يعتبر المقدم أوتو سكورزيني واحد من أبرع رجال الأمن النازيين كما كان عسكريًا إستثنائيًا لمهاراته في إدارة حروب العصابات و الغارات بقوات الكوماندوز خلال الحرب العالمية الثانية و علي مدار حياته المهنية الحافلة قام بالتخطيط و الإشراف علي تنفيذ العديد من العمليات ذات الدرجات المتفاوتة من النجاح و تضمنت إما إنقاذ لأفراد أو إختطاف أو إغتيال أو الدفاع عن العديد من قادة الحرب و نظرا لكفائته أصبح واحد من رجال أدولف هتلر المفضلين و ملاذه الدائم عند الحاجة للقيام بعمليات جريئة و هو ما دفع الحلفاء إلي تلقيبه بأخطر رجل في أوروبا و رغم نهاية الحرب إلا أن أوتو سكورزيني لم يتوقف عن العمل بل أنتقل للتعاون مع العديد من الدول و من بينهم مصر لنقل خبراته الأمنية و العسكرية إليهم .
ولد ” أوتو سكورزيني ” عام 1908 لعائلة نمساوية من الطبقة المتوسطة و أصبح نازيًا في وقت مبكر بعد إنضمامه إلي الفرع النمساوي من الحزب عام 1931 و بدء مسيرته العسكرية حين إندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939 و واجهتها بعض من الصعوبات في بادئ الأمر بعد رفض طلبه الإنضمام للقوات الجوية الألمانية المعروفة بإسم اللوفتوافا بسبب طوله و تقدمه في العمر حيث كان يبلغ وقتها 31 عامًا لذلك إنضم إلي قوات الأمن الخاصة و أصبح ضابطًا متدربًا في فوج الحرس الشخصي لهتلر و خلال الفترة من عام 1940 و حتي 1942 قاتل في ساحة المعركة في ” هولندا ” و ” فرنسا ” و الجبهة الشرقية حيث كاد أن يفقد حياته فيها بعد أن أصابته شظية في رأسه لكنه واصل القتال حتى أعاقته جراحه و أدخل إلي المستشفى لشجاعته و حصل على أول صليب حديدي .
و أثناء تعافي ” أوتو سكورزيني ” في ” برلين ” أصبح مهتمًا بعمليات الكوماندوز حيث قرأ كل ما في وسعه عن الحروب غير التقليدية و تكتيكات حرب العصابات و سرعان ما صاغ أفكاره الخاصة التي جذبت إنتباه ” والتر شيلينبرج ” رئيس جهاز المخابرات الأجنبية الذي عينه رئيس لوحدة خاصة يطلق عليها إسم ” فريدنثال ” من أجل تطبيق أفكاره و لسوء الحظ لم تسر مهمته الأولي التي أطلق عليها إسم ” عملية فرانسوا ” وفقًا للخطة لكن مهمته التالية ” عملية البلوط ” التي حدثت في يوليو عام 1943 حققت النجاح المرجو منها بعد أن تمكن من إنقاذ الزعيم الإيطالي ” بينيتو موسوليني ” عقب الإطاحة بحكومته و إعتقاله في مكان سري و تعهد ” هتلر ” بإنقاذه حيث تم تكليف مجموعة من أفضل ظباط الإستخبارات ومن بينهم ” أوتو سكورزيني ” الذي نجح في الوصول إليه و تحريره و إيصاله بأمان إلي ” ألمانيا ” و هو ما أكسبه سمعة حسنة عند ” هتلر ” و كافأه بوسام صليب الفرسان حتى أن خطة التحرير أثارت إعجاب رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل ” و هكذا بدأت أسطورة ” أوتو سكورزيني ” .
