يعتبر إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما و ناجازاكي هى فصل ختام الحرب العالمية الثانية حين قامت الولايات المتحدة بقصف المدينتين بذلك السلاح الفتاك يومي 6 و 9 من أغسطس عام 1945 على التوالي و أسفر التفجيران عن مقتل مئات الألاف من الأشخاص معظمهم من المدنيين و نظرا للدمار الذى لحق بالمدينتين قامت اليابان بإعلان إستسلامها للحلفاء يوم 15 أغسطس و ذلك بعد ستة أيام من إعلان الاتحاد السوفيتي الحرب عليها و وقعت الحكومة اليابانية على وثيقة الاستسلام يوم 2 سبتمبر و تعتبر الحادثتين حتى اللحظة هى الاستخدام الوحيد للأسلحة النووية في النزاعات المسلحة و لا يزال هناك الكثير من الجدل حول التبرير الأخلاقي و القانوني لذلك العمل حيث يعتقد المؤيدين أن القصف النووي كان ضروريًا لإنهاء الحرب بسرعة و بأقل عدد من الخسائر فى صفوف الحلفاء فى الوقت الذى يقول فيه المعارضين أن اليابان كانت على وشك الإستسلام لذلك لم يكن هناك أى داعي لكل ذلك الكم من الدمار و الوفيات بين المدنيين بسبب أستخدام تلك القنبلتين .
الأبحاث الذرية المبكرة
جاءت نقطة التحول في البحث عن الطاقة الذرية في يناير عام 1939 أى قبل ثمانية أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية حين أثبت العالمان الألمانيان “أوتو هان” و “فريتز ستراسمان” على أنه يمكن قصف اليورانيوم بالنيوترونات لإنتاج نظائر مشعة من الباريوم و اللانثانوم و عناصر أخرى من وسط الجدول الدوري و لأهمية هذا الاكتشاف قام “ليز مايتنر” و “أوتو فريش ” و هما عالمان يهوديان فروا من “ألمانيا” بنقله إلى العالم “نيلز بوهر” في مدينة ” كوبنهاجن ” بالدانمرك و الذى كان يستعد للسفر إلى “الولايات المتحدة” حيث وصل إلى “نيويورك” في 16 من يناير عام 1939 و ناقش الأمر مع “ألبرت أينشتاين” و “جون أرشيبالد ويلر” و آخرين قبل أن يعلن للعالم في يوم 26 يناير اكتشاف عملية أطلق عليها اسم “الانشطار” و اقترح “إنريكو فيرمي” على “بوهر” أن النيوترونات قد تنطلق أثناء عملية الانشطار مما يزيد من احتمال حدوث تفاعل نووي متسلسل مستمر حيث أثارت هذه الاقتراحات الثورية إهتمام علماء الفيزياء و أشارت الدراسات اللاحقة التي أجراها “بوهر و ويلر” إلى أن الانشطار لم يحدث في “اليورانيوم 238” و هو نظير اليورانيوم الأكثر شيوعًا في الطبيعة و لكنه من الممكن أن يحدث في “اليورانيوم 235” و تدريجيًا بدأ حل العديد من الألغاز المحيطة بالانشطار و بحلول يونيو عام 1940 أصبحت الحقائق الأساسية المتعلقة بإطلاق الطاقة الذرية معروفة في جميع أنحاء العالم العلمي و كان ذلك هو تمهيد لسلاح فتاك و هو القنبلة الذرية .
مشروع مانهاتن
البرنامج الذري الأمريكي
أثناء مشاركتها في الحرب العالمية الثانية في أوروبا و المحيط الهادئ أطلقت “الولايات المتحدة” أكبر جهد علمي تم القيام به فى ذلك الوقت و الذى أشتمل فى 37 منشأة في جميع أنحاء البلاد و أكثر من عشرة مختبرات جامعية و 100 ألف شخص بما في ذلك الفيزيائيين الحائزين على جائزة نوبل “آرثر هولي كومبتون” و “إنريكو فيرمي” و “ريتشارد فاينمان” و “إرنست لورانس” و “هارولد أوري” و تم إجراء أول اتصال بين المجتمع العلمي و حكومة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالبحوث الذرية بواسطة “جورج ب. بيجرام ” من جامعة “كولومبيا” و الذى نظم لقاء بين “فيرمي” و ضباط من البحرية الأمريكية في مارس عام 1939 و في يوليو التقى “ليو تسيلارد” و “يوجين فيجنر” مع “أينشتاين” و ذهب الثلاثة في وقت لاحق إلى “نيويورك” للقاء الاقتصادي “ألكسندر ساكس” في إدارة التعافي الوطنية حيث سلمه “أينشتاين” خطابا ليتوجه به ” ساكس ” الى الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” يشرح فيه الانشطار النووي و على إثر الخطاب أمر بتشكيل اللجنة الاستشارية لليورانيوم و عين “ليمان بريجز” مدير المكتب الوطني للمعايير ليكون رئيسًا لها و في فبراير عام 1940 تم توفير تمويل قدره 6000 دولار لبدء البحث و الذى تجاوزت ميزانيته لاحقا 2 مليار دولار و كان نتاجه القنبلة الذرية .
