقا إلى أرض ميلاده حيث وصل إلى “روسيا” في الوقت المناسب للمشاركة في هجوم ضد القوات الروسية و مع تقدم الألمان رأى “سورج” الدمار الكامل الذي خلفته تلك الحرب على القرى و المدن و سكانهم و مرة أخرى شعر بالارتباك لأنه يقاتل من أجل وطن والده بينما فى نفس الوقت يدمر وطن والدته حيث استمرت المذبحة على الجبهة الشرقية حتى عام 1916 أصيب فيها ” ريتشارد سورج ” مرتين في تلك السنة حيث أرسله جرحه الثاني إلى مستشفى ميداني في “كونيجسبيرج” و هناك تلقى صحوته السياسية على يد طبيب اشتراكي راديكالي و ابنته الممرضة و استمد منهم الحماسة الثورية و أقنعوه بمتابعة دراسته و هو ما كان يمكنه القيام به أثناء إجازة النقاهة و بعد أن تعمق في التاريخ و الاقتصاد و الفلسفة أصبح مقتنعًا بأن الحرب لا معنى لها خاصة عندما بدأ الاقتصاد الألماني ينهار من حوله و قرر أيضًا أن الرأسمالية هي لعنة الشعب و لم يؤد فقدان شقيقين له على الجبهة إلا فى تقوية تلك القناعات .
و بينما كان ” ريتشارد سورج ” يدرس في جامعة “برلين” أطاحت الثورة البلشفية بالحكومة الروسية كما استقطب اضطراب المجتمع في وطنه روحه الثورية الجديدة و لذلك فبعد تسريحه من الجيش عام 1918 شق طريقه إلى مدينة “كيل” بغرض نشر الأيديولوجية الماركسية و انضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل و سرعان ما أصبح معلمًا للماركسية و عضوًا في الحزب الشيوعي الألماني عام 1919 و بينما كان يحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية في “هامبورج” برزت مواهبه الصحفية التي وفرت له مستقبلا غطاء لعمله الجاسوسى و التى تم صقلها أثناء عمله كمستشار لصحيفة الحزب الشيوعي في المدينة و بعد أن عمل في “آخن” كمساعد للأستاذ الشيوعي الدكتور “كارل جيرلاش” قرر “سورج” نشر رسالته الثورية من خلال العمل في مناجم الفحم في “راينلاند” الا أن ذلك لم يدم طويلاً بعد أن اكتشفت السلطات المحرض الشاب و في أوائل عام 1921 كان ” ريتشارد سورج ” كاتبًا تحريريًا سياسيًا لصحيفة شيوعية في “الرور” و كان الحزب الشيوعي في ذلك الوقت خاضعًا للتدقيق الدقيق من قبل المسؤولين الحكوميين و أصبح “سورج” منسقًا مهمًا فيه و خلال ذلك الوقت تزوج من “كريستيان جيرلاخ” الزوجة السابقة لرئيسه في “آخن” و في أبريل 1924 تم تعيينه مرافق شخصي للمندوبين السوفييت الذين حضروا مؤتمرًا شيوعيًا في “فرانكفورت” حيث كان ذلك نقطة تحول أخرى في حياته بعد أن وضعه هذا المنصب على اتصال بالعديد من الشيوعيين الروس البارزين الذين تأثروا بحماسته للحركة فضلاً عن ذكائه الواضح و تربيته و تأثروا كثيرًا بالشاب البالغ من العمر 29 عامًا لدرجة أنهم اقترحوا حضوره إلى “موسكو” و هي خطوة لم يجرؤ “سورج” ولا الحزب الشيوعي الألماني على رفضها و عند وصوله إلى العاصمة السوفيتية أواخر عام 1924 تم تكليفه بإنشاء شبكة استخباراتية و في عام 1925 انضم إلى الحزب الشيوعي السوفيتي و أصبح أيضًا مواطنًا سوفيتيًا و هي حقيقة لم يتم إبلاغ السلطات الألمانية بها لذلك احتفظ بجواز سفره الألماني و هو ما سيعود عليه بفائدة كبيرة في المستقبل .
