تعتبر رواية تشارلي و مصنع الشيكولاتة التي كتبها الأديب الكبير روالد دال واحدة من أبرز روايات أدب الطفل خلال القرن الماضي بعد أن نجحت في تحقيق مبيعات ضخمة و تحويلها لاحقا إلي فيلم سينمائي و لعل أكثر إنطباع سيتولد لديك حين تقرأ تلك الرواية أن المؤلف روالد دال شخص يتمتع بحس أدبي إحترافي من المؤكد أنه تم صقله منذ نعومة أظافره لكن الحقيقة عكس ذلك حيث كان طيارا مقاتلا شارك في الحرب العالمية الثانية و خلال إحدي الطلعات تعرضت طائرته للسقوط إلا أنه نجا من الحادث بأعجوبة ثم تحول بعد ذلك للعمل كجاسوس بريطاني يقوم بإغواء النساء الثريات و الشخصيات المرموقة داخل المجتمع الأمريكي و التقرب من عائلة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت من أجل جذب إنتباه الأميركيين إلى قضية الحلفاء خلال الحرب و مشاركتهم القتال ضد النازيين .
و بالنظر لقصة حياة ” روالد دال ” سوف نجد أنها إبداعية مثل قصصه حيث فيها ينتقل من صبي يعيش حالة حداد إلي جاسوس نشط ثم يتحول إلى كاتب لطيف حيث ولد عام 1916 لأبوين نرويجيين مغتربين يعيشان في ” بريطانيا ” و كانت أيامه الأولى قاتمة لأنه في سن الثالثة من عمره فقد أخته و أبيه في غضون أسابيع قليلة و حين وصل إلي التاسعة تم إرساله إلى مدرسة داخلية كان فيها مدير المدرسة يضربه بقسوة شديدة لدرجة أنه أصيب في إحدي المرات بالنزيف و قال عن تلك المرحلة في سيرته الذاتية “طوال حياتي المدرسية شعرت بالفزع من حقيقة أنه يُسمح للمعلمين و الأولاد الكبار بجرح الأولاد الآخرين و أحيانًا بشدة جدًا و لم أستطيع التغلب على ذلك الأمر قط.” و بعد تخرجه قرر ” روالد دال ” أن يسلك طريق السفر و المغامرة حيث عمل بمجال النفط الصناعي في ” تنزانيا ” ثم إنضم إلي القوات الجوية الملكية البريطانية بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية و رغم إقتراب طوله من المترين و هو ما يجعله بالكاد يجلس داخل قمرة القيادة إلا أنه كان طيار ماهر .
و مع حلول سبتمبر عام 1940 تمركز ” روالد دال ” في ” ليبيا ” لصد الإيطاليين و خلال رحلة غير قتالية سقط بطائرته في الصحراء الغربية بشمال أفريقيا و لحسن الحظ كتبت له النجاة بأعجوبة لكنه تعرض للإصابة بكسر في الجمجمة و كدمات في أنفه و ظهره و رغم معاناته من تلك الإصابات إلا أنه تمكن من سحب نفسه من الحطام قبل إنفجار خزان الوقود الخاص به و أمضى الأشهر الستة التالية في التعافي داخل مستشفى الأنجلو سويسري في مدينة ” الإسكندرية ” بمصر و عقب تعافيه و خروجه من المستشفي في أبريل عام 1941 دافع ” روالد دال ” و رفاقه في سلاح الجو الملكي البريطاني عن ” اليونان ” ضد الألمان خلال معركة أثينا و التي لم تنتهي بالشكل المرجو حيث قال في سيرته الذاتية أنه ذهب إلي هناك من قبل لقتال الإيطاليين و كان الأمر يتم بدون أي مشكلة و لكن حين قرر الألمان التمركز في ذلك المكان أصبح الوضع ميئوس منه لأنهم حاربوا باثنتي عشرة طائرة فقط مقابل سرب ألماني كامل و خلال المعركة تم تدمير خمس طائرات و مصرع أربعة طيارين بريطانيين .
