الثورة الصناعية هى فترة من التطور العلمي و التكنولوجي حدثت في القرن الثامن عشر و من خلالها تحولت المجتمعات الزراعية الريفية خاصة في قارتي أوروبا و أمريكا الشمالية إلى مجتمعات حضرية صناعية و أصبحت السلع التي كان يتم تصنيعها يدويًا بشق الأنفس متاحة بكميات كبيرة بواسطة الآلات في المصانع و ذلك بفضل إدخال معدات و تقنيات جديدة في عدد من المجالات أبرزها صناعة المنسوجات و الحديد و غيرهم و رغم أن تلك التطويرات قد بدأت فى وقت مبكر من القرن الثامن عشر إلا أنها أتخذت منحي أكثر جدية بحلول ثلاثينيات و أربعينيات القرن التاسع عشر كانت بدايتها في بريطانيا و سرعان ما أنتشرت إلى بقية العالم بما في ذلك الولايات المتحدة و غالبا ما يفضل المؤرخين إلي تقسيمها لمرحلتين بدأت بالثورة الصناعية الأولى ثم بعد ذلك أنتقلت إلي المرحلة الثانية التي حدثت من أواخر القرن التاسع عشر و حتى أوائل القرن العشرين و شهدت تقدمًا سريعًا في صناعات الصلب و الكهرباء و السيارات .
و على الرغم من أن الكتاب الفرنسيين كانوا قد أستخدموا مصطلح الثورة الصناعية في وقت سابق إلا أنه تم تعميمه لأول مرة من قبل المؤرخ الاقتصادي الإنجليزي الشهير “أرنولد توينبي” (1852-1883) لوصف التنمية الاقتصادية التى حدثت في بريطانيا فى الفترة من عام 1760 إلى 1840 و منذ زمن “توينبي” تم تطبيق المصطلح على نطاق واسع بإعتباره عملية تحول إقتصادي فى فترة زمنية محددة داخل بيئة معينة لأن الظروف قد تختلف من مكان إلي أخر و هذا ما يفسر سبب عدم بدء بعض المناطق مثل الصين و الهند فى ثوراتها الصناعية الأولى حتى القرن العشرين بينما سبقتها مناطق أخرى مثل الولايات المتحدة و المملكة المتحدة و أوروبا الغربية التى شهدت ثورات صناعية ثانية بحلول أواخر القرن التاسع عشر.
و قبل الثورة الصناعية و نتيجة المناخ الرطب و المثالي لتربية الأغنام كان لبريطانيا تاريخ طويل في إنتاج المنسوجات مثل الصوف و الكتان و القطن و كانت المنسوجات البريطانية تنتج كصناعات منزلية بسيطة حيث كان يتم تنفيذ العمل في ورش صغيرة أو حتى منازل من قبل عمال الغزل و النساجين و الصباغة و مع حلول منتصف القرن الثامن عشر جعلت الإبتكارات الجديدة مثل عجلة جيني للغزل المكونة من إطار خشبي مع عدة محاور و الإطار المائي و النول الكهربائي فى نسج نسيج الغزل و الخيط بشكل أسهل بكثير و أصبح إنتاج القماش يتم بشكل أسرع و يتطلب وقتًا و عمالة بشرية أقل بكثير و مع الوقت أصبح الإنتاج الألي الأكثر كفاءة و صارت مصانع النسيج البريطانية الجديدة بإمكانها أن تلبي الطلب المتزايد على الملابس في الداخل والخارج حيث وفرت العديد من مستعمرات الإمبراطورية البريطانية سوقًا لسلعها و على غرار صناعة المنسوجات تبنت صناعة الحديد البريطانية أيضًا ابتكارات جديدة و كان من بين التقنيات التى ظهرت صهر خام الحديد بفحم الكوك (مادة مصنوعة عن طريق تسخين الفحم) بدلاً من الفحم التقليدي و كانت هذه الطريقة أرخص بكثير عن السابق كما أنتجت مواد عالية الجودة مما مكّن إنتاج الحديد و الصلب في بريطانيا من التوسع استجابةً للطلب الذي أوجدته الحروب النابليونية و النمو اللاحق لصناعة السكك الحديدية .
و يمكن أن نقول أنه بدأت الثورة الصناعية فى الظهور على الساحة بشكل أكبر في أوائل القرن الثامن عشر عندما صمم “توماس نيوكومن” النموذج الأولي لأول محرك بخاري حديث و أطلق على اختراعه إسم المحرك البخاري الجوي و قد تم تطبيقه في الأصل لتشغيل الآلات المستخدمة لضخ المياه من المناجم و في ستينيات القرن الثامن عشر بدأ المهندس الاسكتلندي “جيمس وات” في تعديل أحد طرازات محرك ” نيوكومن” من خلال إضافته لمكثف مياه منفصل مما جعله أكثر كفاءة ثم تعاون “وات” لاحقًا مع “ماثيو بولتون” لإبتكار محرك بخاري بحركة دوارة و هو إبتكار رئيسي من شأنه أن سمح للطاقة البخارية بالإنتشار عبر الصناعات البريطانية بما في ذلك مصانع الدقيق و الورق و القطن و صناعات الحديد و مصانع التقطير و محطات المياه و القنوات و مثلما احتاجت المحركات البخارية إلى الفحم سمحت الطاقة البخارية لعمال المناجم بالتعمق و إستخراج المزيد من مصدر الطاقة الرخيص نسبيًا حيث أدي ذلك إلي إرتفاع الطلب على الفحم خلال الثورة الصناعية و ما بعدها لأنه كان ضروريا ليس لتشغيل المصانع المستخدمة لإنتاج السلع فقط و لكن أيضًا فى السكك الحديدية و البواخر المستخدمة في نقلها لذلك سرعان ما شهدت شبكة الطرق البريطانية التي كانت بدائية نسبيًا قبل التصنيع تحسينات كبيرة و تم إستخدام أكثر من 3200 كيلومتر من القنوات في جميع أنحاء بريطانيا و مع أوائل القرن التاسع عشر ظهر “ريتشارد تريفيثيك” لأول مرة بقاطرة للسكك الحديدية تعمل بالبخار و في عام 1830 بدأت قاطرات مماثلة في نقل البضائع و الركاب بين المراكز الصناعية في مانشستر و ليفربول و بحلول ذلك الوقت كانت القوارب و السفن التي تعمل بالبخار مستخدمة على نطاق واسع بالفعل و تحمل البضائع على طول الأنهار و القنوات البريطانية و كذلك عبر المحيط الأطلسي.