و كانت الحياة في “موسكو” جيدة لسورج رغم أنها كانت سيئة لزواجه حيث كان لديه الوقت لكتابة كتابين و صقل مهاراته في لغات أخرى و خاصة الإنجليزية و الروسية و لكن شربه المستمر و مرافقته النساء جعل الحياة لا تطاق بالنسبة لزوجته التي تركته أخيرًا في خريف عام 1926 و عادت إلى “ألمانيا” ثم هاجرت في النهاية إلى الولايات المتحدة و مع رحيل “كريستيان” انغمس ” ريتشارد سورج ” في عالم الجاسوسية التى أصبحت شغفه الكامل و لكنه أدرك أن السلاح الحقيقي الوحيد المطلوب للنجاح في تلك اللعبة هو السرية المطلقة لذلك فمع حلول عام 1929 شعر أن أنشطته الشيوعية أصبحت واضحة جدًا لذلك و من أجل مصلحته حصل على الموافقة من رؤسائه على قطع علاقاته مع الشيوعيين و فقط كان عدد قليل من الرجال المختارين هم من كانوا يعرفون الأسباب و بعدها كانت الخطوة التالية لسورج و هي الانضمام إلى الإدارة السرية للجنة التنفيذية المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ثم قام رؤسائه بترتيب لقاء مع رئيس المخابرات السوفيتية الجنرال “بيرزين” و الذى تناقش معه عن أفضل الدول التى يستطيع العمل فيها بكفاءة و بعد تضييق نطاق خياراته قرر “ريتشارد سورج” أن “الصين” ستكون هى المكان المثالي له لممارسة عمله و طوال خريف و شتاء عام 1929 استعد “سورج” لمهمته بأقصى قدر من التركيز حيث كانت قصة تغطيته كجاسوس هى من الجوانب الحاسمة فى عمله نظرًا لأنه كان لا يزال مواطنًا ألمانيًا و لذلك فقد سافر إلى “برلين” وحصل على وظيفة ككاتب في مجله حيث كانت محطته التالية مدينة “مرسيليا” فى ” فرنسا ” حيث استقل منها سفينة رست فى يناير عام 1930 بمدينة “شنغهاي” الصينية و التى منها بدء عمله فى مجال الجاسوسية بشكل رسمى .
و كان من أوائل الأشخاص الذين التقى بهم ” ريتشارد سورج ” عند وصوله ” الصين ” زميلًا له فى المخابرات السوفيتية و هو فني الراديو “ماكس كلاوسن” و الذى عن طريقه كان يتم ارسال المعلومات المطلوبة و لمدة عامين تقريبًا بنى شبكته التجسسيه و تحرك بسهولة في الدوائر الاجتماعية العليا بالمدينة و سرعان ما أصبح المفضل في الحفلات و التجمعات الأخرى في الشؤون القنصلية و كان قادرًا على التعامل مع المستشارين الألمان للزعيم الصينى ” شيانج كاى شيك ” و جمع المعلومات المتعلقة بالمسائل العسكرية الصينية و فى أواخر عام 1930 تم تقديمه إلى الصحفي الياباني المؤيد للشيوعية “هاتزومي أوزاكي” و خلال الفترة التي قضاها في “الصين” أصبح مقتنعًا بأن “اليابان” هى من تمتلك مفتاح القارة الآسيوية بعد أن منحه “أوزاكي” الودود فرصة لفهم ليس فقط الثقافة اليابانية بشكل كامل و لكن أيضًا النفسية اليابانية و سرعان ما أصبح الرجلان صديقين يشربان و يعربدان مع النساء و بفضل ميوله المؤيدة للشيوعية تم تجنيد “أوزاكي” بسهولة و سرعان ما أصبح أحد كبار العملاء في شبكة “ريتشارد سورج” للتجسس و من خلال محادثاته الطويلة مع “أوزاكي” تمكن “سورج” من إرسال تقارير تحليلية للمخابرات السوفيتية حول أمور مثل التوسع الياباني في المنطقة و السياسات التي أثرت بشكل مباشر على “الاتحاد السوفيتي” و إلى جانب تعليم ” سورج ” تعقيدات الفكر و السياسة اليابانيين كان “أوزاكي” قادرًا أيضًا على تجنيد شخصين يابانيين آخرين سيكونان مهمين لجهاز استخبارات “سورج” و هم “شيجيرو ميزونو” و “تيكيتشي كاواي” و الذان أبقيا ” سورج ” على اطلاع دائم بتحركات الجيش الإمبراطوري الياباني في البر الرئيسي الآسيوي حيث كانت الأنشطة العسكرية اليابانية في “منشوريا” و شمال “الصين” تثير القلق في “موسكو” و أبقت تقارير “سورج” الجيش الأحمر على اطلاع على الوضع المتغير باستمرار و رغم استدعاء “أوزاكي” إلى “طوكيو” في يناير عام 1932 ظل “كاواي و ميزونو” و عملاء آخرين في شبكة التجسس يستمرون في تغذية “سورج” بالمعلومات والتى كان ينقلها بدوره إلى “موسكو” .