و مع التقدم فى الحرب أصبح المسؤولين الأمريكيين على دراية تامة بالطموحات الذرية لدى الزعيم الألمانى “أدولف هتلر” حيث كان قد كتب ” أينشتاين ” في رسالته إلى “روزفلت” صراحةً إلى انه كانت توجد احتياطيات من اليورانيوم في “تشيكوسلوفاكيا” و قد وقعت تحت سيطرة الرايخ الثالث في مارس عام 1939 و فى تلك الأثناء أيضا كان البريطانيين قد بدأوا في دراسة الانشطار لذلك قام “أوري و بيجرام” بزيارة المملكة المتحدة لمعرفة ما يجري هناك و بحلول أغسطس عام 1943 تم إنشاء لجنة مشتركة للسياسات مع “المملكة المتحدة” و “كندا” انتقل على اثره عدد من علماء تلك الدول إلى “الولايات المتحدة” للانضمام إلى المشروع الذي كان بحلول ذلك الوقت قيد التنفيذ .
و نظرًا لعدم وجود طريقة لمعرفة التقنية التي ستنجح في إنشاء قنبلة وظيفية مسبقًا فقد تقرر العمل في وقت واحد على عدة طرق لعزل اليورانيوم 235 و ذلك لمحاولة تحقيق هدفين أولهم معرفة المزيد عن التفاعل المتسلسل لتصميم القنبلة الذرية و ثانيا تطوير طريقة لإنتاج عنصر جديد و هو البلوتونيوم الذي كان من المتوقع أن يكون انشطاريًا أيضا و ذات تفاعلات تسلسلية أكبر من اليورانيوم لذلك فقد تطلبت تلك الأبحاث مرافق معقدة و ضخمة و كميات هائلة من الطاقة الكهربائية لإنتاج كميات صغيرة من اليورانيوم 235 و بدا من الواضح أنه يجب بناء بنية تحتية مادية هائلة لدعم المشروع .
من ستاج فيلد الى لوس ألاموس
و في يوم 18 يونيو عام 1942 كلفت وزارة الحرب بإدارة أعمال البناء المتعلقة بالمشروع إلى منطقة “مانهاتن” التابعة لفيلق المهندسين بالجيش الأمريكي و في 17 سبتمبر تم تكليف الجنرال “ليزلي جروفز” بجميع أنشطة الجيش المتعلقة بالمشروع و أصبح “مشروع مانهاتن” الاسم الرمزي المطبق على هذه الهيئة التى تشرف على الأبحاث الذرية التي ستمتد عبر البلاد و تم إنشاء أول مفاعل تجريبي و المكون بمكعب من الجرافيت بأبعاد 2.4 متر و يحتوي على حوالي سبعة أطنان من أكسيد اليورانيوم بجامعة كولومبيا في يوليو عام 1941 و بحلول نهاية ذلك العام تم نقل أعمال المفاعل إلى جامعة “شيكاغو” و في 2 ديسمبر 1942 تم تنفيذ أول تفاعل نووي متسلسل ذاتي الاستدامة تحت إشراف “فيرمي” في مفاعل شيده في ملعب اسكواش تحت مدرجات ملعب “ستاج فيلد” المخصص للعبة كرة القدم و قد ثبت الآن أن الإطلاق المنظم للطاقة الذرية ممكن لإنتاج الطاقة و تصنيع البلوتونيوم .
