رغم تشعب الحرب الباردة و وجودها فى العديد من أرجاء العالم الا أن جدار برلين الذى قام بفصل العاصمة الألمانية الى شطرين يعتبر واحد من أقوى رموزها و أكثرها ديمومة و ذلك بعد أن بدأت الحكومة الشيوعية التى تحكم ألمانيا الشرقية بتشييده فى مطلع الستينيات بإستخدام الخرسانة المسلحة و الأسلاك الشائكة و وضع نقاط تفتيش بغرض منع الفاشيين الغربيين من دخول بلادهم و تقويض الدولة الاشتراكية على حد زعمهم و لكن فى واقع الأمر كان لهدف وقف الانشقاقات الجماعية من الشرق إلى الغرب حيث ظل ذلك البناء صامدا لما يقرب من 28 عاما حين أعلن رئيس الحزب الشيوعي لألمانيا الشرقية أن مواطنيه يمكنهم عبور الحدود متى شاءوا و نتيجة تلك التصريحات في تلك الليلة اجتاحت حشود منتشية الجدار و عبروا إلى برلين الغربية بينما جلب آخرين المطارق و المعاول و بدأوا في تحطيم الحائط نفسه و كان ذلك الأمر بمثابة مقدمة توحيد ألمانيا فى دولة واحدة و بدء العد التنازلى لانهيار الاتحاد السوفيتي .
تقسيم برلين
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حدد مؤتمرا الحلفاء للسلام في مدينتى يالطا و بوتسدام مصير الأراضي الألمانية حيث قاموا بتقسيم الدولة المهزومة إلى أربعة قطاعات ذهب منها الجزء الشرقي من البلاد إلى الاتحاد السوفيتي ( روسيا حاليا ) ليقيم دولة ألمانيا الشرقية و التى عرفت بإسم ” جمهورية ألمانيا الديموقراطية ” بينما ذهب الجزء الغربي إلى “الولايات المتحدة” و “المملكة المتحدة” و “فرنسا” الذين أقاموا دولة ألمانيا الغربية التى عرفت بإسم ” جمهورية ألمانيا الإتحادية ” و على الرغم من أن العاصمة “برلين” كانت تقع بالكامل داخل الجزء السوفيتي من البلاد على بعد أكثر من 160 كيلومتر من الحدود بين مناطق الاحتلال الشرقية و الغربية الا أن اتفاقيات يالطا و بوتسدام قسمت المدينة إلى قطاعات متشابهة ليستولى السوفييت على النصف الشرقي بينما استولى الحلفاء الآخرون على النصف الغربي و كان ذلك في يونيو عام 1945 .
الحصار و الأزمة
و نتيجة تلك الاتفاقيات التى وقعت بين الحلفاء كان وجود برلين الغربية كمدينة رأسمالية واضحة في عمق ألمانيا الشرقية الشيوعية شيئا مثل العظمة في الحلق السوفيتي على حد وصف الزعيم “نيكيتا خروتشوف” لذلك بدأ السوفييت فى المناورة لطرد الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا من المدينة إلى الأبد لذلك و في عام 1948 فرض السوفييت حصارا على برلين الغربية يهدف إلى تجويع سكان تلك المدنية و الحلفاء الغربيين و اخراجهم منها و لكن على عكس التوقعات السوفيتية و بدلاً من التراجع قامت “الولايات المتحدة” وحلفاؤها بتزويد قطاعاتهم من المدينة بالمؤن عن طريق الجو و استمر هذا الجهد المعروف باسم جسر برلين الجوي لأكثر من عام تم فيها تسليم أكثر من 2.3 مليون طن من الطعام و الوقود و السلع الأخرى إلى برلين الغربية و عندما وجد السوفييت أنه لا فائدة من الحصار قاموا بإلغاءه عام 1949.
و بعد عقد من الهدوء النسبي اندلعت التوترات مرة أخرى عام 1958 و على مدار السنوات التالية أحرج السوفييت من التدفق اللامتناهي للاجئين الألمان المنتقلين من الشرق إلى الغرب الأقل قمعا و الأكثر ثراء و الذين وصل اعدادهم الى ما يقرب من 3 ملايين شخص منذ نهاية الحصار و كان كثير منهم من العمال الشباب المهرة مثل الأطباء و المعلمين و المهندسين و هو ما شكل تهديدا لقوام دولة ” ألمانيا الشرقية ” و أقيمت القمم و المؤتمرات و المفاوضات الأخرى لمناقشة تلك المشكلة الملحة الا انهم لم يتوصلوا الى أى حلول حيث استمر تدفق اللاجئين و في يونيو عام 1961 غادر حوالي 19000 شخص ألمانيا الشرقية عبر برلين و في الشهر التالي فر 30 ألف شخص و في أول 11 يومًا من شهر أغسطس عبر 16000 من الألمان الشرقيين الحدود إلى برلين الغربية و في 12 أغسطس تبعهم حوالي 2400 و هو أكبر عدد من المنشقين على الإطلاق الذين غادروا ألمانيا الشرقية في يوم واحد .