و نتيجة اقتناع رئيس المخابرات السوفيتية ” بيرزين ” بمدى نجاح ” ريتشارد سورج ” فى تنظيم شبكته الجاسوسية فقد طلب منه زيارة ” موسكو ” في ديسمبر عام 1932 و زارها بالفعل حيث كان “سورج” يتوقع مهمة في العاصمة السوفيتية لكن “بيرزين” أخبره أنه مطلوب مرة أخرى في الخارج و بعد عدة اجتماعات مع الجنرال و أعضاء آخرين من المخابرات و اللجنة المركزية تقرر أن تكون “طوكيو” مهمته التالية حيث كان على ” سورج ” أن يكرر أدائه في “شنغهاي” من خلال بناء شبكة تجسس داخل “اليابان” فى فترة كانت القومية اليابانية في صعود متزايد و كان الجيش الإمبراطوري و البحرية اللذان هزما “الصين” في عام 1895 و “روسيا” في عام 1905 يتطلعان إلى توسيع الحدود الشرقية للبلاد حيث كانت قد استولت بالفعل على جزء كبير من شمال “الصين” و “منشوريا” عندما تسلم سورج مهمته و كان الجيش الأحمر مجبرًا على تعزيز ما أصبح الآن بحكم الواقع حدودًا سوفيتية يابانية و لانشاء تغطية لوجوده فى ” اليابان ” أصبح ” ريتشارد سورج ” مرة أخرى صحفيًا و سافر إلى “برلين” لتأسيس أوراق اعتماده و حصل على وظيفة في صحيفة سياسية ألمانية يرأسها النازى المتحمس ” كورت فوينكل ” الذى كان قد قرأ بعض من مقالات ” سورج ” خلال عمله في “الصين” لذلك فقد قدم “فوينكل” خطاب توصية لسورج إلى كل من السفارة الألمانية و موظفي السفارة في “طوكيو” كما التقى ” سورج ” أيضًا بالدكتور “كارل هوشوفر” المؤسس المشارك للمجلة و الذي كان صديقًا شخصيًا لنائب الفوهرر “رودولف هيس” و الذى اعطاه خطاب توصية أخر للسفير الألماني في “اليابان” كما تلقى سورج أيضًا جواب توصية للعقيد “يوجين أوت” ممثل الجيش الألماني في “اليابان” حيث طلب منه الثقة في “سورج” و كان جواب التوصية ذلك تحديدا ذات أهمية مضاعفة لأنه في عام 1934 أصبح “أوت” الملحق العسكري الألماني لليابان و كبادرة أخيرة بارعة من ” ريتشارد سورج ” تقدم بطلب عضوية في الحزب النازي ثم توجه الي اليابان عن طريق “الولايات المتحدة” و وصل إلى “طوكيو” في سبتمبر عام 1933 و هو متسلحًا بتوصيات لا تشوبها شائبة و بدأ على الفور في استغلالها للتعريف عن نفسه سواء في السفارة الألمانية أو في وزارة الخارجية اليابانية و سرعان ما أكسبه ذكائه و سحره العديد من الأصدقاء .