و في فبراير عام 1943 بدأ بناء مصنع تجريبي لتخصيب اليورانيوم يقع على نهر كلينش في وادي تينيسي على بعد حوالي 24 كم غرب نوكسفيل فى ولاية “تينيسي” على قطعة أرض مساحتها 180 كيلومترًا مربعًا و أستوعبت ما يقرب من 5000 فني و موظف صيانة و مع ذلك بالنسبة للمفاعلات كاملة الحجم الخاصة بالمشروع كان من الضروري إنشاء موقع أكثر عزلة و كان “جروفز” قد أعرب عن قلقه بشأن قرب المفاعل التجريبي من “نوكسفيل” اضافة الى أن المفاعلات الأكبر حجمًا سوف تحتاج الى طاقة أكبر بكثير مما يمكن استيعابها في وادي تينيسي لذلك في يناير عام 1943 اختار “جروفز” ارض ذات مساحة 1500 كيلومتر مربع في جنوب وسط ولاية “واشنطن” و تخصيصها لمرافق إنتاج البلوتونيوم في المشروع حيث كان الموقع مرغوبًا فيه لعزلته النسبية و لتوافر كميات كبيرة من مياه التبريد من نهر “كولومبيا” مع الطاقة الكهربائية القادمة من سد “جراند كولي” و منشآت سد “بونفيل” الكهرومائي و نتيجة ذلك المشروع فقد أدى الى تشريد الكثير من السكان المحليين و الذين منحوا مهلة 90 يومًا فقط لإخلاء منازلهم و أُجبر سكان مناطق أخرى من الأمريكيين الأصليين على الانتقال إلى مكان أخر و فقدوا الوصول إلى مناطق الصيد التقليدية و بدأ العمل فى المجمع الذى عرف بإسم ” هانفورد ” و الذى وصل الى ذروته صيف عام 1944 و كان يعمل به وقتها أكثر من 50000 شخص .
و مع الوصول الى المراحل النهائية من المشروع كان من الضروري العثور على موقع أبعد من “هانفورد” لأغراض الأمن و السلامة حيث تم اختيار موقع من قبل المدير العلمي لمشروع مانهاتن “جيه روبرت أوبنهايمر” و الذى كان فى منطقة “لوس ألاموس” بولاية “نيو مكسيكو” على بعد 55 كم شمال “سانتا في” و ابتداءً من أبريل عام 1943 بدأ العلماء و المهندسين بالوصول إلى مختبر “لوس ألاموس” كما كان يُطلق عليه آنذاك و بتوجيه من “أوبنهايمر” تم تكليف هذا الفريق بتطوير طرق لتقليل حجم المنتجات الانشطارية إلى معدن نقي و تصنيع هذا المعدن في مكونات سلاح قابل للتسليم و يجب أن يكون السلاح صغيرًا بما يكفي لإسقاطه من طائرة و بسيطًا بما يكفي بحيث يمكن صهره لينفجر في اللحظة المناسبة في الهواء فوق الهدف لذلك بدء الفريق عمله فى تنفيذ تلك التوجيهات حيث عاش أكثر من 5000 عالم و مهندس و فني و عائلاتهم في موقع لوس ألاموس لإنتاج القنبلة الذرية .
إختبار ترينتي
توفي الرئيس “روزفلت” في 12 أبريل عام 1945 و خلال 24 ساعة من وفاة الرئيس تم إطلاع الرئيس الجديد “هاري ترومان” على برنامج القنبلة الذرية حيث كانت استسلمت “ألمانيا” في مايو 1945 و بذلك أنتهت الحرب في أوروبا فعليا و لكن ظل القتال محتدما في المحيط الهادئ و بدا واضح للعيان ان المعارك الدامية التى شهدتها جزر “إيو جيما” و “أوكيناوا” مجرد بروفة مأساوية لما سيكون عند غزو الجزر اليابانية الأصلية لذلك بقي هناك دافع قوي لدى الامريكيين لرؤية “مشروع مانهاتن” حتى نهايته و لذلك بحلول صيف عام 1945 كانت مصانع الإنتاج قد سلمت كمية كافية من المواد الانشطارية لإنتاج انفجار نووي و تقدم تطوير القنبلة الذرية لدرجة أنه كان يمكن إجراء اختبار ميداني فعلي لسلاح نووي و كان من الواضح أن مثل هذا الاختبار لن يكون أمرًا بسيطًا لأنه كان لابد من تجميع مجموعة كبيرة من المعدات المعقدة بحيث يمكن تحليل نجاح أو فشل الاختبار .
