على مر التاريخ أجتاحت الحرائق العديد من المدن إما لأسباب طبيعية أو من صنع الإنسان و فى كلتا الحالتين تسببت تلك الحرائق بكوراث لا حصر لها سواء فى المنشئات أو الأفراد و لكن مع مرور الوقت لا تلبث تلك الحرائق ان تخمد ثم تبدء تلك المدن مجددا فى مرحلة إعادة الإعمار و لكن يبدو أن الأمر مختلفا فى بلدة واحدة تقع بولاية بنسلفانيا فى الولايات المتحدة و يطلق عليها اسم سنتراليا التى فيها اندلع حريق ضخم داخل أحد مناجم الفحم و ظن السكان فى بادئ الأمر أنه سيحترق بسرعة من تلقاء نفسه و لكن لسوء حظهم أستمر الحريق لأكثر من 60 عاما و لا يزال مشتعلا حتى اللحظة حيث تخرج من طرقها الأدخنة القادمة من باطن الأرض و رغم محاولات السلطات السيطرة على الوضع الا ان جهودها فشلت فى النهاية و أستسلمت للأمر الواقع و تركت المدينة لحالها بذلك الوضع الغريب بعد أن قامت بإخلائها من السكان .
و تضم بلدة “سنتراليا” 14 منجمًا نشطًا للفحم و كان يقيم فيها اوائل القرن العشرين 2500 شخص و بحلول الستينيات بدأت تلك الأعداد فى التزايد حيث كانت البلدة فى أوج إزدهارها الا أن كل ذلك قد توقف عام 1962 حين اندلع حريق في مكب للنفايات و انتشر إلى أنفاق الفحم التي حفرها عمال المناجم على عمق ألاف الأمتار تحت سطح الأرض و على الرغم من المحاولات المتكررة لإطفاء النيران الا انها طالت جزء كبير يحتوى على الفحم و لا تزال مشتعلة حتى يومنا هذا و تستمر في إطلاق الدخان السام في الهواء من خلال مئات الشقوق الموجودة فى الأرض التى أصبحت فى خطر داهم و تواجه الإنهيار الامر الذى دفع السلطات في الثمانينيات بدعوة السكان الى الخروج منها و الانتقال لأماكن أخرى حفاظا على ارواحهم حيث لم يتبق منها حاليا بها سوى ستة منازل مأهولة .
بدأت قصة بلدة “سنتراليا” مع الحريق عام 1962 حين اجتمع مجلس المدينة لمناقشة مكب النفايات الجديد الذى تم إنشائه في وقت سابق من العام و المكون من حفرة يبلغ عمقها 15 مترا و تغطي مساحة تقارب نصف مساحة ملعب كرة القدم و ذلك للتعامل مع مشكلة البلدة من القمامة و رغم كبر تلك المساحة الا انه بدء فى الإمتلاء و كان يحتاج إلى تطهير قبل الاحتفال السنوي بذكرى إنشاء المدينة و خلال الاجتماع اقترح أعضاء المجلس حلاً واضحًا و هو حرق مكب النفايات و كانت فكرة منطقيه وافق عليها الجميع و بدأ التنفيذ حيث قامت إدارة الإطفاء بتطويق الحفرة بمادة غير قابلة للاشتعال لاحتواء الحريق الذى أشعلوه ليلة 27 مايو عام 1962 و بعد أن تحولت القمامة الموجودة فيه إلى رماد قاموا بغمر الجمر المشتعل بالماء و إطفاءه و مع ذلك بعد يومين رأى السكان النيران تندلع مرة أخرى من المكان ليقوموا بإطفائها ثم تندلع مرة أخرى بعد أسبوع و هو ما جعل كان رجال إطفاء بلدة ” سنتراليا ” يشعرون بالحيرة حول سبب اندلاع تلك النيران المتكررة لذلك أستعانوا بالجرافات لتحريك بقايا القمامة المحترقة و تحديد أماكن ألسنة اللهب المخفية .
و بالكشف أسفل القمامة الموجودة فى مكب النفايات فى بلدة ” سنتراليا ” تم العثور على حفرة بعرض 4.5 متر و ذات عمق يمتد لأمتار أخرى كانت محجوبة بالنفايات لذلك لم يتم ملؤها و تطويقها بمواد مقاومة للحريق لمنع امتداده اليها حيث كانت تلك الحفرة فتحة لمسار مباشر يؤدى الى متاهة مناجم الفحم القديمة التي تم بناء “سنتراليا” عليها و سرعان ما بدأ السكان يشتكون من انبعاث روائح كريهة تدخل منازلهم و أماكن أعمالهم و لاحظوا انبعاث خيوط من الدخان تتصاعد من الأرض حول المكب و هو ما دفع المسئولين عن البلدة الى استدعاء خبير فى المناجم لفحص الدخان و الذي قال أن مستويات أول أكسيد الكربون الموجودة تشير بالفعل إلى وجود حريق في أحد المناجم ليرسلوا على الفور رسالة إلى شركة “ليهاي فالي” المسئولة عن تلك المناجم تفيد بأن حريقًا مجهول المصدر يوجد أسفل بلدتهم و أنعقد اجتماع يضم مسئولين عن البلدة و الشركة لمحاولة الوصول الى حل بأسرع ما يمكن و بأقل تكلفة و لكن قبل أن يتوصلوا إلى قرار اكتشفت أجهزة الاستشعار مستويات قاتلة من أول أكسيد الكربون تتسرب من الأسفل ما يعنى زيادة حدة الحريق لذلك و كإجراء احترازي تم إغلاق جميع المناجم في منطقة “سنتراليا” على الفور .