و أصبح ” ريتشارد سورج ” رجلاً مشغولاً عام 1934 و كصحفي ألماني مخلص فى العلن و كجاسوس سوفيتي فى السر أعاد إحياء علاقته مع “أوزاكي” و جنده لمهمته الجديدة كما تم جلب “كاواي و ميزونو” إلى نفس الشبكة و كان المجند الآخر “يوتاكو مياجي” من “أوكيناوا” و عاش في “الولايات المتحدة” لعدة سنوات قبل أن يأمره الحزب الشيوعي بالذهاب إلى “اليابان” و خلال دوره كصحفي رافق “سورج” الظابط “أوت” إلى “منشوريا” في منتصف عام 1934 لزيارة القوات اليابانية المتمركزة هناك و بعد عودته كتب مقالًا يصف فيه أفكاره حول الرحلة و ما رآه و أعطاها إلى “أوت” الذي أرسلها بدوره إلى قسم الاقتصاد في هيئة الأركان العامة في “برلين” ليعجب بها رئيس القسم الجنرال “جورج توماس” و الذى طلب من “سورج” المساعدة في إعداد تقارير أخرى في المستقبل و بحلول منتصف عام 1935 كان “سورج” قد أمضى في “اليابان” عامين تقريبًا كان يعمل فيهم بجد على إنشاء شبكة من العملاء الذين يمكنهم الوصول إلى العديد من الإدارات العسكرية و الصناعية اليابانية المهمة و في مايو أستدعته “موسكو” بالذهاب اليها لتقديم تقرير شخصي عن تقدمه حيث طار الى “الولايات المتحدة” أولا و حصل على جواز سفر مزور من عميل شيوعي في “نيويورك” و منها توجه الى ” الاتحاد السوفيتى ” و عند وصوله إلى “موسكو” تحت اسم مستعار التقى بالجنرال “سيميون أوريتسكي” الذي خلف “بيرزين” فى الاستخبارات السوفيتية و الذى خلال الاجتماع كلفه بمهمة هامة حيث كان على “سورج” إبقاء “موسكو” على اطلاع دائم بنوايا “اليابان” السياسية و العسكرية فيما يتعلق بالاتحاد السوفيتي اضافة الى نواياها فيما يتعلق بالولايات المتحدة و المملكة المتحدة و الصين و طبيعة التطورات الجارية في العلاقات بين “ألمانيا” و “اليابان” و حالة الصناعات الثقيلة بها و قبل أن يغادر “سورج” طلب تعيين معالج الاتصالات اللاسلكية “كلاوسن” في “طوكيو” و التى وصلها في ديسمبر من نفس العام ليكمل الدائرة المقربة من “سورج” في “اليابان” .
و خلال عمل ” ريتشارد سورج ” وشبكته أرسل معلومات عن طريق مصادره الى الاتحاد السوفيتى عن احتمالية وجود تحالف عسكري ألماني فى القريب و أبقى “موسكو” على اطلاع دائم بالمحادثات و شارك بالفعل في بعض مناقشتها بفضل صديقه الحميم “أوت” حيث أعطت تلك المعلومات للجيش الأحمر صورة شاملة و دقيقة لما كان يجري و أستمرت شبكته فى تقديم التقارير خلال النصف الأول من عام 1937 و فى أوائل يوليو وقع حدث مشؤوم في جسر “ماركو بولو” في “الصين” حين أطلقت القوات اليابانية و الصينية النار على بعضها البعض خلال تدريب ياباني و سرعان ما تحول ذلك الى صراع واسع النطاق بين البلدين عرف بإسم “حادثة الصين” و انخرطت الشبكة في جمع المعلومات المتعلقة بعواقبها العسكرية و السياسية و أصبح تحليل “سورج” لقدرات ونوايا الخصوم مكونًا مهمًا في تشكيل الإستراتيجية السوفيتية في الشرق الأقصى و في 28 من أبريل عام 1938 تم تعيين “يوجين أوت” سفيراً ألمانيا فى ” اليابان ” و هذا معناه أن ” ريتشارد سورج” سيكون مطلعا على أعلى القنوات الدبلوماسية كما حدثت ضربة أخرى من حسن حظه في ذلك الصيف عندما تم تعيين “أوزاكي” في الحكومة اليابانية كمستشار لمجلس الوزراء حيث سمح كلا التعيينين لسورج بإرسال تدفق مستمر من المعلومات و الملاحظات إلى “موسكو” و التي من شأنها أن تصبح