الحرب العالمية الأولى و المعروفة أيضًا بالحرب العظمى هي نزاع دولي حدث بين عامي 1914-1918 و تورطت فيه معظم دول أوروبا إلى جانب روسيا و الولايات المتحدة و الشرق الأوسط و مناطق أخرى حيث دارت بشكل أساسي بين طرفين هم قوى المركز الممثلة فى دول ألمانيا و النمسا و المجر و تركيا و بلغاريا ضد قوى الحلفاء فرنسا و المملكة المتحدة و روسيا و إيطاليا و اليابان و بداية من عام 1917 أنضمت اليهم الولايات المتحدة و بعد أربع سنوات من الإقتتال انتهت بهزيمة قوى المركز بعد معارك دامية و مدمرة بشكل غير مسبوق و كانت تلك الحرب واحدة من أعظم نقاط التحول في التاريخ الجيوسياسي للقرن العشرين و أسفرت عن سقوط أربعة سلالات إمبراطورية عظيمة و اندلاع الثورة البلشفية في روسيا و تحولها الى الإتحاد السوفيتي و ظهور دول جديدة على الخريطة كما عملت على زعزعة استقرار المجتمع الأوروبي و ساهمت فى وضع الأسس التى تسببت فى دخول العالم الى مرحلة دموية جديدة و هى الحرب العالمية الثانية .
إندلاع الحرب العالمية الأولى
مع تعاظم دور “صربيا” بسبب حربي البلقان (1912-13 ، 1913) أعاد القوميين الصرب انتباههم إلى فكرة تحرير السلاف الجنوبيين من قبضة “النمسا-المجر” و كان الكولونيل “دراجوتين ديميترييفيتش” رئيس المخابرات العسكرية الصربية و الذى حمل الاسم المستعار “أبيس” رئيسًا للجمعية السرية “اتحاد أو الموت” و الذى تعهد بالسعي لتحقيق ذلك الطموح الصربي و أعتقد أن قضية الصرب ستخدم بموت أرشيدوق النمسا “فرانز فرديناند” الوريث المفترض للإمبراطور النمساوي “فرانز جوزيف” و بعد علمه أن الأرشيدوق كان على وشك زيارة البوسنة في جولة تفتيش عسكرية تآمر “أبيس” على اغتياله حيث وصلت معلومات تلك المؤامرة الى “نيكولا باشيتش ” رئيس الوزراء الصربي و خصم “أبيس” و قام بتحذير الحكومة النمساوية منها لكن رسالته كانت مصاغة بحذر شديد بحيث لا يمكن فهمها .
و في تمام الساعة 11:15 صباحًا يوم 28 من يونيو عام 1914 و في العاصمة البوسنية “سراييفو” قُتل “فرانز فرديناند “و زوجته “صوفي” دوقة “هوهنبرج” برصاص الصربي “جافرييلو برينسيب” و كان الرد الإنتقامي هو اتخاذ إجراءات لإذلال “صربيا” و لتعزيز هيبة “النمسا و المجر” في البلقان و الذان كانا قد تلقوا وعود سابقة من قبل “ويليام الثاني” على دعم “ألمانيا” إذا كان على “النمسا و المجر” أن يبدأوا حربًا وقائية ضد “صربيا” و تم تأكيد تلك الوعود في الأسبوع الذي تلا الاغتيال قبل أن ينطلق “ويليام” في رحلته البحرية السنوية إلى “نورث كيب” قبالة “النرويج” لذلك قرر النمساويين تقديم إنذار غير مقبول إلى “صربيا ” ثم إعلان الحرب معتمدين على أن “ألمانيا” ستقوم بردع “روسيا” حال تدخلها و على الرغم من أن الرد على شروط الإنذار كان من المفترض أن تكون في يوم 19 من يوليو الا أنه تم تأجيل تسليمه إلى مساء يوم 23 يوليو بسبب أن الرئيس الفرنسي “ريمون بوانكاريه” و رئيس الوزراء “رينيه فيفياني” قد انطلقوا في زيارة رسمية إلى “روسيا” للتنسيق معهم على رد فعل فوري مع حلفائهم الروس عندما يتم الإعلان عن الرد على ذلك الإنذار و في 24 يوليو أعلنت “روسيا” أنه يجب عدم السماح للنمسا و المجر بسحق “صربيا” .
و من ناحيتها ردت “صربيا” على الإنذار النهائي في 25 من يوليو بقبول معظم مطالبها لكنها رفضت اثنين منها و المتعلقة بضرورة اعفاء المسؤولين الصرب بناءً على طلب “النمسا و المجر” و أن يشارك المسؤولين النمساويين و المجريين السلطة على الأراضي الصربية و على الرغم من أن “صربيا” عرضت تقديم القضية إلى التحكيم الدولي إلا أن “النمسا و المجر” قطعوا العلاقات الدبلوماسية معها على الفور و أمروا بتعبئة جزئية و خلال عودته الى موطنه قادما من رحلته البحرية علم ” ويليام الثاني ” في 28 يوليو رد “صربيا” على الإنذار و على الفور أصدر تعليماته لوزارة الخارجية الألمانية لإخبار النمسا و المجر أنه لم يعد هناك أي مبرر للحرب و أنه يجب أن تكتفي باحتلال مؤقت لبلجراد و لكن في غضون ذلك كانت وزارة الخارجية الألمانية قد قدمت تشجيع الى “النمسا و المجر” يوم 27 من يوليو بالسماح لهم بالحرب ضد “صربيا” و في الواقع تم إعلان الحرب في 28 يوليو و في اليوم التالي بدأت المدفعية النمساوية المجرية في قصف “بلجراد” و فى المقابل قامت “روسيا “بتعبئة جزئية ضد “النمسا” و “المجر” و في 30 يوليو أمرت بالتعبئة العامة أما “ألمانيا” فقد أرسلت إنذارًا مدته 24 ساعة يطالب “روسيا” بوقف تحشيدها و إنذارًا مدته 18 ساعة يطلب من “فرنسا” التعهد بالحياد في حالة اندلاع حرب بين “روسيا” و “ألمانيا” .
و تجاهلت كل من “روسيا” و “فرنسا” هذه المطالب كما كان متوقعا و في 1 أغسطس أمرت “ألمانيا” بالتعبئة العامة وأعلنت الحرب ضد “روسيا” و بالمثل أمرت “فرنسا” بالتعبئة العامة و في اليوم التالي أرسلت “ألمانيا” قواتها إلى “لوكسمبورج” و طالبت “بلجيكا” بالمرور الحر للقوات الألمانية عبر أراضيها المحايدة و في 3 أغسطس أعلنت “ألمانيا” الحرب على “فرنسا” رسميا و في ليلة 3-4 أغسطس غزت القوات الألمانية “بلجيكا” و بناءً على ذلك أعلنت “بريطانيا العظمى” الحرب ضد “ألمانيا” و التي لم يكن لديها اهتمام بصربيا و ليس لديها التزام صريح بالقتال إما من أجل “روسيا” أو من أجل “فرنسا” و لكنها كانت ملتزمة صراحةً بالدفاع عن “بلجيكا” و بدأت باقى الدول تعلن الحرب على خصومها تباعا و رغم تجديد “رومانيا” تحالفها السري ضد “روسيا” مع قوى المركز في 26 من فبراير عام 1914 الا انها اختارت أن تظل محايدة و لو بشكل مؤقت اما ” إيطاليا ” فرغم تأكيدها على التحالف الثلاثي الذى وقع في 7 ديسمبر 1912 الا أنها لم تكن ملزمة بدعم حلفائها في حرب عدوانية كما أن المعاهدة نصت صراحةً على أن التحالف لم يكن ضد “إنجلترا” .
و في 5 سبتمبر عام 1914 أبرمت “روسيا و فرنسا و بريطانيا العظمى ” معاهدة “لندن” و وعد كل منهم بعدم عقد سلام منفصل مع قوى المحور و من الآن فصاعدًا يمكن أن يطلق عليهم اسم قوى الحلفاء أو الوفاق و الغريب انه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى أستقبلت أخبارها في أغسطس 1914 بثقة و ابتهاج بشكل عام من قبل شعوب أوروبا التي ألهبتهم موجة من الشعور الوطني و كان فقط قلة من الناس هم من تخيلوا إلى أي مدى يمكن أن تكون الحرب كارثية بين الدول الكبرى في أوروبا حيث أعتقد معظم الناس أن بلدهم سينتصر في غضون أشهر و لذلك تم الترحيب بالحرب إما وطنيا كحرب دفاعية فرضتها الضرورة الوطنية أو من الناحية المثالية لدعم الحق ضد القوة و عقاب لعدم احترام المعاهدات و الأخلاق الدولية .
قوات وموارد الدول المقاتلة عام 1914
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى امتلكت قوى الحلفاء موارد ديموغرافية و صناعية و عسكرية أكبر من القوى المركزية اضافة الى تمتعهم بوصول أسهل إلى المحيطات للتجارة مع الدول المحايدة لا سيما “الولايات المتحدة” و كان جميع المتحاربين الأوائل في الحرب العالمية الأولى مكتفين ذاتيًا في الغذاء باستثناء “بريطانيا العظمى” و “ألمانيا” و كانت المؤسسة الصناعية في “بريطانيا ” متفوقة قليلاً على “ألمانيا” (17 في المائة من التجارة العالمية في عام 1913 مقارنة بـ 12 في المائة لألمانيا) لكن فى المقابل كانت الصناعة الكيميائية المتنوعة في “ألمانيا” سهلت إنتاج المواد المصطنعة أو البدائل التي عوضت النقص الناجم عن الحصار البريطاني في زمن الحرب و كان الكيميائي الألماني “فريتز هابر” يطور بالفعل عملية لتثبيت النيتروجين من الهواء و هو جعل الألمان مكتفين ذاتيًا من المتفجرات و بالتالي لم تعد تعتمد على واردات النترات من “تشيلي” .
و رغم التفاوت فى اعداد الجنود بين الخصمين المتحاربين فى الحرب العالمية الاولى الا انه حدثت بعض من التوازنات حيث قللت الحالة العليا من الانضباط و التدريب و القيادة و التسليح للجيش الألماني من النقص العددى لجيوش القوى المركزية حيث كان فى المقابل لدى ” روسيا ” بطء نسبي في التعبئة و ضعف القيادة العليا و انخفاض مستوى تسليح الجيوش و ساهم ذلك التوازن فى منع أي من الجانبين من تحقيق نصر سريع كما تمتعت “ألمانيا” و “النمسا” أيضًا بميزة “خطوط الاتصال الداخلية” التي مكنتهما من إرسال قواتهما إلى نقاط حرجة على جبهات القتال بأقصر طريق و وفقًا لأحد التقديرات جعلت شبكة السكك الحديدية الألمانية من الممكن نقل ثمانية فرق في وقت واحد من الجبهة الغربية إلى الجبهة الشرقية في غضون أربعة أيام و نصف و الأكثر أهمية هو الميزة التي استمدتها “ألمانيا” من تقاليدها العسكرية القوية و كادرها من الضباط النظاميين ذوي الكفاءة العالية و الانضباط و الذين كانوا ماهرين في توجيه قواتهم و استغلال مزايا هجمات الأجنحة و كان عليهم أن يثبتوا عمومًا أنهم أكثر قدرة من نظرائهم الحلفاء في توجيه عمليات تشكيلات القوات الكبيرة أما بالنسبة الى القوات البحرية و التى تكونت من بوراج مدرعة و طرادات تحمل مدافع كبيرة و رغم المنافسة الشديدة من الألمان فقد حافظ البريطانيين على تفوقهم في العدد و نتيجة لذلك كان لدى الحلفاء ميزة ثنائية مقابل واحد تقريبًا على القوى المركزية فى السفن الكبيرة و ومع ذلك فإن التفوق العددي للبحرية البريطانية قابله الريادة التكنولوجية للبحرية الألمانية في العديد من الفئات مثل معدات اكتشاف المدى و حماية المجالات و الكشافات و الطوربيدات و الألغام أما “بريطانيا العظمى” فقد اعتمدت على البحرية الملكية ليس فقط لتأمين الواردات الضرورية من المواد الغذائية و الإمدادات الأخرى في زمن الحرب ولكن أيضًا لقطع وصول القوى المركزية إلى أسواق العالم و نتيجة وجود أعداد كبيرة من السفن الحربية البريطانية فقد أستطاعت أن تفرض حصارًا أضعف تدريجياً “ألمانيا” من خلال منع الواردات القادمة من الخارج .
