تمتلئ دوائر الشرطة فى كل مكان بالعديد من أسماء المحتالين لكن القليل منهم فقط هم من يحصلون على شهرة عالمية و يتم تسجيل أسمائهم فى قوائم مشاهير عالم الجريمة و ذلك لأن جرائمهم ترتكب بأساليب و ملكات خاصة قلما تواجدت لدى أى إنسان و من بين تلك القوائم يبرز اسم لرجل أمريكى يدعي فرديناند والدو ديمارا الذى أطلقت عليه الصحافة لقب المحتال العظيم لتمتعه بذكاء خارق و مهارات كبيرة في فنون الخداع فعلى مدار 23 عاما أستطاع انتحال شخصيات ذات مهن مختلفة لا للحصول على الأمول و لكن للهيبة و الوضع الإجتماعي حيث عمل عميد لكلية الفلسفة في بنسلفانيا و محامى و جراح بحري و راهب و مساعد مأمور في السجن و مدرس و مهندس مدني و نائب عمدة و كل ذلك و لم يشعر من حوله يوما بما فيهم الجيش الكندي بأنه مجرد مخادع و هو ما دعا البعض الى إعتباره أعظم محتال عبر كل العصور .
ولد “فرديناند والدو ديمارا” أو كما يطلقون عليه ” فريد ” في بلدة “لورانس” بولاية “ماساتشوستس” عام 1921 لعائلة ثرية و كان يقيم فى حي راقى الا أنه خلال المراحل الأولى من الكساد العظيم واجه والده “ديمارا” الأب بعض من المشاكل المالية أجبرت الأسرة على الإنتقال الى حى أخر فقير و خلال تلك الفترة العصيبة هرب من منزله و هو بعمر 16 عامًا فقط و ترك دراسته لينضم إلى مجموعة من الرهبان في “رود آيلاند” و يصبح مثلهم راهبًا و طمأن زعيمهم والديه على مستقبل إبنهم لأنه أنضم الى نظام ديني ملتزم و هو ما جعلهم يسمحون له بالبقاء و لكن بعد مرور عامين و نتيجة طبيعته المندفعة و سلوكه الغير موجه و عدم الإلتزام بقوانين الدير تم اجباره على تركه و عبثا حاول الإلتحاق بدير أخر الا أنه فشل أيضا لنفس الأسباب لذلك ألتحق بالجيش الأمريكي عام 1941 ثم هرب من الخدمة لعدم تأقلمه مع الحياة العسكرية و هو منتحل لشخصية صديق له و بعدها أنضم مجددا إلى البحرية الأمريكية حيث تدرب بمستشفى في أرصفة البحرية في “نورفولك” بولاية “فيرجينيا” و حصل على دورة طبية الا انه لم يستطيع استكمالها بسبب قلة تعليمه و هو ما دفعه لتزوير عدد من الوثائق التى تفيد حصوله على المؤهلات العلمية المطلوبة لاجتياز تلك الدورة و لكن تم اكتشاف الأمر و أضطر الى الهروب بعد أن زيف أنتحاره و يبدء مشواره فى إنتحال الهويات المزيفة .
أقرأ أيضا : ويلهلم فويجت .. المحتال الألمانى الذى أستطاع بخطة عبقريه اختطاف عمدة مدينة و سرقة أموالها
و في عام 1942 انتحل “فرديناند والدو ديمارا” هوية الدكتور “روبرت لينتون فرينش” و هو ضابط سابق في البحرية و عالم نفس حيث وجد تفاصيل حياته في نشرة قديمة لاحدى الجامعات عندما كان يعمل استاذا فيها و أستطاع تزوير بعض من الوثائق التى مكنته من العمل كاستاذا فى كلية جانون ببنسلفانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 حيث تم القبض عليه من قبل المباحث الفيدراليه و قررت السلطات محاكمته بتهمة الفرار من الجيش و صدر ضده حكما بالسجن 6 سنوات و نتيجة لحسن سلوكه تم اطلاق سراحه بعد قضاءه 18 شهرا من العقوبه و على الرغم من سجنه الا انه لم يرتدع و زور هويه جديدة باسم ” سيسيل هامان ” و التحق بجامعة نورث إيسترن لدراسة القانون و نظرا للجهد المبذول و طول مدة تلك الدراسه اختصرها بأن اعطى لنفسه درجة الدكتوراه ليتولى التدريس في كلية مسيحية بولاية “مين” في صيف عام 1950 .
و من ” الولايات المتحدة ” سافر “فرديناند والدو ديمارا ” إلى “نيو برونزويك” في “كندا” و لكن بهوية جديدة حيث انتحل شخصية الطبيب الكندى “جوزيف سير” و هو شاب التقى به سابقا خلال انتحاله شخصية “سيسيل هامان” حيث كان يأمل الطبيب الحقيقي فى الحصول على مساعدته للحصول على رخصة طبية للعمل على الأراضى الأمريكية الا أنه وقع ضحية له بعد أن أستحوذ على وثائقه و انتحل هويته و هرب بها الى ” كندا ” حيث عمل فيها كملازم جراح في البحرية الملكية الكندية فى ” هاليفاكس ” و نظرا لأنه لم يكن لديه معرفة مسبقة بالطب فقد كانت تلك المهمة صعبة التنفيذ بالنسبة اليه و مع ذلك و لكونه مخادع ماهر قرر “فريد” وضع هذه المهمة على أنها مشكلة يجب أن يحلها الأطباء الأخرين المتواجدين معه حيث أظهر مهارة كبيرة أثناء جمع المعلومات من مختلف الأطباء و تقديم العلاج للمرضى الذين تواصلوا معه و كانت الأمور تسير على ما يرام الا أنها تعقدت حين تم نقله للعمل على متن احدى المدمرات الكندية .