لا تقدر بثمن مع انجراف العالم نحو الحرب العالمية الثانية حيث ضرب الجيش الإمبراطوري الياباني القوات السوفيتية في “خالكين جول” في “منغوليا” يوم 11 من مايو عام 1939 و أرسل “سورج” على الفور عملاءه إلى موانئ مختلفة و كانت المخابرات السوفيتية على اطلاع دائم على قوة و تحركات القوات اليابانية و أرسل رسالة تفيد بأنه لا يعتقد أن نوايا “اليابان” كانت لبدء حرب واسعة النطاق مع “الاتحاد السوفيتي” حيث قوبل تحليله للنوايا اليابانية بالرفض في المستويات العليا للجيش الأحمر حيث قام الجنرال “جورجي جوكوف” بقيادة هجوم سوفيتى مضاد فى اغسطس و سبتمبر دمر على اثره القوات اليابانية التى وافقت على وقف اطلاق النار في 15 من سبتمبر و استخدم “سورج” الانتصار السوفيتي في محاولة لإقناع “أوت” و مسؤولي السفارة الآخرين بأن الجيش الأحمر قد تمت الاستهانة به و بقوته بشدة من قبل العديد من البلدان بما في ذلك “ألمانيا” و قد قوبل هذا الرأي بالاستنكار اما بالنسبة الى اليابانيين و نتيجة الهزيمة التى لحقت بهم في “خالكين جول” و اندلاع الحرب في أوروبا دفع ذلك “اليابان” الى رفع درجة التأهب الأمنى و مراقبة الأجانب حتى الأصدقاء الودودين حيث كان يتم تتبعهم من قبل أعضاء توكو (مكتب الشرطة العليا الخاصة) و لم يكن “سورج” استثناءً من ذلك حيث كان الرجل المكلف بتتبع الصحفي الألماني و التحقيق معه هو الظابط “هاروتسوجو سايتو” البالغ من العمر 28 عامًا .
و مع تولى ” سايتو ” مسئولياته اخذها على محمل الجد و تتبع معارف ” ريتشارد سورج ” و قام بتكوين صداقات مع مدبرة منزله وتتبعه إلى الحانات و غيرها من الأماكن الساخنة في المشهد الليلي في “طوكيو” و في غضون ذلك واصلت الشبكة جمع المعلومات الاستخبارية و أبقت “موسكو” على علم بقضايا مثل المناقشات البحرية الألمانية اليابانية و المحاولة اليابانية لتثبيت نظام دمية في “الصين” حيث أعجب معالجوه بالبيانات المرسلة من “طوكيو” لدرجة أنهم مددوا مهمة “سورج” لسنة أخرى و في مارس عام 1940 أبلغهم أن “ألمانيا” ستشن هجومًا على أوروبا الغربية في غضون أسابيع حيث كانت علاقاته الوثيقة مع “أوت” و المسؤولين الآخرين بالسفارة تؤتي ثمارها بشكل جيد كما تلقى معلومات تتعلق بالاتفاقية الثلاثية بين ألمانيا و اليابان و إيطاليا و التي أحالها إلى المخابرات السوفيتية حيث كان عام 1940 عامًا جيدًا للغاية بالنسبة لسورج رغم أن شبكته بدأت تتفكك من حوله ففي نوفمبر عام 1939 اعتقلت الشرطة اليابانية “ريتسو إيتو” أحد مساعدي “أوزاكي” و تم احتجازه و استجوابه لمدة عام تقريبًا قبل إطلاق سراحه كما كانت هناك أيضًا مشكلة مع ” كلاوسن ” مشغل اللاسلكى الذي لعب دورًا رئيسيًا في نقل رسائل ” ريتشارد سورج ” إلى “موسكو” حيث بدأ يشك في مبادئ الشيوعية و أصبح قلقًا بشأن عمله كجاسوس و مستاءًا من الطريقة المتعجرفة التي كان يعامله بها “سورج” و الذى بدأ فى التحدث معه كما و لو أنه سيدًا بدلاً من كونه مساويًا له و مع حلول ربيع عام 1941 بدأت العلاقة بين “الاتحاد السوفيتي” و “ألمانيا” في الانهيار و في أبريل عام 1941 أطلق “أدولف هتلر” العنان للوحدات المتمركزة في “بلغاريا” ضد “اليونان و يوغوسلافيا” و التي تم غزوها في غضون شهر حيث زرع ذلك شكا داخل ” ريتشارد سورج ” من أن الضحية التالية للعدوان النازي سيكون “الاتحاد السوفيتي” نفسه .