تكنولوجيا الحرب عام 1914
تأثر التخطيط فى الحرب العالمية الأولى و إدارتها عام 1914 بشكل حاسم باختراع أسلحة جديدة و تحسين الأنواع الحالية من الأسلحة منذ الحرب الفرنسية الألمانية 1870-1871 حيث كانت التطورات الرئيسية في تلك الفترة الفاصلة هو المدفع الرشاش الحديث الذي تم تطويره في ثمانينيات و تسعينيات القرن التاسع عشر لأنه كان قادرا على تحمل معدلات إطلاق نار سريعة للغاية يمكن أن تصل الى 600 رصاصة في الدقيقة بمدى يزيد عن 900 متر حيث أعطت المدافع الرشاشة و المدفعية سريعة النيران ميزة محددة للدفاع عند استخدامها فى الخنادق و مواقع الأسلاك الشائكة لأن القوة النارية السريعة و المستمرة لهذه الأسلحة يمكن أن تقضي على هجوم أمامي من قبل المشاة أو الفرسان أما في مجال المدفعية الميدانية فقد شهدت الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى إدخال آليات تحميل و مكابح محسنة نظرا لأنه بدون تلك التقنية كانت تحدث آلية ارتداد و يخرج المدفع من موقعه أثناء إطلاق النار و كان لا بد من إعادة توجيهه بعد كل جولة .
كما شهدت الحرب العالمية الأولى تفاوت كبير في عام 1914 بين الفعالية المميتة للأسلحة الحديثة و التعاليم العقائدية لبعض الجيوش حيث كشفت حرب جنوب إفريقيا و الحرب الروسية اليابانية السابقتين عن عدم جدوى هجمات المشاة الأمامية أو سلاح الفرسان على مواقع عدة عندما لا تكون مصحوبة بمفاجأة كما نظر العديد من القادة إلى الحرب العالمية الأولى على أنها منافسة للإرادات و الروح و الشجاعة الوطنية و خير مثال على هذا الموقف هو الجيش الفرنسي الذي هيمنت عليه عقيدة الهجوم و دعت العقيدة العسكرية الفرنسية إلى توجيه تهم متهورة لجنود المشاة الفرنسيين لعدم وقوفهم ضد البنادق الألمانية و المدافع الرشاشة و المدفعية بينما فى المقابل سعى الفكر العسكري الألماني إلى تجنب الهجمات الأمامية و أولوا اهتمامًا أكبر لتدريب ضباطهم على التكتيكات الدفاعية باستخدام المدافع الرشاشة و الأسلاك الشائكة و التحصينات .
المراحل الأولى للحرب
الاستراتيجيات الأولية
خطة شليفن
قبل سنوات من عام 1914 كان رؤساء الأركان المتعاقبون في “ألمانيا” يتوقعون اضطرار بلادهم خوض حرب على جبهتين في نفس الوقت ضد “روسيا” في الشرق و “فرنسا” في الغرب و الذان كلاهما كانت قوتهم المشتركة تفوق عدديًا القوى المركزية لذلك الاستراتجية الألمانية أن تظل “ألمانيا” في البداية في موقع دفاعي في الغرب و توجيه ضربة قاصمة للقوات الروسية المتقدمة فى الشرق قبل أن تتحول إلى هجوم مضاد للتقدم الفرنسي الا أن “ألفريد جراف فون شليفن” الذي شغل منصب رئيس الأركان العامة الألمانية من عام 1891 إلى عام 1905 كان له رأي مخالف و كانت الخطة التي طورها هي توجيه استراتيجية ألمانيا الأولية في زمن الحرب حيث أدرك أنه عند اندلاعها ستحتاج “روسيا” إلى ستة أسابيع كاملة لتعبئة و تجميع جيوشها الضخمة نظرًا للريف الروسي الهائل و السكان و تناثر شبكة السكك الحديدية و عدم كفاءة البيروقراطية الحكومية و للاستفادة من هذه الحقيقة خطط “شليفن” في البداية لتبني موقف دفاعي بحت على الجبهة الشرقية مع الحد الأدنى من القوات التي تواجه الجيوش الروسية التي تتجمع ببطء و بدلاً من ذلك ستركز “ألمانيا” جميع قواتها تقريبًا في الغرب ضد “فرنسا” و ستسعى إلى تجاوز تحصينات الحدود الفرنسية بهجوم عبر “بلجيكا” المحايدة إلى الشمال و كان هذا الهجوم يكتسح غربًا ثم جنوبًا عبر قلب شمال “فرنسا” و يتم الاستيلاء على العاصمة و يخرج هذا البلد من الحرب في غضون أسابيع قليلة و بعد استتباب الأمن في الغرب ستنقل “ألمانيا” بعد ذلك قواتها إلى الشرق و تدمر الخطر الروسي بتركيز مماثل للقوات .
و بحلول وقت تقاعده في عام 1905 كان “شليفن” قد وضع خطة كبيرة و متحركة للجناح الأيمن للجيوش الألمانية ليس فقط عبر وسط “بلجيكا” و لكن أيضًا من أجل تجاوز الحصون البلجيكية و الدخول إلى “فرنسا” بالقرب من “ليل” ثم يستمر الألمان في التحرك حتى يصبحوا بالقرب من القناة الإنجليزية و إذا نجحت خطة “شليفن” فإن الجيوش الألمانية ستطوق في نفس الوقت الجيش الفرنسي من الشمال و تكتسح كل شمال شرق “فرنسا” و تستولي على “باريس” مما يجبرهم على استسلام مذل و تمت متابعة خطة “شليفن” من قبل “هيلموت فون مولتك” الذي أصبح رئيسًا لهيئة الأركان العامة في عام 1906 و كان لا يزال في منصبه عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 .
استراتيجية الجبهة الشرقية 1914
كانت “بولندا” الروسية و هي الجزء الغربي من الإمبراطورية الروسية لسانًا كثيفًا من الأرض محاطة من الشمال بشرق بروسيا و من الغرب “بولندا” الألمانية و سيليزيا و من الجنوب “بولندا” النمساوية و كان من الواضح تعرضها لغزو ذي شقين من قبل القوى المركز لكن الألمان بصرف النظر عن استراتيجيتهم الكبرى لسحق “فرنسا” أولا قبل محاولة أي شيء ضد “روسيا” فقد لاحظوا فقر شبكة النقل الروسية في “بولندا” و بالتالي كانوا غير مهتمين بتلك المنطقة الضعيفة و مع ذلك حثت “النمسا و المجر” التي كانت تخشى الاستياء بين الأقليات السلافية على اتخاذ بعض الإجراءات الفورية لإحباط أى هجوم روسي فى تلك المنطقة لذلك وافق “مولتك” على اقتراح هيئة الأركان العامة النمساوية بدفع الجيش النمساوي باتجاه الشمال الشرقي إلى “بولندا” الروسية و من جانبهم كان الروس يفضلون تركيز قواتهم المتاحة على الفور ضد “النمسا” و ترك “ألمانيا” دون عائق حتى يتم الانتهاء من تعبئتهم و كان الفرنسيين حريصين على تخفيف الضغط الألماني عن أنفسهم لذلك فقد أقنعوا الروس بشن هجوم بمشاركة جيشين ضد الألمان في شرق بروسيا في وقت واحد مع واحد يضم أربعة فرق ضد النمساويين في ” بولندا ” النمساوية .
استراتيجية الجبهة الغربية 1914
لحوالي 30 عامًا بعد عام 1870 و نظرًا لاحتمال اندلاع حرب أخرى مع ” ألمانيا ” اشتركت القيادة الفرنسية العليا في استراتيجية دفاعية أولية تتبعها ضربة مضادة للغزو المتوقع حيث تم إنشاء نظام كبير من الحصون على الحدود غير أن تحالف “فرنسا” مع “روسيا” و توافقها مع “بريطانيا العظمى” شجع على عكس الخطة و بعد نهاية القرن بدأت مدرسة جديدة من المفكرين العسكريين في الدفاع عن استراتيجية هجومية و في عام 1911 قام الجنرال “جوفري” رئيس هيئة الأركان العامة برعاية الخطة السابعة عشرة سيئة السمعة التي خاضت فرنسا الحرب العالمية الأولى من خلالها عام 1914 و التى استهانت بشدة بالقوة التي سينشرها الألمان ضد “فرنسا” و قدرت تلك الخطة أن يستخدم الألمان قواتهم الاحتياطية جنبًا إلى جنب مع القوات النظامية في البداية و خلال الأيام الافتتاحية الحاسمة للحرب و عندما كانت الجيوش المتنافسة تركز و تتقدم للأمام أحصت المخابرات الفرنسية فقط الفرق الألمانية العادية في تقديراتها لقوة العدو و كان هذا سوء تقدير خطير كما أخطأت الخطة السابعة عشر في تقدير اتجاه و نطاق الهجمة القادمة فعلى الرغم من أنها توقعت غزوًا عبر “بلجيكا” الا أنها أفترضت أن الألمان سوف يسلكون الطريق عبر “آردين” وبالتالي يعرضون اتصالاتهم للهجوم.
الحرب في الغرب عام 1914
الغزو الألماني
عبرت القوات الألمانية الحدود إلى “بلجيكا” صباح 4 أغسطس لكن الحصون المحيطة صمدت بعناد إلى أن استدعى الألمان مدافع الهاوتزر الثقيلة ضدهم في 12 أغسطس حيث أثبتت مدافع الحصار أنها هائلة جدًا فى التأثير بالنسبة للقلاع التي سقطت واحدة تلو الأخرى و كانت طليعة الغزو الألماني تضغط بالفعل على الجيش البلجيكي الميداني بين نهر جيت و “بروكسل” و عندما سقط آخر الحصون في 16 أغسطس و انسحب البلجيكيين شمالًا إلى معسكر “أنتويرب” الراسخ في 20 أغسطس دخل الجيش الألماني الأول “بروكسل” بينما ظهر الجيش الثاني أمام “نامور” القلعة المتبقية التي تصل الى طريق ميوز الواصل إلى “فرنسا” .
و تُعرف الاشتباكات الأولية بين الجيشين الفرنسي و الألماني فى الحرب العالمية الأولى على طول الحدود الفرنسية الألمانية و الفرنسية البلجيكية مجتمعة باسم معركة الحدود و كانت مجموعة الاشتباكات هذه التي استمرت من 14 أغسطس حتى بداية “معركة مارن الأولى” في 6 سبتمبر أكبر معركة في الحرب وربما كانت أكبر معركة في تاريخ البشرية حتى ذلك الوقت بالنظر إلى حقيقة أن ما مجموعه أكثر من مليوني جندي شاركوا فيها و بدأ التوغل الفرنسي المخطط له في “لورين” و الذي بلغ إجماليه 19 فرقة في 14 أغسطس و لكن تم تحطيمه من قبل الجيوش الألمانية في معركة “مورانج-ساربورج” (20-22 أغسطس) و مع ذلك كان لهذا الهجوم الفرنسي الفاشل تأثير غير مباشر على الخطة الألمانية فعندما تطور الهجوم الفرنسي في “لورين” تم إغراء “مولتك” مؤقتًا للسعي إلى تحقيق النصر في “لورين” و هو ما دفعه الى وضع تغييرات فى التشكيلات التى من المفترض أن تعيق تنفيذ خطة “شليفن” بشكل قاتل .
و نتيجة هدف الألمان نحو تحقيق النصر فى ” لورين ” كانت النتيجة الاستراتيجية لهذه الهجمات الألمانية غير المخطط لها هي مجرد رمي الفرنسيين مرة أخرى على حاجز محصّن أعادوا من خلاله تجميع قوتهم في المقاومة و تعزيزها و هكذا تم تمكين الفرنسيين بعد ذلك بوقت قصير من إرسال القوات لتعزيز أجنحتهم و إعادة توزيعها و هو كان من المفترض أن يكون لها نتائج بعيدة المدى في معركة “مارن” الحاسمة و لكن عند القيادة العامة الفرنسية أدرك ” جوفرى ” حقيقة انهيار الخطة السابعة عشر و بدء فى تشكيل خطة جديدة للخروج من تلك الورطة و على الجانب الأخر في 4 سبتمبر قرر “مولتك” التخلي عن خطة “شليفن” الأصلية و استبدالها بخطة جديدة الا انها كانت متأخرة حيث بدأت الهجمات المضادة للحلفاء قبل وضع الخطة الألمانية الجديدة حيز التنفيذ.