و أصبح “فرديناند والدو ديمارا ” المسؤول الطبي الوحيد علي متن المدمرة أى أنه كان مسئولا عن صحة 211 بحارًا مجندًا و ثمانية ضباط و من خلال تصفحه الكتب الطبية استطاع تعلم بعض الإجراءات الطبية و قام بإجراء عملية خلع بعض من أسنان الكابتن ” بلومر ” قبطان المدمرة على الرغم من عدم علمه تمامًا بمقدار التخدير الذي يجب استخدامه و مع ذلك و لحسن حظه كانت الجراحة ناجحة تمامًا حيث أشاد “بلومر” به قائلا أنها أسهل عملية خلع أسنان مرت عليه على الإطلاق و لكن ربما كان أصعب اختبار مر علي “فرديناند والدو ديمارا ” خلال انتحاله تلك الصفة هو حين تحركت المدمرة الكندية للمشاركة فى الحرب الكورية فخلال قيام السفينة العسكرية بدورية في الساحل الكوري اتصلت بهم سفينة كورية صغيرة محملة بما بعدد من الجنود الكوريين المصابين و يروى احد الجنود الكنديين الذين كانوا على سطح المدمرة ما حدث خلال ذلك الوقت حيث يقول أن الأمور كانت تسير على ما يرام لأن ” المحتال العظيم ” كان يقوم بعمله بنشاط حتى أنهم أعجبوا بما يقوم به حيث قام بإجراء جراحة في الصدر و إزالة رصاصة و عملية بتر لقدم و لم يعتقد معظمهم أن هناك أي شيء مريب أو غير طبيعي حول ذلك الموضوع لدرجة ان الحالات كانت تتحسن و نال ثناء كبير من قبل رؤسائه و سعت وسائل الإعلام الكبرى فى نشر تلك القصة بعد التواصل مع العلاقات العامة للجيش و كانت هى القشة التى قصمت ظهر البعير حيث أكتشف الطبيب ” جوزيف سير ” الحقيقي ذلك الموضوع و اتصل بالسلطات و صدر تقرير يفيد بوجود محتال على سطح تلك المدمرة .
و بكشف الموضوع تم طرد “فرديناند والدو ديمارا ” من الجيش الكندي و ترحيله فى هدوء الى ” الولايات المتحدة ” فى نوفمبر عام 1951 لأن ذلك الأمر سبب احراجا كبيرا اليهم خاصة بعد اكتشاف تزييفه لهويات سابقة و مع عودته الى “الولايات المتحدة” بدأت الصحافة الأمريكية فى الإهتمام بقصته حيث باع حقوقها الى مجلة ” لايف ” و رغم شهرته الا أن طبيعة إنتحال الهويات كانت لا تزال مسيطرة عليه حيث قام فى عام 1955 بالحصول على هوية جديدة باسم “بن جونز” عمل بها كحارس في سجن “هنتسفيل” في ولاية تكساس حيث ترقى فيه ليكون مسؤولاً عن الجناح شديد الحراسة الذي يضم أخطر السجناء و بعد مرور عام تم كشفه بالصدفه بعد أن شاهد أحد المسجونين صورته فى مجلة ” لايف ” و قرأ قصته ليقوم بإبلاغ السلطات على الفور و يبادر ” المحتال العظيم ” بالهرب الى أن القى القبض عليه عام 1957 ، في ولاية “مين” حيث قضى عقوبة بالسجن لمدة ستة أشهر .
أقرأ أيضا : فيكتور لوستيج المحتال الذى تمكن من بيع برج إيفل مرتين
بعد إطلاق سراحه ظهر “فرديناند والدو ديمارا جونيور” أو ” المحتال العظيم في العديد من العروض التلفزيونية و شارك فى احد افلام الرعب و قام بدور صغير كطبيب فى مستشفى و خُلدت مآثره لاحقًا في “هوليوود” من خلال فيلم ” المحتال العظيم ” الذى قام ببطولته الممثل “توني كيرتس” عام 1961 و بعد ستة سنوات حصل على شهادة تخرج من مدرسة “مولتنوماه” للكتاب المقدس في ولاية “أوريجون” حيث عمل كراعى لاحدى الكنائس و كان محبوبا من الجميع ولكن سرعان ما انتشرت الشائعات حول حياته القديمة مما جعله يستقيل من منصبه بعد أن شعر بعض من روادها أن هذا كان خداعًا آخر منه على الرغم من أن الكثيرين شعروا أنه كان يأخذ الموقف على محمل الجد ولديه أوراق اعتماد شرعية و بعدها انتقل الى ولاية “كالفورنيا” ليعمل قسيسا زائرا فى احد المستشفيات بأواخر السبعينيات و يقيم فيها عام 1980 بعد أن أجبره المرض على التوقف عن العمل لديهم الى ان توفى فى عام 1982 بسبب قصور في القلب عن عمر يناهز 60 عامًا .