و استقرت فرق تطوير القنبلة في “لوس ألاموس” على تصميمين محتملين الأول من خلال تغذيتها بعنصر اليورانيوم 235 عبر استخدام مواد شديدة الانفجار سوف تجعله يصل إلى الكتلة الحرجة مما يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل الانشطارية و كان المهندسين واثقين من أن هذا التصميم البسيط نسبيًا سينجح لكن كانت المشكلة فى أن الكمية الكافية من اليورانيوم 235 لن تكون متاحة حتى 1 أغسطس 1945 و لذلك تم التفكير فى عنصر البلوتونيوم حيث كان مجمع “هانفورد” قادرًا على توصيل ما يكفي من البلوتونيوم 239 للاختبار بحلول أوائل يوليو و لكن قال العلماء ان نموذج القنبلة تلك لن يكون متوافقًا مع البلوتونيوم كمصدر للوقود لذلك تم اقتراح تصميم بديل يتم تغذيته بعنصر البلوتونيوم .
و لاجراء أختبار القنبلة الذرية اختار “أوبنهايمر” موقعًا على بعد 193 كم جنوب البوكيرك فى “نيو مكسيكو” و أطلق عليه اسم “الثالوث” و تم رفع القنبلة الذرية الأولى و التى كانت محملة بالبلوتونيوم إلى قمة برج من الصلب يبلغ ارتفاعه 30 مترًا والذي تم تحديده بالمنطقة صفر و تم وضع علامة على المنطقة الموجودة في قاعدة البرج و تواجد المسؤولين العسكريين و العلماء فى مراكز المراقبة على مسافات تتراوح من 9 إلى 15.5 كم و قد صدرت لهم تعليمات بضرورة حماية أعينهم من وميض الانفجار الخاطف .
و في صباح يوم الاختبار كانت السماء مظلمة و تمطر مع وجود برق و رغم ذلك تم التفجير في الساعة 5:29:45 صباحًا في 16 يوليو عام 1945 و تسبب الانفجار في حدوث وميض قوى أضاء قمم الجبال على بعد 16 كم و سرعان ما أعقب ذلك هدير هائل متواصل مصحوبًا بهبوب رياح شبيهة بالإعصار في المكان الذي كان يقف فيه البرج و كانت هناك كرة نارية متصاعدة كبيرة تليها سحابة عيش الغراب التي ارتفعت حوالي 12200 متر في السماء و أدت حرارة الانفجار إلى تبخير البرج تمامًا و في مكانه كانت حفرة على شكل صحن قطرها حوالي 800 متر و عمقها حوالي 8 أمتار و أنتجت القنبلة قوة تفجيرية تعادل ما يقرب من 21000 طن من مادة (TNT) و شوهد الانفجار من مسافة 80 كيلومترا و حطم النوافذ على بعد 200 كيلومتر و أفاد سكان “جالوب” الذين كانوا على بعد أكثر من 290 كم من مركز الانفجار أنهم شعروا بهزة الأرض و في محاولة لتفادي التساؤلات على تلك التجربة أصدر الجيش بيانًا موجزًا للصحافة بإنفجار مستودع ذخيرة يحتوي على كمية كبيرة من المتفجرات شديدة الانفجار و لكن لم يكن هناك فقدان فى الأرواح او اى اصابات .
و وصلت أخبار الاختبار الناجح إلى ” هارى ترومان ” الذي كان يحضر الاجتماع الأخير لقوى الحلفاء “الثلاثة الكبار” في “بوتسدام” و أبلغ “ترومان” الزعيم السوفيتي “جوزيف ستالين” أن “الولايات المتحدة” تمتلك سلاحًا جديدًا من القوة المدمرة غير العادية و في يوم 26 يوليو أصدر الثلاثة الكبار إنذارًا نهائيًا داعين “اليابان” إلى الاستسلام دون قيد أو شرط أو مواجهة التدمير الفوري و المطلق و عندما أصبح من الواضح أنه لا يوجد استسلام وشيك دخلت خطط استخدام القنبلة حيز التنفيذ و حاول البعض اقناع قادة البلاد لمحاولة تفجير قنبلة ذرية تجريبية فى موقع غير مأهول في المحيط الهادئ لاخافة اليابانيين و تم النظر في ذلك الامر و لكن سرعان ما تم التخلص من الفكرة بسبب المخاوف من أن القنبلة التجريبية قد لا تثير رد فعل كافٍ من الحكومة اليابانية و فى تلك الأثناء تم تعديل العشرات من قاذفات B-29 لحمل ذلك النوع من الأسلحة .