معركة مارن الأولى
بحلول أوائل سبتمبر بدأ الحلفاء فى هجوم مضاد على القوات الألمانية عرف بإسم “معركة مارن الأولى” و التى كان لها بالغ الأثر فى انسحاب القوات الألمانية و حدوث تحول كبير فى الأحداث و الذى يعزوه البعض الى عدد من العوامل أهمها الإرهاق المطلق للجيش الألماني فى جناحه الأيمن حيث سار بعضهم لأكثر من 240 كيلومترًا في ظل ظروف قتالية صعبه بينما كان الفرنسيين المنسحبين قادرين على تحريك القوات بالسكك الحديدية إلى نقاط مختلفة داخل الدائرة التي شكلتها الجبهة كما وجدت القوات الألمانية أن تقدمهم يعوقه الجسور المهدمة و خطوط السكك الحديدية المدمرة و نتيجة لذلك تم تقييد إمدادهم بالطعام و الذخيرة و اضطرت القوات أيضًا إلى التقدم سيرًا على الأقدام علاوة على ذلك استهانة الألمان بالروح المرنة للقوات الفرنسية الذين حافظوا على شجاعتهم و معنوياتهم و ثقتهم في قادتهم و قد تجلت هذه الحقيقة بشكل لافت للنظر من خلال العدد القليل نسبيًا من الأسرى الذين أخذهم الألمان في سياق ما كان بلا شك انسحابًا فرنسيًا متسرعًا.
و في هذه الأثناء كان الهجوم الذي شنه الجيشان الألمانيان السادس و السابع على دفاعات الحدود الشرقية الفرنسية قد أثبت بالفعل أنه فاشل و باهظ التكلفة و تم التخلي عن المحاولة الألمانية لتطويق جزئي حول “فردان” و انسحب الجناح اليميني الألماني شمالًا من “مارن” و تمركز على طول نهر أيسن السفلي و سلسلة جبال ” شومين ديس داميس ” و أعيد التأكيد على استراتجية الدفاع على الهجوم حيث صد الألمان هجمات الحلفاء المتتالية من ملجأ الخنادق و كانت “معركة أيسن الأولى” بمثابة البداية الحقيقية لحرب الخنادق فى الحرب العالمية الأولى على الجبهة الغربية و كان كلا الجانبين في طور اكتشاف أنه بدلاً من الهجمات الأمامية التي لم تتوفر لها القوة البشرية بسهولة كان البديل الوحيد هو محاولة التداخل و تطويق الآخر لذلك بدء نظر كلا الجانبين يتجه إلى الشمال فى البحر و القناة الإنجليزية و هكذا بدأ “السباق إلى البحر” حيث امتدت شبكات الخنادق النامية من كلا الجانبين بسرعة باتجاه الشمال الغربي حتى وصلت إلى المحيط الأطلسي في نقطة داخل ساحل “بلجيكا ” غرب أوستند .
و نجحت “معركة مارن الأولى” في دفع الألمان إلى الخلف لمسافة تتراوح من 40 إلى 50 ميلاً و بالتالي أنقذت العاصمة “باريس” من الاستيلاء عليها و في هذا الصدد كان انتصارًا استراتيجيًا عظيمًا لدى الفرنسيين فى الحرب العالمية الأولى لأنه مكّنهم من تجديد ثقتهم فى أنفسهم و مواصلة الحرب لكن الهجوم الألماني الكبير على الرغم من فشله في إخراج “فرنسا” من الحرب الا انه مكّنهم من الاستيلاء على جزء كبير من شمال شرق “فرنسا” و التى كانت منطقة صناعية شديدة الأهمية و تحتوي على الكثير من إنتاج الفحم و الحديد والصلب في البلاد مما شكل ضربة خطيرة لاستمرار المجهود الحربي الفرنسي الذين بدأوا فى الاستعداد للقيام بهجمات مضادة أخرى و هو ما توقعته القيادة الألمانية التى تغيرت فى 14 سبتمبر بتعيين “ريك فون فالكنهاين” خلفا لمولتك كرئيس للأركان العامة الألمانية .
و بحلول نهاية عام 1914 بلغ مجموع الخسائر التي تكبدها الفرنسيين حتى الآن في الحرب العالمية الأولى حوالي 380.000 قتيل و 600.000 جريح و فقد الألمان عددًا أقل قليلاً و استقرت الجيوش المتوترة و المنهكة لكلا الجانبين في حرب الخنادق و تم ترسيخ حاجز الخندق من الحدود السويسرية إلى المحيط الأطلسي و انتصرت قوة الدفاع الحديث على الهجوم و تلا ذلك حالة من الجمود و كان التاريخ العسكري للجبهة الغربية خلال السنوات الثلاث التالية قصة محاولات الحلفاء لكسر هذا المأزق .
الجبهات الشرقية والأخرى عام 1914
الحرب في الشرق 1914
على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الأولى كانت المساحات الأكبر و الاختلافات الكبيرة جدًا بين معدات و نوعية الجيوش المتحاربة تضمن سيولة الجبهة التي كانت غير موجودة فى الغرب فقد تتشكل خطوط الخنادق لكن لم يكن كسرها صعبًا خاصة بالنسبة للجيش الألماني فبعد بعد حث الفرنسيين للروس على اتخاذ إجراءات هجومية ضد الألمان أخذ القائد العام الروسي الدوق الأكبر “نيكولاس” الأمر بإخلاص و لكن قبل الأوان قبل أن تكون آلة الحرب الروسية المتكدسة جاهزة و أمر بتحريك جيشين قائدهم الجنرال “زيلنيسكى” و يكون الجيش الأول تحت قيادة ” رينينكامبف ” و الثانى تحت قيادة ” سامسونوف ” و الذان حاولا إطلاق حركة كماشة ضد شرق بروسيا فى ظل تفوق عددى اثنين إلى واحد بالنسبة اليهم الا انها لم تكن فعالة و بعدها منح الجنرال ” زيلنيسكى ” قياداته وقتًا لإعادة التنظيم و عندما علم الألمان في 25 أغسطس من رسالة لاسلكية روسية تم اعتراضها (اعتاد الروس إرسال توجيهات قتالية “بشكل واضح” وليس في شفرات) أنهم ليسوا في عجلة من أمرهم للتقدم رأى الألمان أن لديهم فرصة جديدة لتطويرخطتهم و محاصرة الجيش الثاني الروسي بالكامل حيث أصبحت هذه الخطوة الجريئة ممكنة بسبب الغياب الملحوظ للتواصل بين القائدين الميدانيين الروسيين و كان الألمان يعرفون أنهم يكرهون بعضهما البعض شخصيًا و لذلك و تحت ضربات الألمان المتقاربة تم سحق أجنحة قوات “سامسونوف” و تطويق مركزه خلال ايام 26-31 أغسطس و كانت نتيجة هذه التحفة العسكرية التي تسمى معركة “تانينبرج” التى أفضت الى تدمير أو الاستيلاء على جيش سامسونوف بأكمله تقريبًا و هنا يتجلى تاريخ المشاركة المؤسفة لروسيا الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى في النتيجة المخزية لتلك المعركة تحديدا حيث أصبحت حشود ذلك الجيش مجموعة من الرجال الجياع و المنهكين و سمحوا لأنفسهم بأن يتم أسرهم بالآلاف و أطلق “سامسونوف” النار على نفسه و هو في حالة من اليأس في 29 أغسطس و بحلول نهاية الشهر كان الألمان قد أسروا 92000 أسير و أبادوا نصف الجيش الثاني الروسي و لم يهب الجيش الأول لنجدتهم لأنه كان مشغولا هو الأخر بمواجهة الألمان .
و بمجرد القضاء على الجيش الثانى تحول الألمان الآن على الجيش الأول الذي كان يتقدم ببطء تحت قيادة “رينينكامبف” حيث هوجموا خلال الفترة من 1-15 سبتمبر وتم طردهم من شرق بروسيا و نتيجة لهذه المعارك فقدت “روسيا ” حوالي 250000 رجل و الكثير من معدات الحرب لكن غزو شرق بروسيا ساعد على الأقل في تمكين عودة الفرنسيين إلى “مارن” و بعد إنهاء التهديد الروسي لبروسيا الشرقية كان بإمكان الألمان تحويل الجزء الأكبر من قواتهم لمساعدة “النمسا” فى صد الهجمات الروسية و بحلول نهاية أكتوبر بدء الروس شن هجمات مضادة بقوة ساحقة بعد قيامهم بتعبئة جديدة ثم قاموا بجهد قوي لغزو “سيليزيا” البروسية بكتيبة ضخمة من سبعة جيوش و ارتفعت آمال الحلفاء عندما بدأت “المدافع البخارية الروسية” (كما كان يُطلق على الجيش الروسي الضخم) زحفها الهائل الا أن الجيش الألماني بحلول منتصف ديسمبر أستطاع اجبار الروس على التراجع و الذين استنفذوا إمدادات الذخيرة إلى خطوط الخنادق على طول نهرا نيدا و دونايك .
الحملة الصربية 1914
بدأ الغزو النمساوي الأول لصربيا فى الحرب العالمية الأولى بدونية عددية (من خلال جزء من أحد الجيوش المخصصة أصلاً لجبهة البلقان بعد أن تم تحويل مساره إلى الجبهة الشرقية في 18 أغسطس) و أستطاع القائد الصربي المقتدر “رادومير بوتنيك ” بصد تلك القوات و بعد بضعة أسابيع من الجمود بدأ النمساويين هجومًا ثانيًا ضد الجبهة الغربية للصرب على نهر “درينا” ثم هجومًا ثالثًا حقق بعض النجاح في “معركة كولوبارا” و أجبر الصرب على إخلاء العاصمة “بلجراد” في 30 نوفمبر و لكن بحلول 15 ديسمبر استعاد الصرب عبر هجومًا مضادًا العاصمة و أجبر النمساويين على التراجع و منع الوحل والإرهاق الصرب من تحويل الانسحاب النمساوي إلى هزيمة لكن الانتصار كان كافياً للسماح لصربيا لفترة طويلة من الحرية و التقاط الأنفاس ضد أى هجوم نمساوى اخر .
الدخول التركي
كان دخول تركيا (أو الإمبراطورية العثمانية آنذاك) في الحرب العالمية الأولى كحليف لألمانيا أحد النجاحات العظيمة للدبلوماسية الألمانية في زمن الحرب حيث كانت “تركيا” منذ عام 1909 تحت سيطرة الأتراك الشباب الذين اكتسبت “ألمانيا” من خلالهم نفوذاً مهيمناً بعد أن تغلغل المدربين العسكريين الألمان في الجيش التركي و رأى “أنور باشا” زعيم جماعة “تركيا الفتاة” أن التحالف مع “ألمانيا” هو أفضل طريقة لخدمة مصالح “تركيا” و لا سيما للحماية من التهديد الروسي للمضائق لذلك أقنع الوزير الأكبر “سعيد حليم باشا” بإبرام معاهدة سرية (تم التفاوض عليها في أواخر يوليو و تم توقيعها في 2 أغسطس) بوقوف “تركيا” إلى الجانب الألماني إذا كان على “ألمانيا” أن تتخذ جانب “النمسا و المجر” ضد “روسيا” و أثار دخول “بريطانيا العظمى” بشكل غير متوقع في الحرب ضد “ألمانيا” قلق الأتراك لكن وصول سفينتين حربيتين ألمانيتين في الوقت المناسب في الدردنيل في 10 أغسطس قلب الموازين حيث تم بيع السفن ظاهريًا إلى “تركيا” لكنها احتفظت بطواقمها الألمانية و بدأ الأتراك في احتجاز السفن البريطانية و تبع ذلك المزيد من الاستفزازات المعادية لبريطانيا سواء في المضائق أو على الحدود المصرية و أخيرًا قام الأسطول التركي عبر البحر الأسود بقصف “أوديسا” و الموانئ الروسية الأخرى (29-30 أكتوبر) و أعلنت “روسيا” الحرب على “تركيا” في 1 نوفمبر و أعلن الحلفاء الغربيين بعد قصف غير فعال للحصون الخارجية للدردنيل في 3 نوفمبر الحرب عليهم أيضا و في 5 نوفمبر احتلت قوة بريطانية من “الهند” مدينة البصرة على الخليج العربي في 21 نوفمبر و في شتاء 1914 – 15 شن الأتراك هجومًا في القوقاز و في صحراء سيناء و رغم أنه كان فاشلًا الا أنه خدم الإستراتيجية الألمانية جيدًا من خلال تقييد القوات الروسية و البريطانية في تلك المناطق .