و في النهاية لم تكن معركة أثينا هي التي دفعت ” روالد دال ” إلى التوقف عن القتال في الجيش بل الإصابات التي تعرض لها في ” ليبيا ” فخلال صيف عام 1941 و أثناء تواجده في ” حيفا ” بدأ يعاني من صداع منهك و لم يتمكن من الطيران لذلك عاد إلى ” بريطانيا ” و عاش مع والدته في ” باكينجهامشاير ” في الريف الإنجليزي بين مدينتي ” لندن ” و ” أكسفورد ” و رغم إصاباته إلا أنه كان قادرًا على مساعدة بلاده بطرق أخرى حيث كان ” روالد دال ” الطيار الوسيم الذي يتمتع بقدرات على سرد القصص الرجل المثالي لإقناع أمريكا الإنعزالية بالإنضمام إلى قوات الحلفاء في القتال ضد ” ألمانيا ” لذلك تم إرساله للعمل في السفارة البريطانية بالعاصمة الأمريكية ” واشنطن ” كمساعد ملحق جوي في ربيع عام 1942 أي بعد هجوم ” اليابان ” علي ميناء بيرل هاربر و هناك تم تجنيده كعميل سري لدي مكتب التنسيق الأمني البريطاني و على الفور تحولت حياته إلي دوامة من حفلات الكوكتيل و المغازلات الخفية مع النساء الأثرياء و الأقوياء إضافة إلي جمع المعلومات عبر الثرثرات السياسية.
و تقول ” أنطوانيت مارش هاسكل ” التي كانت صديقة ” روالد دال ” في ذلك الوقت أنه كان شخصا متعجرفًا جدًا مع نسائه لكنه أفلت من العقاب و أعتقد أنه كان ينام مع جميع النساء على السواحل الشرقية و الغربية الذين كان لديهم أكثر من 50 ألف دولار أمريكي سنويًا و كانت محقة في كلامها لأنه دخل في علاقات مثل ” جيمس بوند ” مع سيدات ثريات مثل ” ميليسنت روجرز ” و ممثلات مثل ” أنابيلا ” و سياسيين مثل عضوة الكونجرس ” كلير بوث لوس ” كما كان قادرا علي شق طريقه إلى قمة الهرم السياسي و قضاء بعض الوقت مع عائلة الرئيس الأمريكي ” فرانكلين روزفلت ” حيث كان يقضي معهم عطلات نهاية الأسبوع في منزلهم بهايد بارك ثم يرسل الملاحظات إلي مكتب التنسيق الأمني البريطاني و يبقيهم على إطلاع بالطريقة التي تهب بها الرياح من واشنطن كما ظهر نائب الرئيس ” هنري والاس ” و السيناتور ” هاري ترومان ” في دائرته الإجتماعية أيضا لذلك كان من المحتمل أن إسميهما قد وردا في تقاريره.
و علي الرغم من مغامراته المتهورة و مهمته المتمثلة في إقناع ” الولايات المتحدة ” بالمشاركة بشكل أكبر في الحرب العالمية الثانية إلا أن ” روالد دال ” لم يخفي أنه كان من المعادين للسامية و كان مؤمنا بوجود عصابة من الممولين اليهود الأقوياء و الأغنياء الذين يديرون العالم و ربما حتى تعاطف مع النازيين حيث قال في مقابلة عام 1983 بأن هناك سمة في الشخصية اليهودية تثير العداء و أن شخص مثل ” هتلر ” لم يهاجمهم دون سبب حتى أنه تبنى الرؤية القائلة بأن المصرفيين اليهود الأمريكيين الأقوياء كانوا مسؤولين عن إدارة ” الولايات المتحدة ” على كل المستويات مدعيًا أن البلاد تخضع لسيطرة كاملة من قبل المؤسسات المالية اليهودية الكبرى هناك .
إقرأ أيضا : الجاسوسة جوليا تشايلد التي كان لعملها الإستخباري الفضل في أن تكون أشهر طاهية في أمريكا
و رغم إنشغال ” روالد دال ” في عمله العسكري و الأمني الخاص بجمع المعلومات و إغواء الأقوياء داخل المجتمع الأمريكي إلا أنه كان لا يزال يجد وقتا لهوايته و هي الكتابة حيث كان يكتب المقالات بإنتظام في عدد من الصحف و في عام 1961 نشر روايته ” جيمس و الخوخة العملاقة ” و هي قصة صبي تعرض للإساءة يبحر في فاكهة عملاقة سحرية مع مجموعة من الحشرات الناطقة للعثور على مغامرة في أمريكا ثم تبعها برواية ” تشارلي و مصنع الشيكولاتة ” و لكن رغم إنخراطه في أدب الطفل إلا أن ” روالد دال ” أهتم أيضا بالكتابة بما يليق بجاسوس سابق في الستينيات حيث كتب سيناريو فيلم جيمس بوند “أنت تعيش مرتين فقط” و هو الفيلم الذي يظهر فيه ” بوند ” و هو يحاول الإندماج في بلد أجنبي للتأثير على السياسة الواقعية و الذي كان مثالاً جيدًا على قيام ” روالد دال ” بكتابة ما يعرفه طوال رحلته في عالم الجاسوسية إلي أن توفي عام 1990 عن عمر يناهز 74 عاما .