قصف هيروشيما
في يوم 16 يوليو و بعد ساعات فقط من الانتهاء الناجح لاختبار ترينيتي غادر الطراد الثقيل “يو إس إس إنديانابوليس” الميناء في “سان فرانسيسكو” بآجزاء من مكونات القنبلة الذرية و ما يقرب من نصف إمدادات “الولايات المتحدة” من اليورانيوم 235 و العديد من الفنيين في “لوس ألاموس” بينما تم نقل ما تبقى من مخزون “الولايات المتحدة” من اليورانيوم 235 إلى “تينيان” (واحدة من الجزر الرئيسية لجزر ماريانا ) على طائرات نقل و عند وصول الطراد “إنديانابوليس” في “تينيان” يوم 26 يوليو بدأ تجميع القنبلة التي أطلق عليها اسم ” الولد الصغير ” Little Boy ثم غادرت “إنديانابوليس” منطقة “تينيان” بعد التسليم لكن غواصة يابانية أغرقتها و هى في طريقها إلى “الفلبين” في 30 يوليو و توفي المئات من أفراد طاقمها أما بالنسبة للقنبلة الثانية و التى أطلق عليها اسم ” الرجل السمين ” Fat Man فقد تم نقل مكوناتها إلى “تينيان” عن طريق الجو و بحلول 2 أغسطس عام 1945 تم تجهيزهم و كان القادة الأمريكيون ينتظرون فقط استراحة في الطقس ليأمروا بتنفيذ مهمة القصف على الجزر اليابانية الرئيسية .
و كان “جروفز” قد ترأس اللجنة المسؤولة عن اختيار الأهداف و بحلول نهاية مايو 1945 تم تضييق القائمة على مدن “كوكورا و هيروشيما و نيجاتا و كيوتو” حيث كانت ” كيوتو ” عاصمة اليابان القديمة باستمرار على رأس القائمة لكن الجنرال “ستيمسون ” ناشد “ترومان” لإزالتها من الاعتبار بسبب أهميتها الثقافية و تم وضع مدينة “ناجازاكي ” مكانها و أصبحت “هيروشيما” الهدف الأساسي بسبب قيمتها العسكرية حيث كانت بمثابة المقر الرئيسي للجيش الياباني الثاني و لأن المخططين اعتقدوا أن استهداف مركز حضري سيظهر بوضوح مدى القوة التدميرية للقنبلة .
و تم تدريب الطيارين و الميكانيكيين و أطقم المجموعة 509 من القوة الجوية العشرين على قاذفات B-29 المعدلة خصيصًا و التي من شأنها أن تكون بمثابة مركبات توصيل للقنابل و كان الكولونيل ” بول تيبيتس جونيور ” قائد الفرقة 509 هو من سيقود الطائرة B-29 التي ستسقط القنبلة الأولى و كان طاقمه مكون من 11 رجلاً و قبل وقت قصير من إقلاعها حوالي الساعة 2:45 صباحًا في يوم 6 أغسطس عام 1945 طلب “تيبيتس” من عامل صيانة رسم اسم والدته “إينولا جاي” على مقدمة الطائرة التى أقلعت و هى بمرافقة قاذفتان أخريان من طراز B-29 لتكونا بمثابة طائرات مراقبة و تصوير و كانت السماء صافية فى ذلك اليوم و لم تواجه الطائرة أي مقاومة أثناء اقترابها من الهدف و في الساعة 7:15 صباحًا صعدت القاذفة إلى ارتفاع 9450 مترًا و تم اعلام قائدها من ثلاث طائرات استطلاع سبقته بأنه هناك القليل من الغطاء السحابى و انه يجب ان ينتقل الى الهدف الاساسى و فى تمام الساعة 8:00 صباحًا بالتوقيت المحلي شاهد طاقم القاذفة مدينة ” هيروشيما ” و في حوالي الساعة 8:12 صباحًا بدأ الاستعداد لقصف الهدف و الذى كان جسر ” إيويى ” و أمر القائد “تيبيتس” طاقمه بارتداء نظارات واقية و في الساعة 8:15 صباحًا تم إطلاق القنبلة .
