جهاز المخابرات السوفيتية ( KGB ) هى وكالة الأمن الرئيسية للاتحاد السوفيتي السابق ( روسيا حاليا ) و التى كانت تقوم بالعديد من المهام أبرزها الاستخبارات الأجنبية و الاستخبارات المضادة و حراسة حدود الدولة و مكافحة الجاسوسية و حراسة قيادة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي و الحكومة السوفيتية و تنظيم و ضمان أمن الاتصالات الحكومية و كذلك مكافحة الأنشطة القومية و المنشقة و الدينية المناهضة للنظام الشيوعي السوفيتي فى الداخل و هى مؤسسة كان يتغلب عليها الطابع العسكرى و تحكمها قوانين و أنظمة الجيش و أشتهرت بصولاتها و جولاتها الشهيرة مع أجهزة المخابرات الغربية و على رأسها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خلال مرحلة الحرب الباردة التى انتهت بإنهيار الإتحاد السوفيتي و حل تلك الوكالة التى خلفتها فى وقت لاحق جهاز المخابرات الأجنبية (SVR) الذى أصبح فيما بعد جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) .
الأمن قبل نشأة المخابرات السوفيتية
تأسس جهاز المخابرات السوفيتية ” الكي جي بي KGB ” عام 1954 و كان الأكثر ديمومة من بين سلسلة من الأجهزة الأمنية بداية من “تشيكا” الذى تأسس في ديسمبر عام 1917 خلال الأيام الأولى للحكومة البلشفية حيث أوكلت اليه مهمة القيام بالتحقيقات و التحريات حول الثورة المضادة و أى أعمال للتخريب لكنه سرعان ما تحمل أعباء مسؤوليات اضافية اخرى من اعتقالات و سجن و إعدام لأعداء الدولة المتضمنين النبلاء السابقين و البرجوازيين و رجال الدين كما لعب ذلك الجهاز دورًا بارزًا في الحرب الأهلية الروسية فى الفترة بين عامى (1918-1920) و ساعد في سحق التمردات المناهضة للسوفييت و عندما تم فتح الأرشيفات السوفيتية في التسعينيات تم الإستعلام أن ذلك الجهاز كان يعمل به أكثر من 250 ألف شخص فى عام 1921 و كان مسؤولاً عن إعدام أكثر من 140 ألف فرد و أن رئيس الجهاز الأول “فيليكس دزيرجينسكي” قد صاغ استراتيجية عديمة الرحمة فى تصفية الخصوم .
و مع حلول عام 1922 أنشأ جهاز أمنى أخر ليحل محل ” تشيكا ” و هو “الإدارة السياسية للدولة” GPU في محاولة من قبل الحزب الشيوعي لمحو السمعة السيئة للجهاز السابق و بعد مرور عام تم تغيير اسمه الى “الإدارة السياسية الموحدة للدولة” OGPU و أوكل إليه مهمات إضافية بما في ذلك إدارة معسكرات العمل و مراقبة السكان و عندما عزز الزعيم السوفيتى “جوزيف ستالين” سلطته و قيامه ببعض من تغيير السياسات فى الاتحاد السوفيتي نفذت “الإدارة السياسية الموحدة للدولة” عدد من الاجرائات القمعية و التى تمثلت فى سياسة التجميع القسري للزراعة و الترحيل الى الجولاج و تنظيم محاكمات صورية لـ “أعداء الشعب” و بحلول أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي سيطر ذلك الجهاز على جميع الوظائف الأمنية السوفيتية بعد أن كان تحت يده جيشًا ضخمًا من المخبرين الموزعين في المصانع و المكاتب الحكومية و الجيش الأحمر و خلال هذه الفترة أيضًا قام الجهاز بإجراء عمليات سرية فى الأراضي الأجنبية لتعطيل أنشطة معارضي النظام عن طريق خطفهم أو قتلهم أحيانا .