و إزدادت الثورة الصناعية زخما بعد التأثر بأفكار الفيلسوف الاجتماعي الاسكتلندي “آدم سميث” التى روجت لنظام اقتصادي قائم على المشاريع الحرة و الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و عدم تدخل الحكومة و هو ما ساهم فى رفع الممولين الصناعيين إلى مكانة بارزة فى المجتمع خلال هذه الفترة فضلاً عن أن نظام إداراة المصنع كان يعتمد على المالكين و المديرين و ساهمت الثورة الصناعية بشكل كبير علي إنشاء بورصة في “لندن” بسبعينيات القرن الثامن عشر ثم تأسيس بورصة “نيويورك” أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر كما شهد الجزء الأخير من الثورة الصناعية أيضًا تطورات رئيسية في طرق الاتصال حيث رأى الناس أنهم فى حاجة إلى التواصل بكفاءة عبر مسافات طويلة لذلك في عام 1837 حصل المخترعين البريطانيين “ويليام كوك” و “تشارلز ويتستون” على براءة إختراع أول نظام تلغراف تجاري ثم عمل “صامويل مورس” و مخترعين آخرين على نسخهم الخاصة في “الولايات المتحدة” .
و على الرغم من أن العديد من الناس في “بريطانيا” كانوا ينتقلون إلى المدن من المناطق الريفية قبل الثورة الصناعية إلا أن هذه العملية قد تسارعت بشكل كبير مع التصنيع حيث أدى ظهور المصانع الكبيرة إلى تحويل المدن الصغيرة إلى مدن رئيسية على مدى عقود و جلب هذا التحضر السريع تحديات كبيرة حيث عانت المدن المكتظة من التلوث و عدم كفاية الصرف الصحي و ظروف السكن البائسة و نقص مياه الشرب المأمونة و حتى مع زيادة التصنيع الذى ساهم فى تحسين مستوى المعيشة للطبقات الوسطى و العليا الا أنها أثرت بالسلب على الفقراء و الطبقة العاملة حيث أستمروا في الكفاح من أجل العيش بعد أن تسببت ميكنة العمل الناتج عن الإبتكارات التكنولوجية العمل في المصانع مملاً و لم يعد هناك حاجة إلي أيدى عاملة كثيرة و هو ما أضطر العديد من العمال بما في ذلك الأطفال إلى العمل لساعات طويلة مقابل أجور منخفضة بشكل مثير للشفقة حيث أدت هذه التغييرات و الإساءات الدراماتيكية إلي ظهور أشخاص تعارض الثورة الصناعية في جميع أنحاء العالم و نتيجة الغضب من ظروف العمل و المعيشة المتدنية فقد أدي ذلك إلي تشكيل النقابات العمالية فضلاً عن الضغط لإصدار قوانين جديدة لعمالة الأطفال و أنظمة الصحة العامة في كل من “بريطانيا” و “الولايات المتحدة” و كلها تهدف إلى تحسين الحياة للعمال و المواطنين الفقراء الذين تأثروا سلبا بالتصنيع.
أما بالنسبة للثورة الصناعية داخل “الولايات المتحدة” فعادة ما ينظر إليها على أنها مرتبطة بإفتتاح مصنع نسيج في “باوتوكيت” برود آيلاند عام 1793 علي يد المهاجر الإنجليزي “صموئيل سلاتر” الذى عمل سابقا في إحدى المصانع التي أفتتحها “ريتشارد أركرايت” (مخترع الإطار المائي) و على الرغم من القوانين التي تحظر هجرة عمال النسيج الا أن ” سلاتر ” كان قد جلب تصميمات “أركرايت” و نقلها عبر المحيط الأطلسي و قام فيما بعد ببناء العديد من مصانع القطن الأخرى في “نيو إنجلاند” و أصبح يُعرف بإسم “أبو الثورة الصناعية الأمريكية” ثم بعد ذلك إتبعت ” الولايات المتحدة ” طريقها الخاص مدفوعة بالإبتكارات المستعارة من “بريطانيا” و كذلك من قبل المخترعين المحليين مثل “إيلي ويتني” الذى أحدث إختراعه لمحلج قطن عام 1793 فى إحداث ثورة في صناعة القطن في البلاد و بحلول نهاية القرن التاسع عشر أى مرحلة الثورة الصناعية الثانية أنتقلت “الولايات المتحدة” من مجتمع زراعي إلى حد كبير إلى مجتمع متحضر بشكل متزايد و بحلول منتصف القرن التاسع عشر كان التصنيع راسخًا في جميع أنحاء الجزء الغربي من أوروبا و المنطقة الشمالية الشرقية من أمريكا و مع دخول العالم أوائل القرن العشرين أصبحت “الولايات المتحدة” هى الدولة الصناعية الرائدة في العالم.