و استغرق الأمر ما يقرب من 45 ثانية لتهبط القنبلة إلى ارتفاع 580 مترًا و عند هذه النقطة انفجرت في السماء فوق مستشفى “شيما” مباشرة و في غضون جزء من الثانية من التفجير تجاوزت درجة الحرارة على مستوى الأرض 7000 درجة مئوية و جابت موجة انفجارية قوية المشهد و من بين السكان البالغ عددهم 343000 نسمة قُتل حوالي 70.000 شخص على الفور و بحلول نهاية العام تجاوز عدد القتلى 100000 و تم تدمير ثلثي مساحة المدينة و ارتفعت سحابة عيش الغراب الضخمة إلى ارتفاع يزيد عن أكثر من 12 كم على الرغم من أن أقل من 2% من اليورانيوم 235 الموجود في القنبلة فقط هو ما قد حقق الانشطار و كانت القنبلة مرعبة في قوتها التدميرية و كان الناتج المتفجر ما يعادل 15000 طن من مادة تي إن تي حيث وصف “بوب كارون” الذى كان فى مدفع ذيل القاذفة و العضو الوحيد في الطاقم الذي راقب الانفجار مباشرة المشهد بأنه “زقزقة في الجحيم” و هزت سلسلة من الموجات التصادمية القاذفة أثناء مغادرتها المنطقة و على مسافة 640 كم كانت سحابة الفطر لا تزال مرئية و عند عودة القاذفة إلى “تينيان” بعد رحلة استمرت أكثر من 12 ساعة بقليل مُنح “تيبيتس” وسام الخدمة المتميزة .
و في وقت لاحق من ذلك اليوم خاطب “ترومان” شعب “الولايات المتحدة” و أشار الى انهم قد أنفقوا ملياري دولار على أكبر مقامرة علمية في التاريخ و قد فازوا بها بينما فى الجانب الأخر لم يتم فهم أخبار تدمير “هيروشيما” إلا ببطء و جادل بعض المسؤولين اليابانيين بأن برنامجهم الذري المتوقف قد أظهر مدى صعوبة صنع مثل هذا السلاح و جادلوا بأنه من الممكن أن تكون القنبلة التي أُلقيت على “هيروشيما” هي القنبلة الوحيدة في الترسانة الأمريكية و كان أعضاء آخرون في الحكومة اليابانية يجادلون منذ شهور لصالح تسوية تفاوضية و ربما بوساطة السوفييت و لكن تم إغلاق تلك النافذة فجأة في يوم 8 أغسطس عام 1945 أى بعد يومين من قصف “هيروشيما” عندما أعلن “الاتحاد السوفيتي” الحرب ضد “اليابان” .
قصف ناجازاكي
بحلول صباح يوم 9 أغسطس عام 1945 كانت القوات السوفيتية قد غزت منشوريا و جزيرة سخالين و رغم ذلك لم ترد أي كلمة من الحكومة اليابانية بشأن الاستسلام و في الساعة 3:47 صباحًا أقلعت قاذفة أخرى B-29 من “تينيان” و كان يقودها الرائد “تشارلز سويني” و كانت حمولتهم قنبلة ” الرجل السمين ” و التى كانت تشبه القنبلة التي تم تفجيرها في اختبار ترينيتي و كما هو الحال مع قصف “هيروشيما” سبقت الطائرة الهجومية طائرات B-29 أخرى تقوم باستطلاع الطقس حيث كان هناك ضباب خفيف و لكن تم الإبلاغ عن سماء صافية نسبيًا فوق الهدف الأساسي و هى مدينة ” كوكورا ” .
و في حوالي الساعة 9:45 صباحًا بالتوقيت المحلي وصلت القاذفة إلى “كوكورا” ولكن بحلول ذلك الوقت تدهورت الرؤية بشدة و حجبت السحب الكثيفة و الضباب المنطقة ربما نتيجة لهجوم بالقنابل الحارقة على مدينة “ياهاتا” القريبة في الليلة السابقة و حدثت ثلاث محاولات قصف و لكنها فشلت في الحصول على رؤية واضحة للهدف و مرت 45 دقيقة تقريبًا بينما ظلت القاذفة تحوم فوق “كوكورا” و بدأت المخاوف بشأن تناقص احتياطيات الوقود و الدفاعات اليابانية المضادة للطائرات لذلك بدأوا فى التفكير الى أنه سيتعين عليهم المضي قدمًا إلى الهدف الثانوي لذلك توجهت القاذفة جنوبا باتجاه “ناجازاكي” و التى لم تكن بالأساس هدفا مثاليا جغرافيا ففي حين كانت “هيروشيما” ذات سطح مستوي كانت “ناجازاكي” الحضرية مقسمة إلى وديان ساحلية تفصل بينهما مجموعة من التلال و هى أمور ستقلل من القدرة التدميرية لسلاح أقوى بكثير من القنبلة التي أُلقيت على “هيروشيما” و لكن لم يكن امامهم اى بدائل اخرى و كان الهدف فيها سيكون مصنع أسلحة “ميتسوبيشي” بالقرب من ميناء المدينة حيث كان هذا الموقع يقع بين وديان مكتظة بالسكان .