و بعد الغزو الألماني الناجح لمنطقة البلقان بدأ ” ريتشارد سورج ” في إرسال سلسلة من الرسائل إلى “موسكو” لدعم اعتقاده بأن “هتلر” سيهاجم قريبًا و أكدت عدة مصادر شكوكه بما في ذلك السعاة العسكريين و الملحق العسكري الألماني في “اليابان” الكولونيل “ألفريد كريتشمر” و في مايو عام 1941 أرسل “سورج” رسالة توضح متى سيأتي الهجوم و عدد فرق العدو التي ستشارك و لكن تم تجاهل الرسالة حيث كان يعتقد أن عدم اكتراث ” موسكو ” لتلك التحذيرات يرجع الى انه منذ أوائل عام 1941 كان “كلاوسن” المسئول عن الإرسال يقوم بتعديل تقارير “سورج” و في بعض الأحيان كان يحذف مقاطع كاملة و في أحيان أخرى كان يتعمد جعل التقرير بأكمله غامضًا إلى حد ما و لكن على أية حال ذهبت التحذيرات أدراج الرياح و في 22 من يونيو قام الجيش الألمانى بغزو ” الاتحاد السوفيتى ” و مع تراجع الجيوش السوفيتية على طول الجبهة ظل “سورج” و رفاقه يراقبون أي علامات على هجوم ياباني محتمل في “منشوريا” بعد أن كانت ” اليابان ” تعبئ قواتها حيث كان هناك اختلاف في الرأي بين الحكومة و الجيش حول مكان الضربة عما اذا تكون في الشمال ضد “الاتحاد السوفيتي” أو في الجنوب ضد “الهند” الصينية و جزر المحيط الهادئ كما انقسم عملاء “سورج” أنفسهم حول ذلك أيضا حيث “أفاد” أوزاكي أن الضربة الجنوبية كانت مؤكدة لكن لا يزال من الممكن توجيه ضربة ثانوية ضد “الاتحاد السوفيتي” و كان “مياجي” متأكدًا أيضًا من أن “اليابان” ستتوسع في الجنوب لكنه أشار إلى أن الجيش الإمبراطوري كان يبني أيضًا قواته في “منشوريا” ثم في أواخر أغسطس علم “أوزاكي” أن قيادة الجيش قررت عدم محاربة السوفييت و ذهب بنفسه إلى “منشوريا” لمدة أسبوعين في سبتمبر و عاد بتأكيد أن الجيش اليابانى ليس لديه خطط لشن هجوم شمالي و مسلحًا بمعلومات “أوزاكي” أمر ” ريتشارد سورج ” “كلاوسن” بإرسال عدة رسائل إلى “موسكو” يؤكد فيها أن حدود الشرق الأقصى لن تكون في خطر على الأقل خلال الفترة المتبقية من عام 1941 و هو ما جعل ” ستالين ” يشعر بالأمان الكافي لسحب فرق في شرق سيبيريا و نقلها الى المواجهة ضد الألمان و هو ما غير مسار الحرب على الجبهة الشرقية حيث كانت تلك المعلومات هى أعظم انتصارات ” سورج ” و لكنها كانت الانتصارات الاخيرة .