و مع حلول منتصف الثلاثينيات تم استيعاب جهاز “الإدارة السياسية الموحدة للدولة” OGPU في جهاز أخر جديد و هو NKVD أو “مفوضية الشعب للشؤون الداخلية” و الذى ساعد “ستالين” على تعزيز سلطته من خلال تنفيذ عمليات التطهير بإعدام أكثر من 750 ألف شخص في عامى 1937-1938 وحدهم و الذين كان من بينهم عشرات الآلاف من مسؤولي الحزب و ضباط الجيش و الأمن و كان من بين الضحايا أكثر من نصف أعضاء اللجنة المركزية الحاكمة (أعلى هيئة للحزب الشيوعي) بالإضافة إلى أول اثنين من رؤساء NKVD “جنريك ياجودا” و “نيكولاي ييجوف” و الذى خلفه ” لافرينتي بيريا ” و بحلول عام 1941 تم نقل مسؤولية أمن الدولة من جهاز NKVD إلى جهاز أخر و هو NKGB ” المفوضية الشعبية لأمن الدولة” و أصبحت كلتا الوكالتين بعد ذلك وزارتين و هم وزارة الداخلية (MVD) و وزارة أمن الدولة (MGB) و في عام 1946 واصل “بيريا” بصفته عضوًا في اللجنة المركزية الحاكمة الإشراف على كلتا الوزارتين اضافة الى مسئوليته أيضا عن برنامج الأسلحة النووية الناشئ في الاتحاد السوفيتي و أشرافه على عمليات الاستخبارات الموجهة إلى مشاريع القنبلة الذرية الأمريكية و البريطانية .
و كانت وزارة أمن الدولة MGB و رغم انها كانت واقعة تحت إشراف ” بيريا ” الا أن مديرها التنفيذى كان ” فى اس أباكوموف ” الذى قام بدورًا رئيسيًا في المجهود الحربي للاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية بقيام وزارته بعمليات تجسس و مكافحة التجسس و إدارة معسكرات أسرى الحرب و ضمان ولاء الضباط كما أشرفت الوزارة على ترحيل المجموعات المشتبه في عدم ولائها إلى سيبيريا و آسيا الوسطى بما في ذلك أكثر من مليون ألمانى من الفولجا و تتار القرم و الشيشان و غيرهم من سكان القوقاز و بعد انتهاء الحرب قام بتوطيد سلطات الاتحاد السوفيتى لاحقًا في أوروبا الشرقية من خلال سحق كل معارضة سواء كانت حقيقية أو مشتبه بها و حتى داخل الأراضى السوفيتية نفسها فبين عامي 1945 و 1953 تم اعتقال أكثر من 750 ألف مواطن سوفيتي و معاقبتهم على جرائم سياسية و أشارت المعلومات التي تم الكشف عنها لاحقا في التسعينيات إلى أنه بحلول عام 1953 كان هناك حوالي 2.75 مليون مواطن سوفيتي في السجون أو في معسكرات العمل القسري و كان نفس العدد تقريبًا في المنفى الداخلي .
و فى حقيقة الأمر كانت المخابرات السوفيتية في العقد الأخير من حياة “ستالين” رائعة من حيث نطاقها و نجاحها و خلال الحرب العالمية الثانية أجرت MGB عمليات في أوروبا المحتلة من قبل النازيين و تألفت إحدى شبكاتها المسماة “الأوركسترا الحمراء” من عدة مئات من العملاء و المخبرين و كان منهم وكلاء في وزارات الخارجية و العمل و الدعاية و الاقتصاد الألمانية كما تشير الوثائق الروسية و الأمريكية التي تم رفع السرية عنها إلى أن الاتحاد السوفيتي قد وضع خمسة عملاء على الأقل في برنامج الأسلحة النووية الأمريكي و ربما ما يصل إلى 300 عميل في الحكومة الأمريكية نفسها بحلول عام 1945 كما تم اختراق المؤسسات الدبلوماسية و الأمنية البريطانية من قبل عملاء مهمين بما في ذلك “كيم فيلبي” و الذى كان ضابط كبيرا فى المخابرات البريطانية و تشير الدلائل إلى أن العملاء السوفييت في بريطانيا قد نقلوا ما بين 15000 إلى 20000 وثيقة إلى “موسكو” بين عامي 1941 و 1945 و كان عملاء المخابرات السوفيتية البريطانيين والأمريكيين في معظمهم من المؤيدين الأيديولوجيين للنظام و كان العديد منهم أعضاء في الأحزاب الشيوعية .