الحرب في البحر 1914-1915
في أغسطس 1914 كانت “بريطانيا العظمى ” تمتلك 29 سفينة رئيسية جاهزة و 13 قيد الإنشاء أما “ألمانيا” فتمتلك 18 و 9 قيد الإنشاء و هو ما جعلهم أكبر قوتين بحريتين متنافستين خلال الحرب العالمية الاولى حيث لم يرغب أي منهما في البداية بمواجهة مباشرة و كان البريطانيين مهتمين بالدرجة الأولى بحماية طرق التجارة الخاصة بهم بينما الألمان يأملون في أن تدمر هجمات الألغام و الغواصات التفوق العددي لبريطانيا العظمى تدريجياً بحيث يمكن أن تحدث المواجهة في نهاية المطاف على قدم المساواة .
و كانت المواجهة المهمة الأولى بين البحريتين هي تلك التي حدثت في “هيلجولاند بايت” في 28 أغسطس عام 1914 عندما دخلت قوة بريطانية الى المياه الاقليمية الألمانية و أغرقت أو ألحقت أضرارًا بالعديد من الطرادات الألمانية الخفيفة و قتلت أو ألقت القبض على 1000 رجل و خسرت فى المقابل سفينة بريطانية و 35 قتيل و خلال الأشهر التالية اقتصر نشاط الألمان في المياه الأوروبية أو البريطانية على حرب الغواصات و التى لم تخلو من بعض النجاحات الملحوظة ففي 22 سبتمبر أغرقت غواصة ألمانية واحدة ثلاث طرادات بريطانية في غضون ساعة و في 7 أكتوبر شقت غواصة أخرى طريقها إلى مرسى بحيرة ” لوخ ايوى ” على الساحل الغربي لاسكتلندا و في 15 أكتوبر تم نسف الطراد البريطاني “هوك” و في 27 أكتوبر غرقت البارجة البريطانية ” أوديسيوس ” بواسطة لغم و في 15 ديسمبر انطلقت من طرادات المعارك التابعة لأسطول أعالي البحار الألماني طائرات في طلعة جوية عبر بحر الشمال و قصفوا عدة بلدات بريطانية ثم عادوا إلى منازلهم بأمان و بعدها تم اعتراض الطلعة التالية و هي في طريقها للرجوع في 24 يناير عام 1915 في “معركة بنك دوجر” و استطاع البريطانيين اغراق الطراد الألماني “بلوخر” و تضررت طرادات أخرى قبل أن يتمكن الألمان من الهروب .
و في أعالي البحار كانت أقوى قوة سطحية للألمان هي سرب شرق آسيا المكون من الطرادات السريعة و لمدة أربعة أشهر كان يتحرك ذلك الأسطول دون عوائق تقريبًا فوق المحيط الهادئ و تم فصل الطراد “إدن ” منهم للعمل فى المحيط الهندى و بذلك كان يمكن للألمان أن يهددوا ليس فقط الشحن التجاري على طرق التجارة البريطانية و لكن أيضًا القوات العسكرية و هى في طريقها إلى أوروبا أو الشرق الأوسط من الهند أو نيوزيلندا أو أستراليا حيث استطاع ذلك الطراد اغراق السفن التجارية في خليج البنغال وتدمير 15 سفينة تابعة للحلفاء قبل أن يتم اصطيادها و إغراقها قبالة جزر كوكوس في 9 نوفمبر بواسطة الطراد الاسترالي “سيدني” اما بالنسبة الى السرب الرئيسي الموجود فى المحيط الهادئ فقد خاض العديد من المعارك البحرية أشهرها “معركة كورونيل” فى 1 نوفمبر حيث ألحقوا هزيمة مثيرة بالقوة البريطانية التي أبحرت من المحيط الأطلسي لمطاردتهم الا ان تلك المكتسبات الألمانية قد انقلبت عندما هاجموا في 8 ديسمبر “جزر فوكلاند” في جنوب المحيط الأطلسي حيث كان البريطانيين يركزون فيها قوات ضخمة من طرادات قتالية لا تقهر كل واحد منهم مجهز بثمانية مدافع اضافة الى ستة طرادات أخرى فى مقابل أن السفن الألمانية كانت تعاني من البلى بعد رحلتها الطويلة في المحيط الهادئ و لم تكن متكافئة مع السفن البريطانية الأحدث و الأسرع لذلك كان منطقيا اغراق كل ذلك الأسطول و بذلك انتهت الغارات التجارية التي شنتها السفن السطحية الألمانية في أعالي البحار.
و بجانب المعارك القتالية كانت القوات البحرية المتحاربة تعمل بنفس القدر في التدخل في التجارة فمباشرة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى فرض البريطانيين حصارًا اقتصاديًا على “ألمانيا” بهدف منع وصول جميع الإمدادات إلى ذلك البلد من العالم الخارجي حيث كان المساران اللذان يمكن أن تصل الإمدادات من خلالهم إلى الموانئ الألمانية هما: (1) عبر القناة الإنجليزية و مضيق دوفر و (2) حول شمال “اسكتلندا” و لذلك تم وضع حقل ألغام في مضيق دوفر مع وضع ممر حر ضيق جعل من السهل إلى حد ما اعتراض السفن و البحث فيها باستخدام القناة أما في شمال “اسكتلندا ” كانت هناك مساحة تزيد عن 520.000 كيلومتر مربع يتم حراستها و تم تعيين المهمة إلى سرب من الطرادات التجارية المسلحة و خلال الأشهر الأولى من الحرب تم تقييد وصول بعض من المنتجات فقط مثل الأسلحة و الذخيرة و المواد المصنعة لهم و لكن تم توسيع القائمة تدريجياً لتشمل جميع المواد التي قد تكون مفيدة للعدو و أدى منع المرور الحر للسفن التجارية إلى صعوبات كبيرة بين الدول المحايدة و خاصة مع “الولايات المتحدة” التي أعاقت السياسة البريطانية مصالحها التجارية و مع ذلك كان الحصار البريطاني فعالاً للغاية و خلال عام 1915 أوقفت الدوريات البريطانية و فتشت أكثر من 3000 سفينة تم إرسال 743 منها إلى الميناء لفحصها و توقفت التجارة الخارجية من “ألمانيا” تمامًا.
و بالمثل سعى الألمان إلى مهاجمة اقتصاد “بريطانيا العظمى” بحملة ضد خطوط الإمداد الخاصة بالشحن التجاري لهم و لكن في عام 1915 و بعد القضاء على أسطول أعالى البحار اضطروا إلى الاعتماد كليًا على الغواصات و التى بدأوها بإغراق سفينة بخارية بريطانية (جليترا) بعد إجلاء الطاقم في 20 أكتوبر 1914 و تبع ذلك عدد من العمليات الأخرى و سرعان ما أدرك الألمان قيمة ذلك السلاح و نفذت “ألمانيا” الحملة إلى مرحلة أبعد من خلال نسف ثلاث سفن بخارية بريطانية دون سابق إنذار و أعلنوا بعد ذلك في 4 فبراير أنهم اعتبارًا من 18 فبراير سيعاملون المياه المحيطة بالجزر البريطانية كمنطقة حرب يتم فيها تدمير جميع السفن التجارية التابعة للحلفاء و لن تكون فيها أي سفينة سواء كانت معادية أم لا و مع ذلك و في حين كان الحصار الذي فرضه الحلفاء يمنع جميع التجارة مع “ألمانيا” تقريبًا من الوصول إلى موانئ تلك الدولة فقد أسفرت حملة الغواصات الألمانية عن نتائج أقل إرضاءً فخلال الأسبوع الأول من الحملة غرقت سبع سفن تابعة للحلفاء من أصل 11 هجومًا لكن 1370 آخرين أبحروا دون مضايقات من الغواصات الألمانية و في مارس 1915 بأكمله تم تسجيل 6000 إبحار غرق منهم 21 سفينة فقط و في أبريل فقط 23 سفينة من نفس العدد اضافة الى أن الغواصات نفسها كانت تتأذى باستمرار من خلال التدابير المكثفة لمكافحتها التي اتخذتها “بريطانيا العظمى” و تضمنت الشباك و الهيدروفونات لتحديد موقع ضوضاء محركات الغواصة و قنابل الأعماق لتدميرها تحت الماء .
و بالنسبة للألمان كانت النتيجة الأسوأ من أي من الإجراءات المضادة البريطانية المفروضة عليهم هي نمو العداء على المدى الطويل من جانب الدول المحايدة فمن المؤكد أن المحايدين لم يكونوا سعداء بالحصار البريطاني لكن إعلان “ألمانيا” بفرض منطقة حرب فى جزء من البحار و الأحداث اللاحقة أبعدتهم تدريجياً عن موقفهم من التعاطف معها و بدأ التصلب تجاههم في فبراير عام 1915 عندما تم نسف السفينة البخارية النرويجية “بيلريدج” التي كانت تحمل النفط من “نيو أورلينز” إلى “أمستردام ” و غرقت في القناة الإنجليزية و استمر الألمان في إغراق السفن المحايدة من حين لآخر و سرعان ما بدأت الدول المترددة في تبني نظرة عدائية تجاه هذا النشاط عندما تعرضت سلامة سفن الشحن الخاصة بهم للتهديد و كان الإجراء الأكثر خطورة هو الإجراء الذي أكد عدم قدرة القيادة الألمانية على إدراك أن نجاحًا تكتيكيًا بسيطًا يمكن أن يشكل خطأ استراتيجيًا فادحًا للغاية و كان هذا بعد قيام غواصة ألمانية في 7 مايو 1915 بإستهداف الباخرة “لوسيتانيا” التي كانت في طريقها من “نيويورك” إلى “ليفربول” فعلى الرغم من أن السفينة كانت تحمل في الواقع 173 طنًا من الذخيرة إلا أنها كانت تحمل ما يقرب من 2000 راكب مدني و أدى اغراقها الى غرق 1198 شخصًا من بينهم 128 مواطنًا أمريكيًا حيث أثار فقدان السفينة و العديد من ركابها بمن فيهم الأمريكيين موجة من السخط في “الولايات المتحدة” و كان من المتوقع تمامًا أن يتبع ذلك إعلان الحرب لكن حكومة الولايات المتحدة تشبثت بسياستها الحيادية و اكتفت بإرسال عدة ملاحظات احتجاج إلى “ألمانيا” و على الرغم من ذلك أصر الألمان على نيتهم و في 17 أغسطس أغرقوا سفينة أخرى بها ركاب أمريكيين و آخرين من دول محايدة و بعد احتجاج أمريكي جديد تعهد الألمان بضمان سلامة الركاب قبل غرق السفن من الآن فصاعدًا ولكن فقط بعد نسف سفينة أخرى “هيسبيريا” قررت “ألمانيا” في 18 سبتمبر تعليق حملة الغواصات في القناة الإنجليزية و غرب الجزر البريطانية خوفًا من استفزاز “الولايات المتحدة” بشكل أكبر .
خسارة المستعمرات الألمانية
خلال الحرب العالمية الأولى دافعت المستعمرات الألمانية في الخارج و دون أمل تقريبًا في الحصول على تعزيز من أوروبا عن نفسها بدرجات متفاوتة من النجاح ضد هجوم الحلفاء حيث تم غزو “توجو ” من قبل القوات البريطانية من ” غانا ” و القوات الفرنسية من “بنين” في الشهر الأول من الحرب و أيضا غزو “الكاميرون” من الجنوب و الشرق و الشمال الغربي في أغسطس 1914 و قام الألمان بمقاومة أكثر فاعلية فى ” مورا ” الذى كان أخر معقل ألماني و صمد حتى 18 فبراير 1916 كما انطلقت العمليات التي قامت بها قوات “جنوب إفريقيا” بتفوق عددي هائل ضد “جنوب غرب إفريقيا” الألمانية (ناميبيا) في سبتمبر 1914 و لكن تم إيقافها بسبب التمرد المؤيد لألمانيا من قبل بعض الضباط الجنوب أفريقيين الذين قاتلوا ضد البريطانيين في حرب “جنوب إفريقيا” اعوام 1899 – 1902 و تلاشى التمرد في فبراير 1915 لكن الألمان في جنوب غرب إفريقيا لم يستسلموا حتى 9 يوليو .