فى تلك الأثناء كانت الشرطة السرية اليابانية “توكو” تعمل بلا هوادة في تعقب الشيوعيين المشتبه بهم و في 28 من سبتمبر تم القبض على “تومو كيتاباياشي” و هى أحدى عميلات ” مياجى ” رجل ” ريتشارد سورج ” و أثناء استجوابها اعترفت بأن “مياجي” متورط في أنشطة تجسس و اعتقل “مياجي” في 11 من أكتوبر و بعد محاولة انتحار فاشلة صدم المحققين بكشفه عن العمل الذي قام به لصالح كل من “أوزاكي و سورج” حيث أذهل الحجم الهائل للعملية و توسع الشبكة كبار مسؤولي “توكو” عندما قرأوا تقارير الاستجواب و في 15 من أكتوبر ألقى القبض على ” أوزاكى ” تلاه اعتقال ” ميزونو ” في 17 أكتوبر و اعترف كلا الرجلين بصراحة عن أفعالهما مؤكدين قصة “مياجي” و وجهوا أصابع الاتهام مباشرة إلى ” ريتشارد سورج” الذي كان لا يزال تحت أعين المحقق “سايتو” الساهرة و في صباح اليوم التالي لاعتقال “ميزونو” انقضت عناصر “توكو” على منزل “كلاوسن” و احتجزته مع جهاز راديو و رسائل تم إرسالها بالفعل إلى “موسكو” و بعدها تم صيد العقل المدبر حيث دخل “سايتو” و اثنان آخران من رجال المباحث منزل “سورج” و اعتقلوه دون وقوع حوادث و في البداية أنكر تلك الاتهامات و احتج على ذلك مشيرا الى أنه كان صديقًا مقربًا للسفير الألماني و عضوًا معروفًا في الحزب النازي و كان لديه أصدقاء في مناصب رفيعة في كل من “اليابان و ألمانيا” و كان صحفيًا محترمًا و استمر على إنكاره لمدة ستة أيام حتى واجه اعترافات الآخرين بما في ذلك “كلاوسن” و في 25 من أكتوبر اعترف “سورج ” بأنه عضو في الحزب الشيوعي و جاسوس سوفيتى .
أقرأ أيضا : فيتالي يورتشينكو الجاسوس الروسي الذى تلاعب بالمخابرات السوفيتية و الأمريكية فى وقت واحد
و بينما واصل اليابانيين التحقيق في نطاق حلقة التجسس سُمح لسورج بالعمل على كتابة مذكراته لاشباع غروره الدائم حيث سرد فيها مهامه المختلفة و أفكاره فيما يتعلق بألمانيا و اليابان و الحرب و تمت محاكمته أخيرًا في عام 1943 مع “أوزاكي” كشريك له و في 11 من سبتمبر حُكم على “أوزاكي” بالإعدام و بالمثل على ” ريتشارد سورج ” في 29 من سبتمبر و استأنف الرجلان إدانتهما و رُفض الاستئنافان و في 7 من نوفمبر عام 1944 أُعدم الاثنان شنقا و سقط جسده و استغرق الأمر 19 دقيقة ليفارق الحياة و من المفارقات أن يوم تنفيذ الحكم كان الذكرى رقم 27 على سيطرة البلاشفة على “روسيا” اما بالنسبة الى الأخرون فقد مات “مياجي و ميزونو” في السجن و نجا “كاواي” من الاعتقال و تم تحرير “كلاوسن” من محبسه على يد الجيش الأمريكي و تم نقله جواً من “اليابان” إلى “الاتحاد السوفيتي” ثم شق طريقه إلى “ألمانيا الشرقية” حيث أصبح مرة أخرى شيوعيًا مخلصًا و من المفارقات أنه على الرغم من أن قصة ” ريتشارد سورج ” أصبحت معروفة لدى الغرب إلا أن السوفييت احتفظوا بغطاء من الصمت حوله حتى فترة طويلة بعد وفاة “ستالين” و لم تعترف “موسكو” علنًا بمساهماته إلا في 6 من نوفمبر عام 1964 معلنةً أن ” ريتشارد سورج ” هو أحد أبطال الاتحاد السوفيتي .