و مباشرة بعد وفاة “ستالين” في مارس عام 1953 تم دمج جهاز MGB مرة أخرى في وزارة الشؤون الداخلية (MVD) و كانوا لا يزالون تحت اشراف “بيريا” و قبل نهاية الصيف انقلبت قيادة ما بعد الستالينية بقيادة “نيكيتا خروتشوف” ضد “بيريا” المتعطش للسلطة و تم عزله و إعدامه و استمرت سلسلة من المحاكمات و الإعدامات لكبار مساعديه حتى عام 1956 و في غضون ذلك تم إطلاق سراح ملايين السجناء السياسيين من معسكرات الإعتقال و الذين كان مقبوض عليهم من قبل جهاز “MVD” الذى تم تفكيكه تدريجياً الى أن الغى أخيرًا في عام 1960.
نشأة المخابرات السوفيتية و أدوارها
تم إنشاء جهاز المخابرات السوفيتية KGB رسميا في عام 1954 ليكون بمثابة سيف و درع الحزب الشيوعي و تم تصميم جهاز الأمن الجديد و الذي لعب دورًا رئيسيًا في تطهير أنصار “بيريا” ليتم التحكم فيه بعناية من قبل كبار مسؤولي الحزب الشيوعي و تم تقسيمه إلى ما يقرب من 20 إدارة أهمها تلك المسؤولة عن الاستخبارات الأجنبية و مكافحة التجسس الداخلي و الاستخبارات التقنية و حماية القيادة السياسية و أمن حدود البلاد و في أواخر الستينيات تم إنشاء إدارة إضافية لمراقبة المنشقين و المشتبه بهم في الكنائس و بين المثقفين و على مدى السنوات العشرين التالية أصبحت المخابرات السوفيتية متحمسة بشكل متزايد في ملاحقتها للأعداء و مضايقة و اعتقال و أحيانًا نفي المدافعين عن حقوق الإنسان و المثقفين الذين يُعتقد أنهم غير موالين للنظام و كان من أشهر ضحاياهم الحائزان على جائزة نوبل “ألكسندر سولجينتسين” و “أندري ساخاروف” .
و تدريجيا وسعت المخابرات السوفيتية KGB عملياتها الاستخباراتية الأجنبية لتصبح أكبر جهاز استخبارات أجنبي في العالم و مع اشتداد الحرب الباردة مع الولايات المتحدة أصبح الجهاز يُنظر إليه على أنه نظير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA و مع ذلك و على عكس الجهاز الأمريكى فإن نظيره السوفيتى كان يقوم بالعديد من الأنشطة الداخلية على الأراضي السوفيتية و ضد المواطنين السوفييت و في بعض الأحيان كان العديد من عملاء الـ KGB يتظاهرون بأنهم رجال أعمال و صحفيين على الرغم من أن العديد منهم استخدموا الغطاء الدبلوماسي التقليدي و تضمنت نجاحات ذلك الجهاز فى اختراق العديد من أجهزة المخابرات الغربية و وضع عملاء ذات نفوذ بداخلها و في كل عاصمة كبرى تقريبًا كما تمكنت المخابرات السوفيتية أيضًا من الحصول على معلومات علمية و تقنية للجيش السوفيتي و حصلت مرارًا و تكرارًا على التكنولوجيا المتقدمة اللازمة لتطوير الغواصات و الطائرات و الصواريخ السوفيتية كما تمتع الجهاز بوصول هائل إلى أسرار كل من خصومه و حلفائه.