و بعد مرور بضعة أشهر طلب ” هتلر ” من ” أوتو سكورزيني ” أن ينفذ مهمة لا تقل جرأة عن سابقتها و لكن تلك المرة من أجل التخلص من أعدائه الرئيسيين أثناء وجودهم في مكان واحد و أطلق عليها إسم عملية ” الوثب الطويل ” حيث كان مطلوب منه هو و القوات الخاصة التابعة له بالتسلل إلى مؤتمر ” طهران ” و إغتيال الزعماء الثلاثة الكبار” فرانكلين روزفلت و ونستون تشرشل و جوزيف ستالين ” إلا أنها لم تنفذ بعد الكشف عن تفاصيلها علي يد العميل السوفيتي ” نيكولاي كوزنتسوف ” الذي تسلل إلي داخل القوات الألمانية و شارك رائد ألماني في قوات الأمن الخاصة الشراب و منه عرف كافة التفاصيل التي تم إبلاغ رؤسائه بها حيث سمحوا للألمان بتنفيذ المرحلة الأولي منها بعد أن وصل فريق من مشغلي اللاسلكي إلي ” طهران ” للتحضير لوصول قوات الكوماندوز الألمانية و هناك أعترض الجواسيس السوفييت رسائلهم و التي أشارت إلي أن ” أوتو سكورزيني ” و رجاله سينزلون بالمظلات إلى ” إيران ” قبل أسابيع قليلة من بدء المؤتمر و مع توفر الأدلة الدامغة لتلك العملية قامت السلطات بإعتقال الألمان و إحباط الخطة و لم يصل ” سكورزيني ” وفريقه إلى ” إيران ” قط .
و رغم تشكيك عدد من المؤرخين في صحة ” عملية الوثب الطويل ” و إعتبارها مجرد دعاية سوفيتية رد السوفييت أنها حقيقية و أن ظباطهم رفيعي المستوي الذين شاركوا فيها وثقوها في عدد من الكتب و لكن أي كانت الحقيقة فعلي الرغم من فشل ” أوتو سكورزيني ” في تنفيذها إلا أنه نجح في مهمته اللاحقة التي لم تكن مجرد عملية عسكرية و لكن حماية للقيادة النازية من تهديد كاد أن يطيح بها و ذلك بعد أن لعب دورًا أساسيًا في إعادة النظام إلى ” برلين ” في أعقاب محاولة اغتيال ” هتلر ” في 20 يوليو عام 1944 حين قام بقيادة هجوم علي قوات المتأمرين و تمكن من دخول قاعدتهم و إلغاء عملية الإنقلاب ” فالكيري ” و إعادة الإتصالات إلى مقر الفوهرر و بالتالي منع نشوب معارك عسكرية محتملة بين القوات الألمانية و بعضها و عند تلك اللحظة عرف ” هتلر ” أنه يستطيع أن يثق في ” أوتو سكورزيني ” تمامًا و بحلول أكتوبر عام 1944 تم تكليفه بمهمة إختطاف ابن الزعيم المجري الأدميرال ” هورثي ” للضغط عليه لبقاء بلاده في جانب ” ألمانيا ” خلال الحرب و نجح في تنفيذها و تمكنت الخطة التي عرفت بإسم ” عملية القبضة المدرعة ” من تحقيق أهدافها .
و رغم أهمية العمليات السابقة التي قام بها ” أوتو سكورزيني ” إلا أن مهمته الأكثر شهرة كانت ” العملية جريف ” التي كانت جزءًا من محاولة ” هتلر ” الأخيرة لقلب الطاولة على الحلفاء حيث كان هدفه الرئيسي يتطلب الإستيلاء على الجسور الرئيسية فوق نهر ميوز خلال ” معركة بولجي ” و فيها إبتكر ” سكورزيني ” عملية حصان طروادة التي تطلبت من رجاله الذهاب إلي خلف خطوط العدو في آردين البلجيكية و هم يرتدون زي الجنود الأمريكيين و يسببون أقصى قدر من الذعر و الإرتباك في صفوف القوات و رغم المعوقات التي واجهها نتيجة عدم تحدث جنوده الإنجليزية بشكل متقن إضافة إلي وجود نقص في الزي و المعدات الأمريكية المناسبة إلا أنه تم تنفيذها في 16 ديسمبر عام 1944 و نجح رجاله في قطع أسلاك الإتصالات و إصدار أوامر وهمية و إدارة إشارات الطرق بشكل أثار جنون الأمريكيين و دفعهم عن طريق الخطأ إلي إطلاق النار على بعضهم البعض و لم يكن هناك أي حلول أمامهم لتلك المشكلة سوي قيام الجنود الأمريكيين بإستجواب بعضهم البعض حول الثقافة الشعبية الأمريكية لكشف الألمان .