و نظرا لخطورة الأمر تولت السلطات المعنية فى ولاية “بنسلفانيا” تلك المشكلة و حاولوا وقف انتشار حريق “سنتراليا” عدة مرات لكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل حيث تضمن الاقتراح الأول حفر خنادق أسفل البلدة لكشف ألسنة اللهب حتى يتمكنوا من إخمادها و نتيجة استخفاف المهندسين بحسابات الحفر اللازمة لإنشاء تلك الخنادق نفد التمويل المخصص و هو ما جعلهم ينتقلون الى الخطة التالية التى تضمنت إخماد الحريق باستخدام خليط من الصخور المسحوقة و الماء لكن و لسوء الحظ تسببت درجات الحرارة المنخفضة بشكل غير مألوف في ذلك الوقت بتجميد خطوط المياه و كذلك آلة طحن الحجر كما كانت الشركة قلقة أيضًا من أن كمية المزيج التي تمتلكها لا يمكن أن تملأ بالكامل أنفاق تلك المناجم لذلك قرروا أن يملأوا منتصفها فقط لمجرد محاصرة ألسنة اللهب فى الأسفل على أمل أن تنطفأ بمفردها و في النهاية نفد تمويل خطتهم تلك أيضًا بعد تجاوز الميزانية مبلغ 20،000 دولار و خلال تلك الفترة ازداد الأمر سوء و انتشر الحريق بشكل اكبر لمسافة تجاوزت 200 متر .
و خلال محاولات إخماد الحريق على مر السنوات كان سكان بلدة ” سنتراليا ” يمارسون حياتهم اليومية و يعيشون فوق الأرض الحارة و الدخان حيث كان عددهم حوالى 1000 نسمة بحلول الثمانينيات و لكن فى تلك الفترة بدأت الأثار السلبية فى الظهور حيث بدأ بعضهم يفقد وعيه داخل منازلهم نتيجة التسمم بأول أكسيد الكربون و بدأت الأشجار تموت و تحولت الأرض إلى رماد كما بدأت الطرق و الأرصفة في الانحناء و جاءت نقطة التحول الحقيقية في عيد الحب عام 1981 عندما انفتحت حفرة تحت أقدام الطفل “تود دومبوسكي” البالغ من العمر 12 عامًا و لحسن حظه انه نجا بسبب تشبثه بجذور شجرة كانت مكشوفة بجواره قبل أن يصل ابن عمه لإخراجه و نتيجة أن المدينة أصبحت تشكل خطورة على سكانها بالإضافة الى انفاق ولاية ” بنسلفانيا ” أكثر من 7 ملايين دولار في محاولة إخماد الحريق دون نجاح لذلك قامت الحكومة الفيدرالية بتخصيص مبلغ 42 مليون دولار لشراء “سنتراليا” و هدم المباني بها و نقل السكان الى أماكن أخرى حيث أصبح مغادرة البلدة أمرا ضروريا للحفاظ على الأرواح .
أقرأ أيضا : تعرف على طبيعة الحياه فى بلدة أويمياكون أبرد مكان مأهول على وجه الأرض
و رغم ان ظروف بلدة ” سنتراليا ” تحتم على ساكنيها الرحيل الا ان الجميع لم يرغب فى المغادرة حيث بقى 63 شخصا بها و خاضوا العديد من المعارك القانونية لمنع اخلائهم و مع مرور الوقت بدأت اعدادهم فى التناقص الى ان وصلوا الى خمسة أشخاص فى الوقت الحالى و رغم أنها أصبحت شبه مهجورة الا انه تم استخدامها فى تصوير فيلم الرعب الشهير Silent Hill حتى ان حبكته اعتمدت جزئيا على قصة تلك البلدة التى رغم تأكل أجزاء كبيرة منها و تصدع أرصفتها و غزو الأشجار و النباتات على مبانيها الا أن الكثير يأتون من جميع أنحاء البلاد لمشاهدة الدخان المتصاعد من أرضها و أصبحت نقطة جذب سياحي شهيرة .
.