و في خليج ” كياشو ” و هو جيب ألماني صغير على الساحل الصيني كان ميناء “تشينجداو” هدفًا للهجوم الياباني بداية من سبتمبر 1914 و مع بعض المساعدة من القوات البريطانية و من سفن الحلفاء الحربية استولى عليها اليابانيين في 7 نوفمبر و في أكتوبر احتلوا جزر ماريانا و جزر كارولين و جزر مارشال في شمال المحيط الهادئ حيث كانت هذه الجزر بلا حماية منذ رحيل سرب البحرية الألمانى و في جنوب المحيط الهادئ سقطت “ساموا” دون دم في نهاية أغسطس 1914 لقوة نيوزيلندية مدعومة بسفن حربية أسترالية و بريطانية و فرنسية و في سبتمبر أدى الغزو الأسترالي لـ “بريطانيا الجديدة” إلى استسلام مستعمرة “غينيا الجديدة” الألمانية بأكملها في غضون أسابيع قليلة .
و كانت قصة شرق إفريقيا الألمانية (التي تضم رواندا الحالية و بوروندي و تنزانيا ) مختلفة تمامًا و ذلك بفضل كفاءة القوات الأفريقية المدربة في أوروبا و العبقرية العسكرية للقائد الألماني ” بول فون ليتو ” حيث صد الألمان إنزال القوات من “الهند” في نوفمبر 1914 و تم شن غزو واسع النطاق القوات البريطانية و الاستعمارية وعلى الرغم من سقوط ” تنزانيا ” في يد البريطانيين في سبتمبر إلا أن القائد الألمانى حافظ على قوته الصغيرة و بعد الكثير من المعارك التى خاضها ضد الحلفاء استسلم أخيرًا في 25 نوفمبر عام 1918 أى قبل يومين من الهدنة الألمانية في أوروبا .
سنوات الجمود
الاستراتيجيات المتنافسة وحملة الدردنيل ، 1915-1916
بحلول أواخر عام 1914 أصبحت حالة الجمود على الجبهة الغربية خلال الحرب العالمية الأولى واضحة لحكومات الدول المتحاربة و حتى للعديد من أعضاء هيئة الأركان العامة و سعى كل طرف إلى حل هذا المأزق و تباينت الحلول في الشكل و الأسلوب فمن الجانب الألمانى كان “إريك فون فالكنهاين” قد خلف “مولتك” المحبط كرئيس لهيئة الأركان العامة الألمانية في سبتمبر 1914 و بحلول نهاية عام 1914 يبدو أن “فالكنهاين” قد خلص إلى أنه رغم ايمانه بأن القرار النهائي سيتم التوصل إليه في الغرب إلا أن “ألمانيا” لم يكن لديها أي احتمال فوري للنجاح هناك و أن المسرح العملي الوحيد للعمليات في المستقبل القريب هو الجبهة الشرقية مهما كانت تلك العمليات غير حاسمة حيث كان مقتنعًا بقوة حاجز الخنادق التابع للحلفاء في “فرنسا” لذلك اتخذ قرارًا بالغ الأهمية بالوقوف في موقف دفاعي في الغرب و رأى أيضا أن الحرب الطويلة أصبحت الآن حتمية و من ضرورة أن تقوم ” ألمانيا ” بتطوير مواردها لمنع تلك الحرب من استنزافها و هكذا تم رفع تقنية الترسيخ الميداني إلى درجة أعلى من قبل الألمان مقارنة بأي دولة أخرى بتوسيع السكك الحديدية العسكرية الألمانية من أجل الحركة الجانبية للاحتياطيات و حل مشكلة توريد الذخائر و المواد الخام اللازمة لتصنيعها و التى تمت معالجتها لضمان تدفق وافر منها بداية من ربيع عام 1915 فصاعدًا كما تم وضع أسس تنظيم اقتصادي كان من المفترض أن يكون سر قوة “ألمانيا” في مقاومة ضغط الحصار البريطاني .
اما بالنسبة الى الحلفاء الغربيين رأى “جوفري” و معظم هيئة الأركان الفرنسية و بدعم من المشير البريطاني السير “جون فرينش” مواصلة الهجمات على خط الألمان المتحصن في “فرنسا” رغم الاستنزاف المستمر للقوات الفرنسية التي ستكون نتيجة تلك الاستراتيجية حيث كانت القيادة الفرنسية العليا تفتقر بشكل فريد إلى الأفكار لكسر الجمود في حرب الخنادق فبينما كانت الرغبة في التمسك بالمكاسب الإقليمية تحكم الاستراتيجية الألمانية إلا أن الرغبة في استعادة الأراضي المفقودة كانت هى من تسيطر على الفرنسيين اما “بريطانيا” فقد كانت حلولها لكسر حالة الجمود مكونة من شقين واحدة تكتيكية و الأخرى استراتيجية حيث كانت الأولى هى فتح ثغرات فى الخنادق من خلال اختراع آلة تكون محصنة ضد المدافع الرشاشة و قادرة على عبور الخنادق و لطالما تم التفكير في مثل هذه الآلة و شهدت السنوات الأولى من القرن العشرين المحاولات الأولى لمركبة قتال مدرعة حيث تم تغذية الجهود البريطانية و رعايتها في مهدها من قبل “وينستون تشرشل” اللورد الأول للأميرالية و في النهاية بعد أشهر من التجربة التي أعاقتها المعارضة الرسمية وصلت إلى النضج في عام 1916 في السلاح المعروف باسم “الدبابة” أما من ناحية أخرى جادل بعض الاستراتيجيين البريطانيين أنه بدلاً من السعي لتحقيق اختراق على الجبهة الغربية التي لا يمكن التغلب عليها فيجب على الحلفاء أن يجبروا قوى المركز من تغيير استراتجيتها بالكامل إما عن طريق هجوم عبر البلقان أو حتى عن طريق الهبوط على ساحل بحر البلطيق في “ألمانيا”و فاز رؤية “جوفري” و أنصاره فى النهاية و تم التخلي عن مشاريع البلقان لصالح تركيز الجهد على الجبهة الغربية .
و فى أوائل يناير عام 1915 ناشد الروس الذين هددهم الأتراك في القوقاز البريطانيين للقيام ببعض الإجراءات التي تخفف الضغط من “تركيا” و قرر البريطانيين بعد جدال حاد فيما بينهم القيام بحملة بحرية في فبراير لقصف و الاستيلاء على شبه جزيرة جاليبولي (الشاطئ الغربي لجزيرة الدردنيل) على أن تكون القسطنطينية هدفًا لاحقا لها و بدأ الهجوم البحري في 19 فبراير بدون دعم الجيش و عندما بدأت أخيرًا قوات السير “إيان هاملتون” القادمة من مصر بالهبوط على الشواطئ التركية في 25 أبريل كان لدى الأتراك و قائدهم الألماني ” أوتو ليمان فون ساندرز ” متسع من الوقت لإعداد التحصينات المناسبة و كانت الجيوش المدافعة الآن أقوى ست مرات عن الحجم الذي كانت عليه عند بداية الحملة و خلال معارك شرسة مع القائد التركي “مصطفى كمال أتاتورك ” أستطاعت القوات الأسترالية و النيوزيلندية عمل رأس جسر في “خليج أنزاك ” على جانب بحر إيجة من شبه الجزيرة و هبط حوالي 20 ألف رجل في أول يومين و في غضون ذلك حاول البريطانيين الهبوط في خمس نقاط حول “كيب هيليس” و تمكنوا من وضع موطئ قدم فقط في ثلاث منها ثم طلبوا تعزيزات و بعد ذلك تم إحراز تقدم ضئيل و استغل الأتراك التوقف البريطاني لإدخال أكبر عدد ممكن من القوات إلى شبه الجزيرة و أدى توقف تلك الحملة إلى أزمة سياسية في “لندن” بين “تشرشل” اللورد الأول للحكومة الليبرالية للأميرالية و الذي جعل نفسه المتحدث الأول عن “عملية الدردنيل” و “لورد فيشر” قائد أعالى البحار الأول الذي لطالما أعرب عن شكوكه حيال ذلك و طالب في 14 مايو بوقف العملية و عندما تم رفض طلبه استقال في اليوم التالي و تم استبدال الحكومة الليبرالية بتحالف لكن “تشرشل” على الرغم من إعفائه من منصبه السابق ظل في مجلس الحرب التابع لمجلس الوزراء.
و في يوليو بدأ البريطانيين في إرسال خمسة فرق أخرى إلى شبه الجزيرة و وضع خطة جديدة على أمل قطع اتصالات الأتراك بين الشمال و الجنوب أسفل شبه الجزيرة من خلال الاستيلاء على مرتفعات “ساري بير” التي تسيطر على المضائق من الغرب و عزز البريطانيين رأس الجسر في “خليج أنزاك” و في ليلة 6-7 أغسطس أنزل المزيد من القوات في خليج سوفلا إلى أقصى الشمال و في غضون أيام قليلة ثبت ان تلك الانزالات غير فعالة و تلى ذلك مزيد من الجدل في مجلس الحرب و فقط في أواخر العام تم الاعتراف بضرورة التخلي عن تلك الحملة و تم إخلاء القوات من خليج سوفلا و أنزاك تحت جنح الظلام في ديسمبر 1915 و من شواطئ “كيب هيليس” في يناير 1916 و هكذا وصلت حملة الدردنيل إلى نهاية محبطة و التى كانت لو نجحت لربما أنهت مشاركة “تركيا” في الحرب العالمية الأولى و لكنها فشلت و كلفت حوالي 214000 ضحية و لم تحقق شيئًا.
الجبهتان الغربية والشرقية 1915
الجبهة الغربية 1915
أحرزت الهجمات الفرنسية المتكررة في فبراير-مارس 1915 على حاجز الخندق الألماني في “شامبين” نصرا حصل بموجبه على مساحة تمتد الى 460 مترًا فقط من الأرض بتكلفة 50.000 رجل و بالنسبة للبريطانيين قام جيش السير “دوجلاس هيج” الأول بتجربة جديدة في نوف تشابيل في 10 مارس عندما فتحت مدفعيته قصفًا مكثفًا على جبهة تبلغ مساحتها 1670 متر مربع ثم بعد 35 دقيقة قام بإطالة مداه حتى يتمكن المشاة البريطانيين المهاجمين من اجتياح الخنادق التي دمرها القصف الأول لكن النتيجة الفورية للتجربة كانت مجرد خسارة في الأرواح لأن النقص في الذخيرة جعل الوابل الثاني غير كافٍ و نظرا لأنه كان هناك تأخيرًا لمدة خمس ساعات في شن هجوم المشاة جعل الألمان يتغلبون على مفاجأتهم الأولية و حشد مقاومتهم و كان من الواضح للحلفاء أن هذه التجربة التكتيكية الصغيرة لم تنجح إلا بهامش ضيق و أن هناك مجالًا لتطويرها لكن أوامر الحلفاء أخطأت الدرس الحقيقي و هو أن هجومًا مفاجئًا يمكن أن ينجح فورًا بعد قصف قصير يعوض عن قصره بقوته و لكن بدلاً من ذلك استنتجوا بشكل سطحي أن مجرد حجم إطلاق القذائف كان هو المفتاح للحل قبل الهجوم و لم يرجعوا إلى طريقة القصف تلك حتى عام 1917 و ترك الأمر للألمان للاستفادة من التجربة و في غضون ذلك أدى الهجوم الفرنسي في أبريل ضد الألمان البارزين في “سان ميخيل” جنوب شرق فردان إلى التضحية بـ 64000 رجل دون جدوى .