و خلال ” العملية جريف ” حدثت عدد من المواقف الطريفة تدل علي مدي إرتباك قوات الحلفاء أبرزها إحتجاز العديد من الجنود الأمريكيين و حتى الجنرالات عند نقاط التفتيش بسبب إجابتهم على أسئلة خاطئة فعلى سبيل المثال رفض الفيلد مارشال ” برنارد مونتجمري ” إظهار هويته و تم إطلاق النار على إطارات سيارته ثم تم جره إلى حظيرة و تقييده حتى يتم التأكد من شخصيته لكن الإرتباك الأكبر و الضربة الرئيسية للعملية جاء من ” أوتو سكورزيني ” نفسه عندما أطلق شائعة بين صفوفه مفادها أن الهدف الحقيقي لتلك العملية هو الوصول إلي الجنرال ” دوايت أيزنهاور ” قائد قوات التحالف الذي كان لا يزال في ” باريس ” لذلك أمضى ” أيزنهاور ” بعض الوقت في الحجز الوقائي بينما كان شخص بديل يقوم بجولاته اليومية و رغم نجاح العديد من رجال ” أوتو سكورزيني ” في تنفيذ عدد من المهمات المتعلقة بتلك العملية إلا أنه كان من الصعب أن تنجح بشكل كامل نظرا لعدم قدرة المحتالين على تقليد بروتوكولات الجيش الأمريكي بشكل صحيح و قد تم إطلاق النار على العديد منهم كجواسيس لإنتحال صفة الجانب المعارض .
و بحلول نهاية الحرب كان ” أوتو سكورزيني ” قد تلقى أوراق البلوط لصليبه الحديدي و هو أعلى وسام يمنحه النازيين و مع ذلك فإن توجيهاته لرجاله بارتداء الزي العسكري الأمريكي جعلته في موقف صعب عام 1947 في محاكمات جرائم الحرب التي قام بها الحلفاء في ” داخاو ” و لكن لحسن حظه نجا من الإعدام عندما أكد عدد من ظباط الجيش البريطاني أنهم كانوا أيضا يرتدون الزي الألماني أثناء الحرب ثم بدأت لائحات تهم جديد توجه إليه إلا أنه تجاوزها بعد أن ساعده رجال سابقين في قوات الأمن الخاصة التابعين له علي الفرار بعد أن أرتدوا زي الشرطة العسكرية الأمريكية و أدعى لاحقًا أن مكتب الخدمات الإستراتيجية OSS الذي أصبح بعد ذلك وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA هي من ساعدته على الهروب مقابل خدماته و في عام 1950 إنتقل إلى ” إسبانيا ” حيث حصل علي حق اللجوء و بدت حياته الجديدة مع زوجته طبيعية نسبيًا على ما يبدو لكن ربما كانت أعماله بمثابة واجهة لمساعدة العديد من النازيين على الهروب إلى ” إسبانيا ” أو أمريكا اللاتينية .
و بعد قيام ثورة 1952 في ” مصر ” سافر ” أوتو سكورزيني ” الي القاهرة للعمل كمستشارا للرئيس المصري ” محمد نجيب ” حيث بدء في تجنيد العديد من الظباط الألمان الذين كانوا يعملون فى الجيش الألماني و القوات الخاصة للعمل فى ” مصر ” حيث قام بتدريب وحدات من الجيش المصري و بعض من المتطوعين العرب على تكتيكات حروب العصابات لإحتمالية قتالهم القوات البريطانية المتمركزة في منطقة قناة السويس بالإضافة الى تدريب العديد من الفلسطينيين لشن غارات على ” إسرائيل ” عبر قطاع غزه خلال الفترة ما بين عامي 1953 و 1954 و كان أحد المتدربين الفلسطينيين هو الزعيم الراحل ” ياسر عرفات ” و بعد رحيل ” محمد نجيب ” إستمر فى العمل كمستشارا للرئيس ” جمال عبد الناصر ” و بعدها ترك ” مصر ” ليعمل كمستشارا للرئيس الأرجنتيني ” خوان بيرون ” و حارسا شخصيا لزوجته ” إيفا بيرون ” و تشير بعض المصادر إلي أنه تعاون لفترة مع الموساد الإسرائيلي .
إقرأ أيضا : فيتالي يورتشينكو الجاسوس الروسي الذى تلاعب بالمخابرات السوفيتية و الأمريكية فى وقت واحد
و في 5 يوليو عام 1975 توفي ” أوتو سكورزيني ” عن عمر يناهز 67 عامًا و أقيمت له جنازتين واحدة في ” مدريد ” و الأخرى في مسقط رأس عائلته في ” فيينا ” و في كلتا الحالتين تلقى وداعًا نازيًا كاملاً من قدامي المحاربين النازيين الذين قدموا له التحية النازية و قاموا بغناء بعض أغاني ” هتلر ” المفضلة.