الجميع قد يخطأ لأننا بشر و لكن فى بعض المهن قد تكون تلك الأخطاء كارثية خاصة اذا كانت فى المجالات الهندسية أو الطبية نظرا لقدرتها على تهديد حياة البشر و إذا تحدثنا عن المجال الطبى سوف نجد أن الخطأ فى التشخيص قد يؤدى الى خطأ فى العلاج و هو ما يصلنا الى نتائج غير محمودة و لعل ذلك هو ما دفع أحد الأطباء فى أواخر الستينيات الى إجراء واحدة من التجارب الغريبة و الفريدة من نوعها عرفت بإسم تجربة روزينهان لإثبات أنه فى بعض الحالات يكون من الصعب على الأطباء التفريق بين العقلاء و المجانين في مستشفيات الأمراض النفسية و ذلك بعد أن ذهب برفقة سبعة أشخاص عاقلين و هم متخفين على هيئة مرضى نفسيين و أقاموا بمستشفيات الطب النفسي فى الفترة من عام 1969 و حتى 1972 و تصرفوا مثل المرضى تماما لمحاولة التأكد عما إذا كان الأطباء بأمكانهم معرفة أنهم كانوا يدعون الجنون أم لا حيث كانت النتائج صادمة .
بدأت قصة “تجربة روزينهان” فى “الولايات المتحدة” عام 1969 بعد أن دخل ثمانية أشخاص عاقلين فى خمس ولايات إلى 12 مستشفى للأمراض النفسية المختلفة جميعها باستثناء ولاية واحدة تديرها الحكومة الفيدرالية و تألف هؤلاء الفريق من ثلاثة نساء و خمسة رجال بما في ذلك البروفسير “روزينهان” نفسه الذي كان يعمل طبيبا نفسيا و رساما و اتخذ المشاركين أسماء و مهن مستعارة و تم توجيههم لتحديد مواعيد للذهاب الى المستشفيات و الادعاء أنهم كانوا يسمعون أصواتًا غريبة و من خلال تلك الأعراض تم إدخال كل واحد منهم إلى المستشفى التى تواصل معها حيث مثل ذلك الأمر مفاجأة كبيرة لفريق التجربة الذين ظنوا أنهم كانوا لن يقبلوا فى تلك المستشفيات بهذه السهوله و لم تتوقف المفاجئات عند ذلك فحسب بل تم تشخيصهم جميعا بإصابتهم بمرض انفصام الشخصية باستثناء واحد كان تشخيصه “ذهان الهوس الاكتئابي” رغم أن كل ما فعلوه هو التظاهر بالهلوسة السمعية و لم تظهر عليهم أي أعراض أخرى و لم يخترعوا أي تفاصيل خاطئة عن حياتهم باستثناء أسمائهم و مهنهم و مع ذلك تم تشخيصهم باضطرابات نفسية خطيرة .
و بمجرد دخول أعضاء فريق ” تجربة روزينهان ” الى المستشفيات و تشخيصهم أصبحوا بمفردهم و لم يعرف أحد متى يعتبرهم الأطباء مناسبين للخروج أو يكتشفون بأنهم يدعون المرض حيث كان قلقهم الأكبر فى بداية التجربة هو تعرضهم على الفور لإحراج كبير لسهولة اكتشاف إدعائهم الا أنه و كما اتضح كان قلقا ليس فى محله و كتب “روزينهان” بأنه كان هناك فشل موحد في التشخيص و لم يكتشف طاقم المستشفى أنهم كانوا يدعون المرض على الإطلاق و لم تظهر على المرضى المزيفين أي أعراض جديدة بل أبلغوا عن اختفاء الأصوات الغريبة و رغم ذلك استمر الأطباء و الموظفين في الاعتقاد بأن تشخيصهم كان صحيحًا حتى أن طاقم المستشفى حين شاهد هؤلاء المرضى فى أنهم بدأوا فى التعامل بسلوكيات طبيعية ظنوا ان ذلك فى حد ذاته تصرفات غير طبيعية فعلى سبيل المثال أمر “روزينهان” المرضى المدعين بتدوين ملاحظات حول تجاربهم و كتبت إحدى الممرضات المشرفات عليهم في تقريرها اليومي أن “المريض يشارك في كتابة سلوكه” .
