تعد مدينة شيكاغو الواقعة في ولاية إلينوي الأمريكية ثالث أكبر المدن في الكثافة السكانية داخل الولايات المتحدة بعد مدينتي نيويورك و لوس أنجلوس كما تعتبر مركزًا دوليًا للتمويل و الثقافة و التجارة و الصناعة و التعليم و التكنولوجيا و الإتصالات و النقل إضافة إلي أنها المركز المالي للغرب الأوسط الأمريكي بأكمله و نظرا لأهميتها فهي تلقي رواجا سياحيا كبيرا بأعداد تقدر بالملايين سنويا للإستمتاع بمشاهدة معالمها و ناطحات سحابها و رغم كل تلك الحداثة في المدينة إلا أنه لا أحد يعرف أنها منذ نحو 160 عاما تقريبا تم تنفيذ مخطط هندسي مذهل بها ألا و هو رفع مدينة شيكاغو بأكملها شاملة المباني و الشوارع في الهواء بإرتفاعات تتراوح ما بين متر و نصف إلي أربعة أمتار بإستخدام رافعات و مسامير لولبية هيدروليكية و تحت إشراف أمهر المهندسين في تلك الحقبة .
بدأت تلك القصة في منتصف القرن التاسع عشر حين لم تكن “شيكاغو” هي تلك المدينة الحديثة و المشرقة كما هي اليوم و لكنها كانت مبنية علي مستنقع فوق بحيرة ميتشيجان على إرتفاع متر و نصف فقط و خلال تأسيسها لم يتم الإنتباه إلي كيفية ضمان تصريف المياه و الصرف الصحي بشكل صحيح لذلك تحولت الشوارع إلى مستنقعات من الطين و تقطعت السبل بالتنقل عبر أركانها بإستخدام الخيول و العربات و البشر على حد سواء و تشكلت برك من المياه الراكدة في جميع أنحاء المدينة حيث تسببت تلك البيئة الملوثة في ظهور مشاكل تتعلق بالنظافة و الصحة بما في ذلك تفشي وباء الكوليرا عام 1854 و الذي أودى بحياة فرد من كل 20 من السكان و بدا الأمر كما و لو أن المستنقع الذي أقيمت عليه المدينة يحاول استعادة أراضيه مرة أخري .
و نظرا لإستفحال تلك المشكلة بدأ القائمين علي المدينة في البحث عن حلول و أجريت عدد من المحاولات من بينها لصق الشوارع بالأخشاب إلا أنها كانت تحرز فشلا ذريعا و عليه قررت المدينة أن الحل الوحيد طويل الأجل هو تركيب نظام للصرف الصحي و تصريف مياه الأمطار و لكن في مدينة ضخمة بحجم “شيكاغو” لم يكن ذلك عملاً سهلاً حيث تحتاج المجاري إلى الذهاب تحت الأرض ليتم تصريفها و كانت المدينة بالكاد فوق منسوب المياه الجوفية و بطبيعة الحال فإن المجاري تحت الأرض لا يمكن أن تعمل على هذا المستوى و أصبح أمام المسئولين عن المدينة خيارين و هو إما التخلي عن تلك المدينة تماما و البحث عن مكان جديد لتأسيس مدينة جديدة يتم العيش فيها أو رفع المدينة بالكامل لإفساح المجال لنظام الصرف الصحي .
و تم الإتفاق علي الخيار الثاني و من أجل تنفيذه وضعت خطة تقتضي بتركيب المجاري تحت الشوارع من خلال رفع الشوارع ذاتها لبضعة أمتار لأعلي و هو ما سيسمح بخلق مساحة في الأسفل يتم فيها وضع تلك المسارات و لكن رغم بساطة ذلك الطرح إلا أنه عمليا في حال زيادة إرتفاع الشوارع فسوف تصبح المباني المحيطة بها نصف مدفونة فجأة أو على الأقل ستحتاج للصعود إلى الشارع من الباب الأمامي و هو أمر غير منطقي و لذلك كان من الضروري رفع تلك المباني أيضا بالتزامن مع الشوارع .
و على مدار العقدين التاليين تم رفع المباني بإستخدام البراغي الرافعة و ألات الرفع الهيدروليكي العرضي و نحن لا نتحدث عن المنازل فقط و لكن تم رفع مباني حجرية كاملة في الهواء و خلال عمل المهندسين الدؤوب توصلوا إلي أساليب جديدة تمكنهم من رفع كتلة كاملة مرة واحدة من خلال وضع 6000 رافعة لولبية تحت كتلة فدان واحد بين شوارع ” ليك ” و ” كلارك ” و ” لاسال ” و يقدر وزنها بحوالي 35000 طن و نجحوا في رفع كل شيء على مدار أربعة أيام من مباني و أرصفة و شوارع و كانت تتم عملية الرفع بشكل تدريجي بما يكفي بحيث يتم رفع المدينة بأكملها و ضمان إستمرار الأعمال في جميع المباني بنفس التوقيت .
و لم يمر كل مبنى في مدينة ” شيكاغو ” بهذه العملية ليس لأنه كان أمرا صعبًا و لكن لأن بعض من المباني و خاصة الخشبية منها لم تعد تتناسب مع المكان الذي تتجه إليه المدينة نحو التطوير و الحداثة و لذلك قاموا بنقلها إلي أماكن أخري من خلال بكرات تم جرها بواسطة الخيوال إلى أطراف المدينة و بالطبع لم يرغب أصحاب المشاريع التجارية العاملة في هذه المباني في تفويت فرصة عملهم لذلك استمر الكثيرين منهم في خدمة العملاء حتى عندما كانت المباني تنقل عبر الشارع .
أقرأ أيضا : جورج باركر النصاب الأمريكي الذى باع جسر بروكلين ثلاث مرات
و رغم غرابة الخطة و جرأتها إلا أنها نجحت في النهاية و نهضت مدينة “شيكاغو” من وسط الوحل و لكن للأسف لم تستمر المباني التي رفعوها لفترة طويلة ليس بسبب أي قصور في عملية الرفع و لكن بسبب حريق شيكاغو العظيم الذي شب عام 1871 و أستمر ليومان و فيه تم تدمير وسط المدينة بأكملها بعد 16 عامًا فقط من تحديد الخطة و لكن علي أي حال إذا قررت يوما زيارتها حاليا و تجولت في وسط المدينة و نظرت إلى كل الأعمال الهندسية الرائعة في المباني من حولك و العديد من الجسور عبر نهر شيكاغو و الطرق السريعة تحت الأرض عليك أن تعلم أن كل ما سبق لم يكن ليتحقق إلا بسبب خطة جريئة في خمسينيات القرن التاسع عشر و التي مهدت الطريق لمدينة اليوم .