و بحلول نهاية الستينيات كانت المخابرات السوفيتية قد أصبحت راسخة باعتبارها جهاز الرقابة الأمنية للحزب الشيوعي و انعكست قيمته كأداة للسيطرة السياسية في تعيين رئيسه “يوري أندروبوف” في المكتب السياسي عام (1973) و خلافته لرئيس الحزب عام 1982 و تحت قيادة “أندروبوف” جند الكي جي بي أفضل و ألمع أعضاء الحزب و مع تولى الزعيم السوفيتى الاصلاحى ” ميخائيل جورباتشوف ” حكم البلاد فى الفترة ما بين اعوام (1985-1991) لم يعد أداء الجهاز كما كان فى السابق فعلى الرغم من احترام “جورباتشوف” لبراعة المخابرات السوفيتية فى مجال الاستخبارات الأجنبية إلا أن أجندته الإصلاحية قوضت سلطتها و كذلك سلطة الحزب الشيوعي و لذلك في صيف عام 1991 لعب العديد من كبار ضباط الـ KGB بمن فيهم رئيسه “فلاديمير كريوتشكوف” أدوارًا رئيسية في انقلاب فاشل يهدف إلى إعادة النظام السوفييتي إلى نقاءه الأيديولوجي و البيروقراطي و عقب فشل ذلك الإنقلاب تم تجريد KGB بشكل منهجي من وحداته العسكرية الواسعة و العديد من وظائف الأمن الداخلي .
و مع تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 أصبحت المخابرات السوفيتية تحت سيطرة “روسيا” و أشرفت حكومة الرئيس الروسي “بوريس يلتسين” على تقسيم الكي جي بي إلى عدة أجهزة رئيسية مسؤولة عن الأمن الداخلي و الاستخبارات الأجنبية و أنشأت “أوكرانيا” و “بيلاروسيا” و غيرهما من الجمهوريات السوفيتية السابقة أجهزة استخباراتية و أمنية خاصة بها و التي حافظت على روابط مع تلك الموجودة في “روسيا” .
تقييم الجهاز
كانت المخابرات السوفيتية في ذروتها أكبر منظمة للشرطة السرية و الاستخبارات الأجنبية في العالم و قدر الباحثين الذين لديهم إمكانية الوصول إلى أرشيفات الحزب الشيوعي بأن عدد أفراد الـ KGB كانوا أكثر من 480 ألفًا من بينهم 200 ألف جندي في حرس الحدود كما توجد تقديرات بأن عدد المخبرين في الاتحاد السوفيتي قد يصل الى الملايين حيث اعتمد كل زعيم سوفيتي على ذلك الجهاز للحصول على المعلومات و مراقبة النخب الرئيسية و السيطرة على السكان و مع الحزب الشيوعي و الجيش شكلت المخابرات السوفيتية ثالوث السلطة الذي حكم البلاد و لعبت دورًا مهمًا بشكل خاص في السياسة الخارجية السوفيتية و سمحت للاتحاد السوفيتي بالحفاظ على تكافؤ تقريبي مع الغرب في الأسلحة النووية و أنظمة الأسلحة الأخرى و مع ذلك كان دور الجهاز داخل البلاد مروعًا و قد يختلف المؤرخين حول التكلفة البشرية للـ KGB و ما سبقه من أجهزة لكن الكثيرين منهم يقدرون أنهم كانوا مسؤولين عن وفاة عشرات الملايين من الناس .
و يبقى السؤال الحاسم في تقييم عمليات المخابرات السوفيتية الخارجية و المحلية هو لماذا فشلت في منع الانهيار النهائي للنظام السوفيتى حيث يعزو البعض ان ذلك حدث لأن الجهاز كان يعانى هو الأخر من نفس مشاكل عدم الكفاءة البيروقراطية و الفساد التي ابتليت بها القيادة السياسية المتصلبة بالإضافة إلى أنه خلال العقد الأخير من السلطة السوفيتية انشق العديد من مسؤولي المخابرات السوفيتية إلى الغرب أو وافقوا على العمل كوكلاء في “موسكو” علاوة على ذلك تشير بعض الدراسات إلى أنه على الرغم من سمعته الشهيرة فى عالم التجسس فإن المخابرات السوفيتية (KGB) كانت تفتقر إلى المهارات التحليلية اللازمة لتشكيل صورة دقيقة للوضع الدولي و المحلي المتدهور للنظام.