و وفقًا لاستراتيجية “فالكنهاين ” ظل الألمان في موقف دفاعي بشكل عام في الغرب و مع ذلك فقد شنوا هجومًا على قوات الحلفاء البارزين (حيث حل الفرنسيون في نوفمبر 1914 محل البريطانيين) في 22 أبريل عام 1915 و استخدموا غاز الكلور لأول مرة على الجبهة الغربية لكنهم ارتكبوا خطأ تفريغه من الأسطوانات (التي كانت تعتمد على رياح مواتية) بدلاً من إلقاءه على خنادق العدو من خلال المدفعية و هو ما دفع الى اصابة قواتهم به الا أنه و بحلول نهاية معركة استمرت شهرًا تراجعت جبهة الحلفاء قليلاً و في 9 مايو شن الحلفاء هجومًا آخر أستمر حتى 18 يونيو و خسروا 102 ألف رجل دون تحقيق أي مكاسب و كان الفشل العسكري الأسوأ هو الهجوم المشترك الذي شنه الحلفاء في 25 سبتمبر 1915 و الذى كان فاشلا و مخيبا للأمل و يرجع ذلك جزئيًا إلى أنه سبقته عمليات قصف مطولة أهدرت أي فرصة للمفاجأة و أتاحت وقتًا لإرسال الاحتياطيات الألمانية إلى الأمام لسد الفجوات التي تم فتحها في صفوف المدافعين عن الخنادق من قبل القصف المدفعي كما كان استخدام “بريطانيا” لغاز الكلور أقل فاعلية كما أن القائد العام السير “جون فرينش” كان بطيئًا للغاية في إرسال الاحتياطيات كما خسر الفرنسيبن على جبهتهم بسبب عدم وجود دعم في الوقت المناسب و اجمالا دفع الحلفاء 242،000 رجل مقابل خسارة المدافعين 141،000 .
الجبهة الشرقية 1915
بالنسبة للقوى المركزية طلبت “النمسا” من ” ألمانيا ” بعض الإجراءات لتخفيف الضغط على جبهتها و كان “فالكنهاين” على استعداد لمساعدتهم دون الخروج عن استراتيجيته العامة للاستنزاف و ذلك لتحقيق نصر حاسم على “روسيا” حيث وضعت خطة تهدف الى تحطيم المركز الروسي في قطاع نهر دوناجيك في “جاليسيا” بهجوم على الجبهة التي يبلغ طولها 18 ميلاً حيث لم يتم تحديد فيها أهداف يومية للفرق و بدلاً من ذلك كان مطلوبا على كل طرف أن يحرز كل تقدم ممكن قبل أن يتمكن الروس من رفع احتياطياتهم على افتراض أن التقدم السريع لبعض الوحدات المهاجمة سيعزز التقدم اللاحق للآخرين الذين واجهوا مقاومة أكبر في البداية و تم شن الهجوم في 2 مايو و حقق نجاحًا يفوق كل التوقعات ففي 22 يونيو تم مهاجمة الجبهة الروسية بكفاءة كبيرة و نظرا لعدم توقع القيادة الألمانية مثل ذلك النجاح فلم يجروا أي استعدادات لاستغلالها على الفور و هو ما مكن الروس من التراجع دون التفكك الكامل ثم قرر “فالكنهاين” متابعة هجوم جديد و ذلك للقبض على الجيوش الروسية في “وارسو” الا ان بعض القيادات الأخرى قد تحفظت علي ذلك حيث كان لهم أراء أخرى و لكن حسم ذلك الأمر في 2 يوليو حين قرر الإمبراطور الألماني لصالح خطة “فالكنهاين” و بحلول نهاية أغسطس تم احتلال “بولندا” بالكامل و أسر 750.000 روسي في أربعة أشهر من القتال و أضاعت القوى المركزية فرصتها لكسر قدرة “روسيا” على الاستمرار في الحرب العالمية الأولى .
الجبهات الأخرى 1915-1916
القوقاز ، 1914–1916
تألفت الجبهة القوقازية بين “روسيا و تركيا” من ساحتي قتال “أرمينيا” في الغرب و “أذربيجان” في الشرق و بينما كانت الأهداف الإستراتيجية النهائية للأتراك هي الاستيلاء على حقول نفط “باكو” في “أذربيجان” و اختراق آسيا الوسطى و “أفغانستان” من أجل تهديد “الهند ” البريطانية و في اواخر 1914 شن الجيش التركي هجومًا ضد مواقع للقوات الروسية فى ” كارس – أردهان ” الا أنه تم احباط هذا الهجوم بشكل كارثي في يناير 1915 و فقد الأتراك الذين كانوا يرتدون ملابس سيئة و يعانون من سوء الإمداد في الشتاء القوقازي عددًا أكبر من الرجال من خلال المرض و الإرهاق مقارنة بالقتال ( بلغ عدد ضحايا المعركة 30.000) و تم طرد القوات التركية التي كانت قد غزت في الوقت نفسه جزءًا من بلاد فارس المحايدة من “أذربيجان” و استولت على “تبريز” في 14 يناير و خلال هذه الحملة تسبب الأرمن في اضطرابات خلف الخطوط التركية لدعم الروس و هددوا الاتصالات التركية الشاقة بالفعل و قررت الحكومة التركية في 11 يونيو 1915 إبعاد الأرمن و خلال عملية الترحيل ارتكبت السلطات التركية فظائع على نطاق واسع تراوحت معظم تقديرات الوفيات الأرمينية من 600000 إلى 1500000 و تم ارسال الجنرال الروسي “يودنيتش” الذى قاد هجومًا كبيرًا على أرمينيا التركية في يناير 1916 و تم الاستيلاء على أرضروم في 16 فبراير و طرابزون في 18 أبريل و إرزنجان في 2 أغسطس و بعدها تم شن هجوم مضاد تركي طال انتظاره في ” اجنوت ” لم يكم فعالا و بعد استقرار الأوضاع لصالح روسيا في الخريف تأثرت الجبهة الجديدة في “أرمينيا” بعد ذلك بدرجة أقل بالحرب الروسية التركية نتيجة الثورة في “روسيا” .
بلاد الرافدين 1914- 1916
كان الاحتلال البريطاني للبصرة و الذى كان بمثابة ميناء “تركيا” على رأس الخليج الفارسي في نوفمبر عام 1914 له مبررًا استراتيجيًا بسبب الحاجة إلى حماية آبار النفط في جنوب بلاد فارس و مصفاة عبدان و كان يكفى التقدم البريطاني لمسافة 90 ميلاً أعلى نهر دجلة فى يونيو 1915 لتحقيق جميع الأغراض العملية لكن التقدم استمر في اتجاه “بغداد” العاصمة القديمة لخلفاء الإسلام العرب و تم احتلال الكوت في سبتمبر 1915 و الدفع الى التقدم بقيادة اللواء “تشارلز تاونسند ” لمسافة على بعد 500 ميل من قاعدتهم في البصرة و خاضوا معركة غير مربحة مع الاتراك على بعد 18 ميلاً فقط من “بغداد” في 22 نوفمبر و بعدها اضطروا إلى التراجع إلى “الكوت” و فى 7 ديسمبر حاصر الأتراك رجال “تاونسند” البالغ عددهم 10000 رجل و فى 29 أبريل 1916 سلموا أنفسهم و وقعوا في الأسر.
الحدود المصرية 1915 – 1917
حافظ البريطانيين على 250 ألف جندي في “مصر” و كان مصدر قلق البريطانيين الرئيسي هو خطر التهديد التركي من “فلسطين” عبر صحراء “سيناء” إلى قناة السويس لكن هذا الخطر تضاءل عندما تم تطوير التمرد غير الواعد في البداية للأمير الهاشمي “حسين بن علي” ضد الأتراك في الحجاز من خلال المشروع الشخصي لجندي عبقري غير محترف و الملقب بإسم ” لورانس العرب ” الذى حرض على ثورة تصيب كامل الأراضي العربية النائية لفلسطين و سوريا و تهدد بقطع سكة حديد الحجاز الحيوية للأتراك (دمشق – عمان – معان – المدينة) و أخيرًا بدأت القوات البريطانية بقيادة السير “أرشيبالد موراي” تقدمًا هائلاً في ديسمبر 1916 و استولت على بعض البؤر الاستيطانية التركية على الحافة الشمالية الشرقية لصحراء “سيناء” في نفس اللحظة التي كان الأتراك على وشك تسليم المكان لهم و بعد شهر تم صد هجوم تركى لاستعادة الأراضى بخسائر فادحة و في يونيو تم نقل القيادة من “موراي” إلى السير “إدموند اللنبي” و أستولى “لورانس” على العقبة في 6 يوليو 1917 ببضعة مقاتلين من العرب .
الجبهة الإيطالية 1915 – 1916
أبرمت “بريطانيا العظمى” و “فرنسا” و “روسيا” في 26 أبريل عام 1915 معاهدة “لندن” السرية مع “إيطاليا” مما دفع الأخيرة إلى التخلي عن التزامات التحالف الثلاثي و الدخول في الحرب إلى جانب الحلفاء من خلال الوعد بالتعظيم الإقليمي بإكتساب مساحات من أراضى “النمسا و المجر” و لذلك في 23 مايو عام 1915 أعلنت “إيطاليا” الحرب على النمسا و المجر و قرر القائد الإيطالي الجنرال “لويجي كادورنا” تركيز جهوده على هجوم باتجاه الشرق من مقاطعة “فينيسيا” و اعتقد أن التقدم المحدود سيكون إجراء احترازيًا بما فيه الكفاية و سرعان ما توقف تقدم الإيطاليين باتجاه الشرق و الذي بدأ في أواخر مايو 1915 و يرجع ذلك إلى حد كبير إلى فيضانات إيسونزو و اندلعت حرب خنادق و مع ذلك كان “كادورنا” مصممًا على إحراز تقدم و شرع في سلسلة من التجديدات المستمرة للهجوم المعروفة باسم معارك ” ايسونزو ” و التى لم تحقق شيئًا يساوي التضحية بـ 280 ألف رجل و أظهر النمساويين على هذه الجبهة شراسة كبيرة عكس ما أظهروا أمام الروس و في منتصف مايو عام 1916 توقفت أهداف “كادورنا” تحت هجوم نمساوي و استيلائهم على بعض من الأراضى أعقبه هجوم إيطالي مضاد في منتصف يونيو استعاد من خلاله ثلث الأراضي التي اجتاحها النمساويين شمال و جنوب غرب البلاد و بعدها استعادوا باقى الأراضى و في 28 أغسطس أعلنت “إيطاليا” الحرب على “ألمانيا” و شهدت الأشهر الثلاثة التالية هجمات إيطالية أخرى و لكن لم تكن فعالة و خلال عام 1916 تكبد الإيطاليين 500000 ضحية أي ضعف عدد النمساويين .
صربيا و بعثة سالونيكا 1915-1917
تم صد محاولات “النمسا “الثلاث لغزو “صربيا” في عام 1914 من قبل الهجمات الصربية المضادة و بحلول صيف عام 1915 كانت القوى المركزية مهتمة بشكل مضاعف بإغلاق الحساب مع “صربيا” لأسباب تتعلق بالهيبة و لإقامة اتصالات سكك حديدية آمنة مع “تركيا” عبر البلقان و في أغسطس أرسلت “ألمانيا” تعزيزات إلى الجبهة الجنوبية للنمسا و في 6 سبتمبر 1915 أبرمت القوى المركزية معاهدة مع “بلغاريا” التي تم اغرائها ببعض من الأراضى التى سيتم أخذها من “صربيا” و هاجمت القوات النمساوية الألمانية جنوبا من نهر الدانوب في 6 أكتوبر و ضرب البلغار الذين لم يردعهم الإنذار الروسي شرق صربيا في 11 أكتوبر و مقدونيا الصربية في 14 أكتوبر.
و تفاجئ الحلفاء الغربيين من الهجوم البلغاري على “صربيا” و قرروا على عجل إرسال المساعدة عبر ميناء “سالونيك” المقدوني اليوناني المحايد اعتمادا على تواطؤ رئيس الوزراء اليوناني الموالي للحلفاء “إليثيريوس فينيزيلوس” و وصلت القوات بقيادة الجنرال الفرنسي “موريس ساريل” في 5 أكتوبر و لكن في ذلك اليوم سقط “فينيزيلوس” من السلطة و تقدم الحلفاء شمالًا إلى مقدونيا الصربية لكنهم وجدوا أنفسهم ممنوعين من الالتقاء مع الصرب بسبب زحف البلغار باتجاه الغرب و في ربيع عام 1916 تم تعزيز قوات الحلفاء في “سالونيك” من قبل الصرب و كذلك القوات الفرنسية و البريطانية و بعض القوات الروسية حيث قاموا ببعض من المعارك الغير مجديه و كانت جبهة “سالونيكا” الموجود بها حوالي 500000 جندي من قوات الحلفاء مزعجة للقوى المركزية بأي شكل من الأشكال .
