نتيجة حضارتنا و فكرنا و ثقافتنا من السهل علينا نحن بنى البشر أن نشعر بأننا متفوقين بطريقة ما عن باقى الكائنات الحية التى تعيش معنا على كوكب الأرض و لعل أهم عامل قد ساهم فى تسيد الإنسان على تلك المخلوقات هو أننا نعيش بشكل مريح فى مجتمع متحضر و لكن فى واقع الأمر انه لو تم إنتزاع كل ذلك من بنى البشر فأنه سوف يعيش حياة بدائية تتحكم فيها الغرائز و الشهوات و يكون الهدف الأساسي فيها هو الصراع من أجل البقاء مثل سائر الحيوانات و هو ما حدث بالفعل أوائل الثلاثينيات لألاف السجناء فى الإتحاد السوفيتي الذين تم إرسالهم الى براري روسيا المتجمدة فى جزيرة نازينو المنعزلة و نظرا لفقدانهم الأمل بالعيش فيها بشكل أدمى تجردوا من طبيعتهم البشرية و تحولوا مع مرور الوقت الى وحوش و أكلي للحوم البشر يتغذون على بعضهم البعض لضمان بقائهم على قيد الحياة و تصبح القاعدة الأساسية للعيش فى ذلك المكان هى البقاء للأقوى .
بدأت قصة جزيرة نازينو التى أصبحت معقلا لأكلى لحوم البشر عام 1933 فى عهد الزعيم السوفيتي ” جوزيف ستالين ” الذى حكم البلاد بالحديد و النار حين تفتق فى ذهن أحد مساعديه و هو “جنريك ياجودا” الذى كان يشغل منصب رئيس المديرية السياسية المشتركة للدولة التي كانت قوة الشرطة السرية السوفيتية خطة كبيرة تتمحور حول إرسال ما يصل إلى 2،000،000 مواطن من الغير مرغوب فيهم إلى المناطق المقفرة في “سيبيريا” و “كازاخستان” من أجل إنشاء ما يسمى “المستوطنات الخاصة” و التي يعرفها معظمنا اليوم باسم معسكرات الاعتقال سيئة السمعة و كان يُعتقد أنه في غضون عامين ستكون هذه المستوطنات المليئة بـ “المستعمرين العماليين” قادرة على استصلاح هذه الأراضي البرية التي لم يمسها أحد مما سيساهم فى وصول البلاد فى حالة إكتفاء ذاتي من الغذاء و فى نفس الوقت تنقية و تطهير المدن السوفيتية من عناصرها البغيضة التي كانت تعتبر في الأساس طفيليات تتغذى من المجتمع المتحضر .
و كان من بين هؤلاء الأشخاص الغير مرغوب فيهم و المقرر إرسالهم المشردين و المتسولين و المجرمين الصغار و الغجر و المعاقين عقليًا و المجانين و أي شخص لا يتناسب مع مُثُل الهيكل الطبقي الشيوعي و بحلول أبريل عام 1933 تم القبض على 25000 شخص منهم و تحميلهم في قطارات ضيقة كريهة الرائحة و إرسالهم إلى المناطق البعيدة فى البرية المتجمدة حيث كانت الرحلة مروعة لعدم وجود الكثير من الطعام و الماء للتنقل مما تسبب في ظهور عصابات تضرب أو تقتل السجناء الآخرين لسرقة طعامهم و ممتلكاتهم و بمجرد وصولهم إلى “تومسك” لم تتحسن الأمور نظرا لأن المكان سيئ التجهيز و غير مؤهل لإستقبال طوفان السجناء المتدفق حيث لم يكن هناك ما يكفي من الطعام و الماء لهؤلاء السجناء البائسين و المرضى و الخطرين لذلك ليس من المستغرب أن يموت العديد منهم بسبب تلك الظروف لكن بالنظر إلى ما سيحدث بعد ذلك ربما كانوا من المحظوظين .