بناء جدار برلين
و نتيجة لما سبق و في تلك الليلة أعطى رئيس الوزراء السوفيتي “خروتشوف” الإذن لحكومة “ألمانيا الشرقية” بوقف تدفق المهاجرين عن طريق إغلاق حدودها إلى الأبد و في غضون أسبوعين فقط كان جيش “ألمانيا الشرقية” و قوات الشرطة و عمال البناء المتطوعين قد أكملوا بناء الأسلاك الشائكة المؤقتة و الجدار الخرساني الذى عرف بإسم “جدار برلين” و الذي فصل جانبًا من المدينة عن الآخر حيث كان قبل بناء الجدار يمكن لسكان “برلين” على جانبي المدينة التنقل بحرية إلى حد ما و عبور الحدود بين الشرق و الغرب للعمل و التسوق و الذهاب إلى المسرح و السينما و كانت تقل القطارات و خطوط مترو الأنفاق الركاب ذهابًا و إيابًا و لكن بعد بناء الجدار الذى وصل ارتفاعه لأربعة أمتار و بطول يصل الى 155 كيلومتر على امتداد المدينة و مكون من جدارين تم فصلهم عن طريق ممر أرضي شديد الحراسة و ملغوم يُعرف باسم “شريط الموت” فقد أدى إلى تقسيم الأحياء و فصل العائلات بين عشية و ضحاها و فقدان الوظائف و أصبح من المستحيل الوصول من برلين الشرقية إلى الغربية إلا من خلال واحدة من ثلاث نقاط تفتيش في هيلمستيدت (نقطة تفتيش ألفا) و دريليندين (نقطة تفتيش برافو) و في وسط برلين (نقطة تفتيش تشارلي) و في نهاية المطاف أقامت ألمانيا الشرقية 12 نقطة تفتيش على طول الجدار و ابراج للمراقبة و في كل نقطة تفتيش يقوم جنود ألمانيا الشرقية بفحص الدبلوماسيين و المسؤولين الآخرين قبل السماح لهم بالدخول أو المغادرة و نادرًا ما يُسمح للمسافرين من برلين الشرقية و الغربية بعبور الحدود .
جدار برلين من 1961 و حتى 1989
و نجح جدار برلين فى ايقاف تدفق اللاجئين من الشرق إلى الغرب و نزع فتيل أزمة برلين و رغم ان الرئيس الأمريكى ” جون كينيدى ” لم يكن سعيدًا بذلك الا أنه أقر أن الجدار هو جحيم أفضل بكثير من الحرب و بعد عامين تقريبًا من تشييده قام “كينيدي” بزيارة الجدار و القاء خطبة أمامه وسط حشد مكون من أكثر من 120 ألف شخص على بعد خطوات من بوابة براندنبورج و حينها قال جملته الشهيرة ” أنا برليني ” .
و إجمالًا منذ بناء جدار برلين و حتى هدمه قُتل ما لا يقل عن 171 شخصًا أثناء محاولتهم تجاوزه من أسفله أو حوله و رغم التشديدات الأمنية على ذلك الجدار الا انه تمكن أكثر من 5000 ألماني شرقي (بما في ذلك حوالي 600 من أفراد حرس الحدود) من عبور الحدود بالقفز من النوافذ المجاورة للجدار أو تسلقه و تجاوز الأسلاك الشائكة او من خلال استخدام بالونات الهواء الساخن أو الزحف عبر المجاري أو قيادة السيارات عبر الأجزاء غير المحصنة بسرعات عالية و اختراق الاستحكامات الأمنية .
سقوط جدار برلين
و في عام 1989 و نتيجة التغييرات السياسية في أوروبا الشرقية و الاضطرابات المدنية فقد تم الضغط على حكومة ألمانيا الشرقية لتخفيف بعض من لوائحها الخاصة بالسفر إلى ألمانيا الغربية و بحلول يوم 9 من نوفمبر أعلن المتحدث باسم الحزب الشيوعي في برلين الشرقية ” جونتر شابوسكي ” عن تغيير في علاقات مدينته مع الغرب و قال إنه اعتبارًا من منتصف ليل ذلك اليوم يحق لمواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية حرية عبور حدود البلاد لكنه لم يوضح أن بعض اللوائح ستظل سارية لذلك و فور سماع تلك التصريحات توافد سكان برلين الشرقية و الغربية على الحائط و شربوا البيرة و الشمبانيا و هتفوا “افتحوا البوابة ” و عند منتصف الليل اجتاحوا الحواجز المنتشرة عبر الجدار .
و فى نهاية الأسبوع زار أكثر من مليوني شخص برلين الغربية قادمين من الشرقية و كتب أحد الصحفيين ذلك الحدث بأنه “أعظم حفلة شارع في تاريخ العالم” و بدء بعض الناس فى استخدام المطارق و المعاول لهدم أجزاء من الجدار و أصبحوا يُعرفون باسم “نقارى الخشب” و سرعان ما تم استخدام الرافعات و الجرافات لهدمه قسمًا بعد قسم الى أن تلاشى الجدار و توحدت “برلين” لأول مرة منذ عام 1945 و كتب أحد سكان برلين على قطعة بالجدار بإستخدام الاسبراى “اليوم فقط انتهت الحرب حقًا ” و بعدها تم إعادة توحيد ألمانيا الشرقية و الغربية رسميًا في 3 أكتوبر عام 1990 أي بعد عام تقريبًا من سقوط جدار برلين .