التطورات الرئيسية في عام 1916
الجبهة الغربية 1916
في عام 1914 كان مركز ثقل الحرب العالمية الأولى على الجبهة الغربية و في عام 1915 تحول إلى الشرق و في عام 1916 عادت مرة أخرى إلى “فرنسا” و على الرغم من أن الحلفاء الغربيين قد بددوا بعض قوتهم في الدردنيل و سالونيكا و بلاد ما بين النهرين إلا أن المد المتصاعد للجيوش البريطانية الجديدة و إمدادات الذخيرة المتزايدة وعدت بوسائل شن هجوم أكبر بكثير من أي وقت مضى لكسر الجمود و حرب الخنادق حيث نمت الجيوش البريطانية في “فرنسا” إلى 36 فرقة بحلول نهاية عام 1915 و بحلول ذلك الوقت أثبت التجنيد التطوعي و رغم ضخامته الى أنه غير كافي لتلبية احتياجات “بريطانيا” لذلك في يناير 1916 و بموجب قانون الخدمة العسكرية تم استبدال الخدمة التطوعية بالتجنيد الإجباري و في ديسمبر 1915 عُقد مؤتمر لقادة الجيوش الفرنسية و البريطانية و البلجيكية و الإيطالية مع ممثلين من الجيوش الروسية و اليابانية فى مقر ” جوفرى ” و تبنوا مبدأ الهجوم العام المتزامن في عام 1916 من قبل “فرنسا و بريطانيا العظمى و روسيا و إيطاليا” و لكن ” ألمانيا ” قامت بعمل عسكري لتفكيك هذا المخطط و لم يدخل حيز التنفيذ بالكامل سوى الهجوم البريطاني.
و بحلول شتاء 1915-1916 اعتبر “فالكنهاين” أن “روسيا” مشلولة و “إيطاليا” غير مهمة و اعتبر أن الوقت قد حان أخيرًا لاتخاذ إجراء إيجابي ضد “فرنسا” التي لن يكون لبريطانيا العظمى بعد انهيارها حليف عسكري فعال في القارة الأوروبية و سوف يتم التعامل معها من خلال حرب الغواصات بدلاً من العمليات البرية و لكن بالنسبة لهجومه في الغرب تشبث “فالكنهاين” دائمًا بأسلوبه في الاستنزاف لأنه كان يعتقد أنه يجب على الألمان أن يهدفوا إلى نزيف “فرنسا” من قوتها البشرية من خلال اختيار نقطة للهجوم لأن ذلك سيدفع القيادة الفرنسية إلى إلقاء كل رجل لديها و تم اختيار مدينة “فردان” و مجمع الحصون المحيطة بها لأنها كانت تشكل تهديدًا لخطوط الاتصالات الألمانية الرئيسية و كانت داخل منطقة فرنسية بارزة و بسبب اليقين من أن الفرنسيين سيضحون بأي شيء للدفاع عن “فردان” لأسباب وطنية مرتبطة بالمدينة نفسها.
و على الرغم من أن المخابرات الفرنسية قد أعطت تحذيرات مبكرة من استعدادات الألمان الهجومية إلا أن القيادة العليا الفرنسية كانت منشغلة جدًا بمخطاطتها الهجومية لدرجة أن التحذير لم يلق آذانًا صاغية و في الساعة 7:15 صباحًا في يوم 21 فبراير عام 1916 بدأ أعنف قصف مدفعي ألماني حتى الآن في الحرب على جبهة طولها ثمانية أميال حول فردان و سويت الخنادق الفرنسية و حقول الأسلاك الشائكة بالأرض أو تقلبت في فوضى من الانهيار و في الساعة 4:45 مساءً تقدمت المشاة الألمانية و انهارت خطوط المدافعين الفرنسيين شرق نهر الميز و احتل الألمان حصن “دوومون” و هي إحدى أهم القلاع و بحلول 6 مارس عندما بدأ الألمان بالهجوم على الضفة الغربية لنهر الميز و كذلك على الضفة الشرقية شن الروس هجومًا على الجبهة الشرقية في بحيرة ناروش لتخفيف الضغط على الفرنسيين و بدأ الإيطاليين هجومهم الخامس على إيسونزو وسيطر البريطانيين على قطاع أراس في الجبهة الغربية و عُهد إلى الجنرال “فيليب بيتان” بقيادة دفاع فردان و قام بتنظيم هجمات مضادة متكررة أدت إلى إبطاء التقدم الألماني و الأهم من ذلك أنه عمل على إبقاء الطريق الوحيد المؤدي إلى فردان مفتوحًا و الذي لم يتم إغلاقه بسبب القصف الألماني و اطلق عليه اسم “الطريق المقدس” نظرًا لاستمرار إرسال الإمدادات منه و التعزيزات الحيوية إلى جبهة فردان على طول الطريق على الرغم من المضايقات المستمرة من المدفعية الألمانية .
و تقدم الألمان ببطء و لكن بثبات إلى الأمام في “فردان” و في 7 يونيو وصلوا تقريبًا إلى مرتفعات “بيلفيل” آخر معقل قبل “فردان” نفسها و في 23 يونيو كان “بيتان” يستعد لإخلاء شرق ضفة نهر الميز عندما بدأ هجوم الحلفاء على نهر السوم أخيرًا الذي سبقه قصف لمدة أسبوع و في الأول من يوليو عام 1916 اندلعت المعارك من قبل 11 فرقة بريطانية من الجيش الرابع الجديد على جبهة طولها 15 ميلاً بينما هاجمت خمس فرق فرنسية في نفس الوقت على جبهة طولها ثمانية أميال جنوب السوم و فى المقابل كان المدافعين الألمان مستعدين جيدًا لما سيأتي و فى تلك المعارك تم استخدام الدبابات لأول مرة في الحرب من قبل البريطانيين في 15 سبتمبر و في منتصف نوفمبر أوقفت الأمطار المبكرة العمليات و كانت معركة السوم التي استمرت أربعة أشهر عنوانها الفشل الذريع حيث كلفت البريطانيين 420 ألف ضحية و الفرنسيين 195 ألفًا و الألمان 650 ألفًا و لكن نتيجة دفاع “بيتان” الماهر عن فردان فقد عمل ذلك على حرمان هجوم “فالكنهاين” من تحقيق هدفه الاستراتيجي لكن “فرنسا” ضعفت كثيرًا في النصف الأول من عام 1916 لدرجة أنها بالكاد كانت قادرة على تلبية توقعات الحلفاء في النصف الثاني و كانت “فردان” واحدة من أطول المعارك و أكثرها دموية وشراسة و بلغ عدد الضحايا الفرنسيين حوالي 400 ألف و الألمان حوالي 350 ألفًا .
معركة جوتلاند
شهد صيف عام 1916 المواجهة التي طال انتظارها بين أسطول أعالي البحار الألماني و أسطول “بريطانيا العظمى” في “معركة جوتلاند” أكبر معركة بحرية في التاريخ و التي ادعى الجانبان أنهما انتصرا فيها حيث خطط الأدميرال “راينهارد شير” الذي أصبح القائد العام لأسطول أعالي البحار في يناير 1916 لتدبير مواجهة في البحر المفتوح بين أسطوله و جزء من الأسطول البريطاني حتى يتمكن الألمان من استغلال التفوق اللحظي في الأرقام لتحقيق النصر و كانت خطة “شير” هي الإيقاع بسرب الأدميرال “بيتي” من طرادات المعركة في منتصف الطريق أعلى الساحل الشرقي لبريطانيا بحيلة و تدميره قبل أن يصل إليه أي تعزيزات من القاعدة الرئيسية للأسطول الكبير في “سكابا فلو” و لكن إشارة بدء العملية الألمانية التي صدرت بعد ظهر يوم 30 مايو اعترضها البريطانيين و فكوا شفرتها جزئيًا و قبل منتصف الليل كان الأسطول البريطاني الكبير بأكمله في طريقه إلى ملتقى قبالة الساحل الجنوبي الغربي للنرويج و عبر المسار المخطط للأسطول الألماني تقريبًا و تندلع معارك عنيفة بين الجانبين تأرجحت نتائجها لكل فريق على فترات متفرقة .
و رغم التفوق العددى البريطانى استطاع الألمان منع تدمير السفن الألمانية في هذا الفخ الذى نصب لهم لعدة عوامل و هى البناء الممتاز الخاص بها و ثبات أطقمهم و انضباطهم و النوعية الرديئة للقذائف البريطانية و بالاعتماد على مهارة الملاحة البحرية الرائعة من قبل الأطقم الألمانية أخرج “شير” أسطوله من الخطر المروع الذي مر به و عكست البوارج الألمانية مسارها في انسجام تام و خرجت من فكي المصيدة بينما نشرت المدمرات الألمانية حاجبًا من الدخان عبر مؤخرتها و فقد البريطانيين الاتصال بالألمان فى المساء و بعدها التقى الأسطولين مجددا و اصبحت القطع البحرية الالمانية تحت القصف البريطانى و اصيبت بعض القطع بإصابات بالغة و بحلول المساء استطاعت باقى القطع الألمانية من الفرار .
و رغم ما لحق للألمان الا أن البريطانيين تكبدوا خسائر أكبر منهم في السفن و الرجال و إجمالاً خسر البريطانيين ثلاث طرادات قتالية و ثلاثة طرادات و ثمانية مدمرات و 6274 ضابطاً و رجلاً في “معركة جوتلاند” و فى المقابل خسر الألمان سفينة حربية واحدة و طراد قتال واحد و أربعة طرادات خفيفة و خمس مدمرات و 2545 ضابطًا و رجلًا و مع ذلك فإن الخسائر التي لحقت بالبريطانيين لم تكن كافية للتأثير على التفوق العددي لأسطولهم على الألمان في بحر الشمال حيث ظلت هيمنتهم غير قابلة للتحدي خلال الحرب و من الآن فصاعدًا اختار أسطول أعالي البحار الألماني عدم الخروج من أمان موانئه المحلية .
الجبهة الشرقية 1916
على أمل تشتيت القوات الألمانية عن الهجوم في “فردان” على الجبهة الغربية قام الروس و لكن قبل الأوان بهجومًا شمال و جنوب بحيرة ناروك في 18 مارس 1916 و استمر حتى 27 مارس و ربحوا القليل جدًا من الأرض بتكلفة كبيرة و لفترة قصيرة فقط ثم عادوا إلى الاستعدادات لهجوم كبير مجددا في يوليو و فوجئت “إيطاليا” بهجوم نمساوى في مايو و وجهت نداءً سريعًا إلى الروس لاتخاذ إجراء لسحب احتياطيات العدو بعيدًا عن الجبهات الإيطالية و رد الروس بتقديم جدول زمني مرة أخرى و هكذا بدأ هجوم على الجبهة الشرقية و الذى كان من المفترض أن يكون آخر جهد عسكري فعال حقًا للإمبراطورية الروسية فى الحرب العالمية الأولى و المعروف باسم هجوم ” بروسيلوف ” و قد حقق نجاحًا مبدئيًا مذهلًا لإحياء أحلام الحلفاء حول الضربة الروسية المنتظرة و لكن بدلاً من ذلك كان إنجازه النهائي هو دق ناقوس الموت في النظام الملكي الروسي حيث تم توزيع جيوش ” بروسيلوف ” الأربعة على طول جبهة واسعة للغاية و انهارت أمامه الدفاعات النمساوية في الحال و شق المهاجمون طريقهم بين جيشين نمساويين و ألقت قوات “بروسيلوف” القبض على 200000 أسير .
و لكن نظرا لأن الاتصالات الجانبية للروس كانت ضعيفة جدًا كان لدى الألمان الوقت لتعزيز النمساويين قبل أن يكون “بروسيلوف” قوياً بما يكفي لتحقيق أقصى استفادة من انتصاره حيث شنت القوات الألمانية هجوم مضاد بقيادة “ألكسندر فون لينسينجن” كبحت التقدم الروسي في النقطة الحاسمة و تم إطلاق هجمات روسية أخرى في يوليو و لكن بحلول أوائل سبتمبر ضاعت فرصة استغلال انتصار الصيف فرغم نجاح “بروسيلوف” فى طرد النمساويين من “بوكوفينا” و من معظم مناطق “غاليسيا الشرقية” و ألحق بهم خسائر فادحة في الرجال و المعدات الا أن جيوشه قد استنزفت بحوالي مليون رجل بفعله ذلك و قوضت هذه الخسارة بشكل خطير كلا من الروح المعنوية و القوة المادية لروسيا و كان لهجوم “بروسيلوف” نتائج غير مباشرة و لكنها عظيمة فأولاً أرغم الألمان على سحب ما لا يقل عن سبع فرق من الجبهة الغربية حيث كان من الممكن مشاركتهم فى معارك فردان و السوم و ثانياً عجلت “رومانيا” بالدخول المؤسف فى الحرب العالمية الأولى هى الأخرى .