أقرأ أيضا : فرقة السموم .. الرجال الذين سمموا أنفسهم عمدًا لخدمة الطب
و كان ذلك أمر غريب حيث بدا من الواضح من ” تجربة روزينهان ” أن الأطباء و الموظفين يفترضون أن تشخيصهم الخاطئ بالأساس كان صحيحًا و عليه فهم يعيدون صياغة كل ما لاحظوه بحيث يكون متناسقًا مع هذا التشخيص حيث كتب ” روزينهان ” تعليقا على تقرير الممرضة :
“بالنظر إلى أن المريض في المستشفى يجب أن يكون مضطربًا نفسياً و نظرًا لكونه مضطربًا يجب أن تكون الكتابة المستمرة مظهرًا سلوكيًا لهذا الاضطراب و ربما مجموعة فرعية من السلوكيات القهرية التي ترتبط أحيانًا بالفصام “.
و كان من أمثلة ” تجربة روزينهان ” التى كشفت أخطاء تشخيص الأطباء هو أن أحد المرضى المدعين كان رجلاً وصف حياته المنزلية بأنها غير مستقرة سواء كانت مع زوجته أو أطفاله و لكن لأنه تم إدخاله إلى مستشفى للأمراض النفسية و شُخصت إصابته بالفصام ذكر تقرير خروجه أنه كان مصاب بذلك المرض و تعافى منه و لم يأخذ فى الإعتبار ظروفه الأسريه و انه ربما عند أبتعاده عن تلك الضغوط بدء فى التحسن .
و بالإضافة إلى العناد فى تمسك الأطباء بتلك التشخيصات فإن طاقم المستشفى كان يعالج المرضى المدعين خلال ” تجربة روزينهان ” ببرود حيث تراوحت التفاعلات مع الموظفين من عدم الاهتمام في أحسن الأحوال إلى التعسف في أسوأها و حتى عندما حاول المرضى المزيفين التعامل مع الموظفين بطريقة ودية من خلال المحادثات كانت الردود روتينية و الغريب أنه بينما كان يعالج طاقم المستشفى المرضى المدعين بشكل سيئ و الذين لم يدركوا أبدًا أنهم كانوا مدعيين المرض كان المرضى الحقيقيين يكتشفون تلك الحقيقة حتى أن بعضهم قد ذكروا لهم صراحة قائلين “أنت لست مجنونًا .. أنت صحفي أو باحث ” و مع ذلك لم يكن الأطباء حكماء أبدًا حيث كان يتم إطلاق سراح المرضى المدعين في النهاية و تراوحت فترات الإقامة من 7 إلى 52 يومًا بمتوسط 19 يومًا و جميعهم خرجوا و هم لديهم نفس التشخيص الذي تم قبولهم من خلاله و مع ذلك تم الإفراج عنهم لأن الأطباء قرروا أن حالتهم هادئة نسبيا .
و دون ” روزينهان ” ملاحظة على خروجهم قائلا :
“لم يتم طرح أي سؤال في أي وقت خلال أي فترة دخول إلى المستشفى حول إدعاء أي مريض منهم و لا توجد أي مؤشرات في سجلات المستشفى خلال تجربة روزينهان على أن حالة المريض الكاذب كانت موضع شك و بدلاً من ذلك فإن الأدلة قوية على أن المريض المزيف الذي تم وصفه بأنه مصاب بالفصام كان عالقًا بهذه التسمية و إذا كان المريض المزيف سيخرج فيجب أن يكون بطبيعة الحال لهدوئه و ليس لأنه عاقلًا من وجهة نظر المؤسسة “.
و عليه فقد خلص ” روزينهان ” في تقريره بأنه من الواضح أنه لا يستطيعون التمييز بين العقلاء و المجانين في مستشفيات الأمراض النفسية و وضع نظرية مفادها أن رغبة المستشفيات في قبول الأشخاص العاقلين ناتج عن ما يُعرف باسم “النوع 2” أو “الخطأ الإيجابي الكاذب” و الذي ينتج عنه رغبة أكبر في تشخيص الشخص السليم على أنه مريض أكثر من الشخص المريض على أنه سليم و هذا النوع من التفكير مفهوم إلى حد ما و لكن عادة ما يكون للفشل في تشخيص شخص مريض عواقب وخيمة أكثر من التشخيص الخاطئ للشخص السليم و مع ذلك فإن عواقب هذا الأخير يمكن أن تكون وخيمة أيضا .