و قبل الساعة 11:00 صباحًا بالتوقيت المحلي بقليل وصلت القاذفة التى كانت معروفة بإسم “بوكسكار” إلى مدينة “ناجازاكي” ليجدوها محاطة بسحب أكثر كثافة مما كانت عليه “كوكورا” و عند هذه النقطة كانت الطائرة تنفد من الوقود لدرجة أن “سويني” أبلغ الطاقم بأنهم لن يتمكنوا إلا من القيام بتحليق واحد فوق المدينة و ظهرت فجوة في السحب في أقصى الشمال من الهدف المقصود و أطلقت القنبلة التى هبطت على ارتفاع 500 متر و في الساعة 11:02 صباحًا انفجرت فوق “وادي أوراكامي” شمال غرب وسط المدينة و انفجرت ” الرجل السمين ” بقوة تفجيرية قدرها 21 ألف طن من مادة تي إن تي و قُتل ما يقدر بنحو 40 ألف شخص على الفور و توفى لاحقا ما لا يقل عن 30 ألف آخرين متأثرين بجروحهم و تسممهم الإشعاعي بحلول نهاية العام و بطبيعة الحال كان من المستحيل إجراء حساب دقيق لعدد القتلى حيث تم تدمير العديد من السجلات بواسطة القنبلة الذرية و حوالي 40% من مباني المدينة دمرت بالكامل أو تعرضت لأضرار جسيمة لكن جزءًا كبيرًا من “ناجازاكي” لا سيما في المنطقة الصناعية و الحكومية الجنوبية الشرقية لم يصب بأذى نسبيًا و اهتزت القاذفة خلال انسحابها بسلسلة من موجات الصدمة أثناء تحليقها بعيدًا و التقطت طائرات المراقبة صورًا لسحابة عيش الغراب و هي ترتفع عشرات الآلاف من المترات في الهواء و نظرا لعدم قدرة القاذفة على العودة الى “تينيان” بسبب حالة الوقود اليائسة قام قائدها بتوجيه القاذفة نحو “أوكيناوا” لهبوط اضطرارى .
استسلام اليابان
كان قرار “ترومان” باستخدام ذلك السلاح مصدر نقاش و جدل لعقود من الزمن لكن تأثير القنبلة الذرية التى ألقيت على “ناجازاكي” كان شبه فوري حيث وضع الإمبراطور “هيروهيتو” جانبًا تقليد عدم التدخل الإمبراطوري في الشؤون السياسية و أعلن دعمه لقبول شروط إعلان “بوتسدام” و في 10 أغسطس أصدرت الحكومة اليابانية بيانًا بالموافقة على الاستسلام على أساس استمرار وضع الإمبراطور كحاكم ذي سيادة على البلاد و تم رفض هذا الشرط على الفور حيث رد وزير الخارجية الأمريكي “جيمس بيرنز” نيابة عن الحلفاء قائلا “من لحظة الاستسلام تخضع سلطة الإمبراطور و الحكومة اليابانية لحكم الدولة للقائد الأعلى للحلفاء ” و عند هذه النقطة كان “جروفز” قد أخطر “ترومان” بأن قنبلة أخرى ستكون جاهزة في غضون أيام .
و في 14 أغسطس قبلت الحكومة اليابانية شروط الحلفاء و في اليوم التالي بثت الإذاعة اليابانية خطابا مسجلا من “هيروهيتو” أعلن فيه استسلام اليابان و بالنسبة لمعظم اليابانيين كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها صوت الإمبراطور و انتهت الحرب العالمية الثانية رسميًا في 2 سبتمبر 1945 بتوقيع وثائق الاستسلام على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية ميسوري .
الخسائر و الأضرار و إرث هيروشيما وناجازاكي
بعد وقت قصير من انتهاء الأعمال العدائية سافر عالم الفيزياء في “مشروع مانهاتن” ” فيليب موريسون ” إلى مدينة “هيروشيما” بناءً على طلب وزارة الحرب لدراسة آثار القنبلة الذرية حيث قال “أنها تدمر بسرعة و بصورة كاملة” حيث دمرت القنبلة 26 من 33 محطة إطفاء حديثة في “هيروشيما” مما أسفر عن مقتل أو إصابة ثلاثة أرباع رجال الإطفاء و من بين 298 طبيباً مسجلاً نجا 30 فقط من الإصابة و تمكنوا من رعاية الناجين و قتل أكثر من 1800 من الممرضين و الممرضات البالغ عددهم 2400 في المدينة أو أصيبوا بجروح خطيرة و كل مستشفى باستثناء واحد فقط دمرت أو لحقت بها أضرار بالغة و كانت محطات الطاقة الكهربائية و السكك الحديدية و الهواتف و خطوط التلغراف معطلة و مرعوبًا مما شاهده قضى “موريسون” بقية حياته في حملة ضد الأسلحة النووية و “القنبلة الثالثة” المحتملة .