و لمحاولة تخفيف الضغط عن الموارد المتاحة و المحدودة عن ذلك المخيم المكتظ تم اختيار حوالي 6000 من السجناء و نقلهم إلى معسكر مؤقت آخر و بإستخدام أربعة صنادل نهرية كانت تُستخدم عادة لنقل الأخشاب تم وضعهم جميعا بداخلها و نقلهم إلى بقعة معزولة من الأرض تعرف بإسم ” جزيرة نازينو ” و هى منطقة معزولة تحيط بها الأنهار من كل جانب يبلغ طولها حوالي 3 كيلومترات و عرضها 600 متر و كان من الواضح أن الظروف على متن القوارب أسوأ مما كانت عليه فى القطارات حيث ظل السجناء محشورين تحت الطوابق السفلية و لم يخصص لهم سوى 200 جرام من الخبز المتعفن للفرد يوميا و لم يكن هناك أى طعام آخر و لا أواني طبخ و لا ملابس إضافية مع قليل جدًا من الماء حتى الحراس المرافقين للسجناء كانوا من المجندين الجدد الذين لم يكن لديهم زي رسمي و في بعض الحالات حتى أحذية و بحلول الوقت الذي وصلت فيه المراكب إلى “جزيرة نازينو” كان 27 من السجناء قد ماتوا بالفعل بسبب الظروف المروعة و حوالي ثلث الباقين كانوا بالكاد يملكون القوة للوقوف .
و وصل السجناء الى ” جزيرة نازينو ” و سرعان ما سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ عندما تبين لهم أن موطنهم الجديد عبارة عن أرض قاحلة متجمدة خالية من أي مصادر غذائية طبيعية و فى اليوم الأول توفي 300 سجين نتيجة عاصفة ثلجية أثناء نومهم في العراء دون مأوى و بسبب صعوبة ظروف العيش فى المكان تم التخلي عن السجناء و تركوا لتدبر أمورهم بأنفسهم من دون إمدادات أو أدوات أو أواني طهي و لم يكن معهم هناك سوى عدد قليل من الحراس الذين كانوا عمليا متهالكين مثلهم للحفاظ على النظام و كان الشيء الوحيد الذي بقي معهم هو حوالي 20 طنًا من الدقيق المتعفن الذي تم إلقاؤه على شاطئ الجزيرة ثم توزيعه بالتساوي لكن الأمور تحولت إلى حالة من الفوضى عندما اجتمع السجناء الجائعين على الدقيق بشكل غير منظم أدى الى حدوث تدافع تحول بسرعة إلى مشاجرات و أعمال شغب و انتهى الأمر بالحراس المذعورين الى إطلاق النار على هذا الحشد مما تسبب في مقتل و جرح العديد منهم أما بالنسبة لأولئك الذين تمكنوا من تأمين الدقيق لأنفسهم كانت مشاكلهم قد بدأت للتو نظرًا لعدم وجود أفران أو معدات أو حتى أي حاويات لوضعه فيها لصنع الخبز لذلك لجأ معظمهم إلى خلط الدقيق بمياه النهر المتسخة و المصابة بالأمراض و تناولوه نيئًا و هو ما أدى إلى انتشار أوبئة الزحار والتيفود .
و إدراكًا من بعض السجناء أنهم سيواجهون مصيرًا حتميا بالموت حال بقائهم فى ” جزيرة نازينو ” حاول العديد منهم الهرب على متن قوارب بدائية الا ان خطتهم لم تسير مثل ما كانوا يريدون حيث تم إطلاق النار على بعض منهم من قبل الحراس المتمركزين في الجزيرة بينما غرق آخرون عندما تحطمت قواربهم تحت أقدامهم في مياه النهر القاسية و حتى أولئك الذين تمكنوا بالفعل من الهرب أكتشفوا كيف كانت خططهم مضللة نظرًا لأن الشيء الوحيد الذي يمكن العثور عليه في اتجاه مجرى النهر كان مساحات شاسعة من التايجا السيبيرية المتجمدة و لم تكن هناك طرق تؤدي إلى الحضارة لمئات الكيلومترات حولها لأن أقرب مستوطنة تقع على بعد مئات الكيلومترات من “تومسك” التي أتوا منها لذلك كان من المفترض اعتبار حفنة الأشخاص الذين نجحوا فى الهروب بأنه محكوم عليهم بالموت في تلك الأراضي السيبيريّة الوعرة و المقفرة .