و مع نشر ” تجربة روزينهان ” أحدثت ضجة كبيرة و صدم الناس من عدم موثوقية التشخيصات النفسية و السهولة التي تم بها خداع موظفي المستشفى ومع ذلك انتقد بعض الباحثين “تجربة روزينهان” مشيرين إلى أن الإبلاغ غير الأمين للمرضى الكاذبين عن أعراضهم جعل التجربة غير صالحة لأن التقارير الذاتية للمرضى هي أحد الركائز الأساسية التي بنيت عليها التشخيصات النفسية لكن باحثين آخرين أكدوا استنتاجات “روزينهان” و نتائجه حتى أن البعض قام بتكرار تجربته جزئيًا و توصل إلى استنتاجات مماثلة .
و بالطبع لم تكن “تجربة روزينهان ” هى الاولى التى تسلط الضوء على الجانب المظلم فى نظام الصحة العقلية داخل ” الولايات المتحدة ” ففى عام 1887 ذهبت الصحفية “نيلي بلي” متخفية الى مستشفى للأمراض النفسية و نشرت النتائج التي توصلت إليها تحت عنوان ” عشرة أيام فى منزل الجنون ” و خلصت إلى أن العديد من المرضى الآخرين كانوا “عاقلين” مثلها تمامًا و قد تم إرسالهم إلى ذلك المكان بشكل غير عادل و نتج عن عمل “بلي” تحقيق و تشكيل هيئة كبرى حاولت إجراء فحوصات نفسية أكثر شمولاً على المرضى في محاولة للتأكد من أن هؤلاء الأشخاص عاقلين و قد تم إيداعهم في المؤسسات و بعد ما يقرب من قرن من الزمان فعل ” روزينهان ” المثل و أظهر أن مهنة الصحة العقلية لا يزال أمامها طريق طويل لكي تتمكن من التمييز بشكل موثوق و متسق بين العقلاء و المجانين .
و من ناحيتهم و بعد نشر ” تجربة روزينهان ” غيرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات العقلية و قدم الإصدار الجديد من الدليل الذي نُشر في عام 1980 قائمة أكثر شمولاً بالأعراض لكل مرض عقلي و ذكر أنه من أجل تشخيص مريض مصاب باضطراب معين يجب أن تظهر أعراض متعددة بدلاً من واحدة فقط و استمرت هذه التغييرات في الدليل حتى يومنا هذا على الرغم من أنه لم يتم تحديدها بشكل قاطع عما إذا كانت قد نجحت في منع التشخيصات الخاطئة .
و نظرًا لأن المرضى المدعين في “تجربة روزينهان” لن يتمكنوا أبدًا من التحدث عن مشاركتهم و لأن القليل نسبيًا قد كتب بشكل رسمي حول مسار الدراسة نفسها فقد أصبحت تلك التجربة صعبة للمناقشة و النقد لأنه ببساطة لم يكن هناك الكثير من الجدل حولها و مع ذلك فإن البحث اللاحق الذي استخدم وثائق من التجربة الأصلية وجد خطأً في “تجربة روزنهان ” حيث استشهدت الصحفية “سوزانا كاهالان” بمصادر أولية مكتشفة مثل المراسلات و مداخل اليوميات و مقتطفات من كتاب ” روزينهان ” غير المكتمل و وجدت أن مثل هذه الوثائق تتناقض في الواقع مع النتائج التي نشرها “روزينهان” حول نقاط معينة فعلى على سبيل المثال قال بنفسه عندما كان متخفيًا في مؤسسة كجزء من تجربته الخاصة بأنه أخبر الأطباء هناك أن أعراضه كانت شديدة جدًا و هو ما يفسر سبب تشخيصه بسرعة و هذا يتعارض مع تقرير “روزينهان” الذي ادعى أنه أخبر الأطباء ببعض الأعراض الخفيفة نسبيًا و هو بالضبط ما جعل تشخيص هؤلاء الأطباء بالنسبة اليه يبدو و كأنه رد فعل مبالغ فيه علاوة على ذلك تمكنت الصحفية أخيرًا من تعقب أحد هؤلاء المرضى المزيفين الذى لخص تجربته داخل المؤسسة النفسية بأنها إيجابية و هو مناقض لما أظهره ” روزينهان ” فى تقريره بأنها كانت لحظات مرعبة له و لفريقه و تعمد تجاهل هذه البيانات عند صياغة تقريره .
أقرأ أيضا : دانكان ماكدوجال الطبيب الذى أجرى تجربة لقياس وزن الروح البشرية
و لكن على أى حال إذا كانت هذه الادعاءات غير دقيقة و لم تثبت “تجربة روزنهان” تمامًا ما بنيت عليه فربما قد تكون أسهمت بشكل أو بأخر على مراقبة و متابعة التشخيصات بشكل أكثر دقة حتى لا تتكرر نفس المشكلة القديمة .