و في 30 يونيو عام 1946 أعلنت وزارة الحرب الأمريكية عن نتائج التحقيق الرسمي في تفجيري “هيروشيما و ناجازاكي” و التى تم تجميعها من قبل المهندسين و العلماء في “مشروع مانهاتن” الذين تمكنوا من الوصول إلى البيانات التي تم رصدها بواسطة مسح القصف الاستراتيجي الأمريكي و البعثة البريطانية إلى “اليابان” و لجنة إصابات القنبلة الذرية حيث ذكر التقرير أن “هيروشيما” تكبدت 135 ألف ضحية أو أكثر من نصف سكانها و كان أكبر عدد من هؤلاء حدث بعد القصف مباشرة اما “ناجازاكي” فقد تكبدت 64000 ضحية .
و ذكر التقرير أن آثار القنبلة الذرية على الإنسان كانت ثلاثة أنواع رئيسية : (1) الحروق ، بما في ذلك الحروق الخاطفة الناجمة عن الإشعاع (2) الإصابات الميكانيكية الناتجة عن الحطام المتطاير و سقوط المباني و آثار الانفجارات (3) الإصابات الإشعاعية الناجمة بالكامل عن أشعة جاما و النيوترونات المنبعثة في لحظة الانفجار و تسببت الحروق في حوالي 60 % من الوفيات في “هيروشيما” و حوالي 80% في “ناجازاكي” و تسبب سقوط الحطام و الزجاج المتطاير في 30% من الوفيات في “هيروشيما” و 14% في “ناجازاكي” و تسبب الإشعاع في 10% من الوفيات في “هيروشيما” و 6% في “ناجازاكي” و لم يتم العثور على كمية ضارة من النشاط الإشعاعي المستمر في أي من المدينتين في الأشهر التي أعقبت التفجيرات و خلص التقرير إلى أنه في “هيروشيما” تم تدمير جميع المباني تقريبًا التي تقع على بعد 1.6 كم من مركز الانفجار بالكامل باستثناء المباني المصنوعة من الخرسانة المسلحة و في تلك المباني التي ظلت قائمة تم تدمير الأجزاء الداخلية و الأبواب و الأطر و جميع النوافذ و تعرض أكثر من 60.000 مبنى من إجمالي 90.000 مبنى في “هيروشيما” للتدمير أو لأضرار بالغة و في “ناجازاكي” انهارت المباني الخرسانية المسلحة ذات سماكة الجدران 25 سم و التي تقع على بعد 610 متر من مركز الانفجار .
و على الرغم من كل الموت والدمار الذي تسببت فيه فقد كان يبدو أن وحدة أراضي “اليابان” كانت مهددة بعدها أيضا حيث كشفت الوثائق التي تم الكشف عنها بعد انهيار “الاتحاد السوفيتي” أن “ستالين” كان مستعدًا لاحتلال جزيرة “هوكايدو” و ربما ضمها في الأسبوعين التاليين لخطاب “هيروهيتو” و الاستسلام الياباني الرسمي بعد أن وُعدت بالفعل بضم جزر الكوريل بموجب شروط اتفاقيات “يالطا” و لكن نتيجة الضغط من “ترومان” و التهديد الضمني بالقنبلة الذرية فقد دفع ذلك ” ستالين ” إلى قيامه بإلغاء الغزو المقرر قبل أيام فقط من حدوثه.
و بدأت مرحلة إعادة إعمار واسعة النطاق في كلتا المدينتين خلال الاحتلال الأمريكي لليابان ففي “هيروشيما” تم وضع مخطط شامل للتخطيط في عام 1950 و سرعان ما أصبحت المدينة مركزًا صناعيًا للمنطقة و نجا المصنع الرئيسي لمازدا موتور كوربوريشن من القصف و في “ناجازاكي” أعيد بناء حوض أوراكامي الذي دمره الانفجار بينما نجت أجزاء كبيرة من المدينة التاريخية من الحرب و أصبحت كل من “هيروشيما و ناجازاكي” مراكز روحية لحركة حظر الأسلحة النووية و تم انشاء منتزه السلام التذكاري في “هيروشيما” لتكريم الضحايا الذين قتلوا من انفجار القنبلة الذرية .