و بالعودة الى الأفراد الذين ظلوا فى ” جزيرة نازينو ” ففي غضون أيام قليلة من وصولهم مات العشرات منهم لسوء المعيشة و كانت معظم الجثث ملقاة في العراء و لم يمض وقت طويل قبل أن تبدأ الجماهير الجائعة في اللجوء إلى التغذى على لحوم أولئك الموتى و أصبح من الشائع رؤية الجثث التي تم تقطيعها و لم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى بدأ السجناء في قتل الأحياء أيضا للتغذى عليهم مثل الحيوانات و انتشرت عصابات متجولة من الناس المهووسين بالجوع و كان أغلب ضحياهم من المرضى أو الضعفاء حيث كانوا يقتلوهم بوحشية و يأكلون لحومهم نيئة و في إحدى الروايات المزعجة بشكل خاص يُزعم أنه تم القبض على امرأة شابة و ربطها بشجرة حيث جردها أكلى لحوم البشر المتعطشين للدماء من اللحم بينما كانت لا تزال على قيد الحياة تتلوى من الألم كما كانت هناك ممارسة شائعة بين السجناء تسمى “نزيف البقرة” حيث تقوم مجموعة بإغراء سجناء آخرين من خلال دعوتهم للانضمام إليهم في محاولة للهروب فقط لقتلهم بوحشية و سحقهم من أجل لحومهم و لم يكن الحراس القلائل المتمركزين في ” جزيرة نازينو ” لهم فائدة فى حماية الضحايا في مواجهة حمام الدم هذا حيث كان بعضهم غير منضبطين و فاسدين و العديد منهم يبتز السجناء على أساس منتظم حتى أن أحد المسؤولين قد صرح ذات مرة أن حراس ” جزيرة نازينو ” لم يفرقوا كثيرا عن السجناء و بعد سنوات عديدة قالت إحدى الناجيات من المحنة و التى أصبحت في الثمانينيات من عمرها أنها وصلت إلى “جزيرة نازينو” و هي فتاة تبلغ من العمر 13 عامًا و رأت الناس يموتون في كل مكان و يقتلون بعضهم البعض و عندما ذهبت على طول الجزيرة رأت لحمًا بشريًا ملفوفًا في خرق و اخر تم تقطيعه و تعليقه في الأشجار كما كانت الحقول مليئة بالجثث .
و رغم كل تلك الفظائع الا ان السلطات السوفيتية اما انها لم تكن تعلم أو لم تهتم حيث استمرت في إرسال المزيد من السجناء إلى الجزيرة و مع وصول 1200 سجين أخر في 27 مايو يقال أن بعض هؤلاء الوافدين الجدد قد تعرضوا لهجوم وحشي للحصول على لحومهم بمجرد نزولهم من القارب و مع تفاقم إراقة الدماء و موت المزيد من الناس بدأت الحكومة تدرك خطورة الوضع و أصبحت قلقة من أن بعض السجناء المجانين بالدماء و الموجودين في الجزيرة قد يشقون طريقهم إلى القرى النائية في المنطقة و ترويع سكانها لذلك تم إرسال التعزيزات إلى ” جزيرة نازينو ” لمساعدة الحراس الموجودين بها و اعتقال عشرات السجناء بتهمة أكل لحوم البشر و بحلول الوقت الذي تم فيه إغلاق المخيم تمامًا بعد شهر واحد فقط من بدايته أشارت التقديرات بأن 4000 شخص من أصل 6000 تم إحضارهم قد لقوا حتفهم و كثير منهم قد ماتوا بشكل عنيف و من المرجح أن تظل الأرقام الحقيقية غير معروفة إلى الأبد .
بعد ذلك أطلقت اللجنة الإقليمية للحزب الشيوعي لغرب سيبيريا لجنة للتحقيق في ما حدث على أراضى “جزيرة نازينو” لكن التقرير دُفن على الفور و تم الاحتفاظ به في طي الكتمان حيث كان من الشائع في ذلك الوقت قمع تلك النوعية من المعلومات و أولئك الذين كتبوا عن معسكرات العمل كان يتم اعدامهم او اعتقالهم و لعقود من الزمن أنكرت الحكومة ما حدث و تسترت عليها الى أن بدأت الحقيقة في الظهور عام 1988 بسبب جهود جمعية الحقوق المدنية و التاريخية الروسية التي تُدعى “ميموريال” التي تعقبت تدريجياً الوثائق السرية الخاصة بذلك الحادث و جعلتها معروفة للعالم الخارجي و لكن لم يتم نشر تقرير اللجنة الفعلي عن “جزيرة نازينو” الذي قدمته الحكومة السوفيتية عام 1933 بالكامل سوى فى عام 2002 بسبب جهود “النصب التذكاري.” ميموريال ” بالإضافة إلى مجهودات مؤلفين أخرين مثل المؤرخ الفرنسي “نيكولاس ويرث” الذي أمضى سنوات في البحث بدقة في الأرشيفات المفقودة و وثائق للمعلومات التى اعتمد عليها كمصادر في كتابه المتعمق للغاية عن القضية الذى عنونه بإسم “جزيرة آكلي لحوم البشر” و نُشر في عام 2006.