و بغض النظر عن التخلف العسكري الروماني أعلنت الحكومة الرومانية بقيادة “إيونيل بريتيانو” الحرب ضد “النمسا و المجر” في 27 أغسطس 1916 حيث استسلمت “رومانيا” لاغرائات الحلفاء الخاصة بالأراضي النمساوية المجرية و للاعتقاد بأن القوى المركزية ستكون مشغولة بجبهات أخرى حتى يتمكنون من الرد على أي هجوم روماني و هكذا بدأ حوالي 12 من 23 فرقة في “رومانيا” في 28 أغسطس تقدمًا بطيئًا باتجاه الغرب عبر “ترانسيلفانيا” حيث لم يكن هناك في البداية سوى خمس فرق “نمساوية و مجرية” لمعارضتها و كان رد القوى المركزية أسرع من تقدم الغزو حيث أعلنت “ألمانيا” و “تركيا” و “بلغاريا” الحرب على “رومانيا” في 28 أغسطس و 30 أغسطس و 1 سبتمبر على التوالي و كان لدى ” فالكنهاين ” خطط معدة بالفعل لها و رغم استبداله بـ “هيندنبورج” كرئيس للأركان العامة الألمانية في 29 أغسطس الا أنه تمت الموافقة على توصيته بأن يوجه هجومًا بلغاريًا على جنوب “رومانيا” و ذهب “فالكنهاين”بنفسه لقيادة جبهة “ترانسيلفانيا” حيث تم توجيه خمسة فرق ألمانية بالإضافة إلى فرقتين نمساويين آخرين كتعزيزات و قاوم الرومانيين لكن الألمان كانوا يحققون انتصارات متوالية انتهت بسقوط العاصمة “بوخارست” في 6 ديسمبر ولم يكن بوسع الجيش الروماني فعل شئ حيث حصل على دعم متأخر من القوات الروسية و أصبحت لدى القوى المركزية حق الوصول إلى حقول القمح و آبار النفط في “رومانيا” .
الاستراتيجية الألمانية و حرب الغواصات 1916 – 1917
شكك كل من الأدميرال “شير” والجنرال “فالكنهاين” فيما إذا كانت الغواصات الألمانية يمكن أن تلحق أي ضرر حاسم ببريطانيا العظمى طالما أن حربهم كانت مقتصرة على احتجاجات “الولايات المتحدة”و بعد إعادة فتح مبدئي لحملة الغواصات في 4 فبراير 1916 منحت السلطات البحرية الألمانية في مارس الإذن للغواصات بمهاجمة جميع السفن بدون تحذير باستثناء سفن الركاب و مع ذلك فإن رجال الدولة المدنيين الألمان الذين أولوا الاهتمام الواجب لتحذيرات دبلوماسيهم بشأن الرأي العام الأمريكي سرعان ما تمكنوا من التغلب على الجنرالات و الأدميرالات حيث تم تقييد نطاق حملة الغواصات بشدة مرة أخرى و صار جدل بين رجال الدولة و دعاة الحرب غير المقيدة ففي حين كان بعض رجال الدولة الآخرين يأملون في سلام تفاوضي كان العسكريين ملتزمين بتحقيق نصر عسكري و نتيجة تهديد الحصار البحري البريطاني بتجويع “ألمانيا” قبل أن يتحقق نصر عسكري فقد تقرر اعتبارًا من 1 فبراير 1917 أن حرب الغواصات يجب أن تكون غير مقيدة و بشكل علني.
تحركات السلام والسياسة الأمريكية حتى فبراير 1917
لم يكن هناك سوى القليل من الجهود من قبل أي من القوى المركزية أو دول الحلفاء لتحقيق سلام تفاوضي في العامين الأولين من الحرب العالمية الأولى و بحلول عام 1916 بدا أن أكثر العلامات الواعدة للسلام موجودة فقط في نوايا اثنين من رجال الدولة الموجودين في السلطة و هم المستشار الألماني “بيثمان” و الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” فبعد أن أعلن “ويلسون” حياد “الولايات المتحدة” في أغسطس 1914 سعى خلال العامين المقبلين للحفاظ عليه و في وقت مبكر من عام 1916 أرسل صديقه المقرب العقيد “إدوارد إم هاوس ” ليستطلع من “لندن” و “باريس” إمكانية الوساطة الأمريكية بين المتحاربين و بحلول منتصف عام 1916 و نتيجة الانتخابات الرئاسية في “الولايات المتحدة” قام “ويلسون” بتعليق تحركاته من أجل السلام .
و في غضون ذلك نجح “بيثمان” في “ألمانيا” بصعوبة في تأجيل إعلان حرب الغواصات غير المقيدة و بعد إعادة انتخاب ” ويلسون ” رئيسًا في 7 نوفمبر 1916 ترك شهرًا آخر يمر دون القيام بأي شيء من أجل السلام و خلال تلك الفترة كان الانتصار الألماني على “رومانيا” يحدث و في حين نفد صبر “بيثمان” على انتظار تحرك “ويلسون” جاء القادة العسكريين الألمان ليقولون أن “ألمانيا” و من موقع قوة قد تقترح الآن سلامًا مقبولاً و أُجبر على الاتفاق مع العسكريين على أنه في حالة رفض الحلفاء لمقترحاتهم يجب استئناف حرب الغواصات غير المقيدة و سُمح لبيثمان بالإعلان في 12 ديسمبر عن شروط عرض السلام الألماني و التى كان من الصعب على الحلفاء قبولها حيث كان العائق الرئيسي هو إصرار “ألمانيا” على ضم “بلجيكا” و الجزء المحتل من شمال شرق “فرنسا” و في 18 ديسمبر عام 1916 دعا “ويلسون” كلا المعسكرين المتحاربين إلى إعلان “أهدافهما الحربية” و شجعت وزارة الخارجية الأمريكية الحلفاء سرًا على تقديم شروط كاسحة للغاية بحيث لا تقبلها “ألمانيا” و وافق الألمان الذين اشتبهوا فى وجود تواطؤ بين “ويلسون” و الحلفاء من حيث المبدأ على بدء المفاوضات و قرروا بشكل خاص أن “ويلسون” لا ينبغي أن يشارك فعليًا في أي مفاوضات قد يجلبها و بحلول منتصف يناير 1917 انتهت تلك المحادثات .
و الغريب أن نداء “ويلسون” التالي فى خطاب 22 يناير عام 1917 و الذي دعا إلى التوفيق الدولي و سلام بلا نصر أثار استجابة سرية من البريطانيين معربًا عن استعدادهم لقبول وساطته و في المعسكر المقابل كانت “النمسا و المجر” قد استمعت بالمثل إلى مقترحات السلام لكن “ألمانيا” قررت بالفعل في 9 يناير إعلان حرب غواصات غير مقيدة و تم تسليم رسالة “بيثمان” التي أعادت التأكيد على شروط السلام الألمانية و هو ما دفع “ويلسون” الى قطع العلاقات الدبلوماسية بين “الولايات المتحدة” و “ألمانيا” في 3 فبراير عام 1917 و طلب من الكونجرس في 26 فبراير سلطة اتخاذ جميع الإجراءات الأخرى لحماية التجارة الأمريكية لكن الرأي الأمريكي لم يكن مستعدًا للحرب و امتنع الألمان بحكمة عن شن هجمات على السفن الأمريكية.
و فى نوفمبر 1916 قدم الرئيس المكسيكي “فينوستيانو كارانزا ” الذي كانت علاقات بلاده بالولايات المتحدة حرجة عرضًا فعليًا لاعطاء قواعد على الساحل المكسيكي للألمان لغواصاتهم و أرسل وزير الخارجية الألمانى “زيمرمان” في 16 يناير 1917 برقية مشفرة إلى سفيره في “المكسيك” يطلب منه أن يقترح على الحكومة المكسيكية أنه إذا دخلت “الولايات المتحدة” الحرب ضد “ألمانيا” يجب أن تصبح “المكسيك” حليفًا لألمانيا بهدف استعادة ولاية “تكساس” و “أريزونا ” من الولايات المتحدة و تم اعتراض هذه الرسالة و فك شفرتها من قبل المخابرات البريطانية و أرسلت إلى “ويلسون” في 24 فبراير و تم نشرها في الصحافة الأمريكية في 1 مارس و أطلقت على الفور مطالبة وطنية للحرب ضد “ألمانيا” .
التطورات في عام 1917
الجبهة الغربية يناير – مايو 1917
كان لدى الحلفاء الغربيين خلال الحرب العالمية الأولى سبب وجيه لعدم رضاهم العميق عن النتائج السيئة لمؤسساتهم عام 1916 وقد ظهر هذا الاستياء من خلال تغييرين رئيسيين تم إجراؤهما في نهاية العام ففي “بريطانيا العظمى” تم استبدال حكومة “أسكويث” في ديسمبر 1916 و في نفس الشهر في “فرنسا” تم نقل منصب القائد العام للجيش من “جوفرى” إلى الجنرال “نيفيل” أما بالنسبة للوضع العسكري فقد نمت القوة القتالية للجيش البريطاني على الجبهة الغربية إلى حوالي 1.200.000 رجل و ما زالت تتزايد و تم زيادة عدد الجيش الفرنسي من خلال دمج القوات الاستعمارية إلى حوالي 2،600،000 .
و بالنسبة الى الجنرال “نيفيل” الذي يدين بتعيينه إلى التناقض بين النجاح الرائع لهجماته المرتدة الأخيرة في “فردان” و النتائج الهزيلة لاستراتيجية “جوفري” للاستنزاف كان متفائلا و لديه أفكار عن المجد الوطني و كانت التكتيكات التي خططها “نيفيل” لاستخدامها مبنية على تلك التي وظفها بنجاح كبير في “فردان” لكنه كان مبالغا فى التفاؤل على نظريته التي تتكون أساسًا من قصف مدفعي مكثف مع هجمات أمامية ضخمة و فى المقابل توقع الألمان تجديد هجوم الحلفاء على السوم لذلك أستغلوا وقتهم لإحباط خطط “نيفيل” و تقوية الجبهة الألمانية بطريقتين مختلفتين أولاً تعزيز الدفاعات الضعيفة بخط ثالث خارج نطاق المدفعية الفرنسية ثانيًا وضع خط دفاعى جديد و قوي للغاية و المسمى ” سيجفيريد ” أو “خط هيندنبورج” و الذى تم بناؤه بسرعة و سحب القوات الألمانية المتقدمة لتكون ورائه .
و أدى هذا الانسحاب الألماني المحير و غير المتوقع إلى إفساد خطة “نيفيل” و رغم التحذيرات من جميع الجهات حول الوضع المتغير أصر “نيفيل” على تنفيذ خطته و بدأت “معركة أراس” التي بدأت بهجوم بريطانى في 9 أبريل عام 1917 بشكل جيد بما فيه الكفاية للمهاجمين و ذلك بفضل أساليب المدفعية المحسنة كثيرًا و قذائف الغاز السام الجديدة التي شلّت المدفعية المعادية و على الرغم من استمرار الهجوم حتى 5 مايو إلا أن الألمان دافعوا بشكل جيد و نال هجوم “نيفيل” فشل ذريع حيث كانت القوات المهاجمة محاصرة في شبكة من نيران المدافع الرشاشة و بحلول الليل كان الفرنسيين قد تقدموا أمتار بدلاً من كيلومترات متوقعة في خطة “نيفيل” و أسر حوالي 28000 ألماني بتكلفة 120.000 ضحية للفرنسيين و هو ما جعل الروح المعنوية الفرنسية سيئة لأن تنبؤات “نيفيل” الرائعة لنجاح الهجوم كانت متفائلة زيادة عن اللزوم و هو امر لم يجده الجنود على أرض الواقع و مع انهيار خطة “نيفيل” دفنت طموحاته و بعد بعض من التأخير لحفظ ماء الوجه حل مكانه كقائد أعلى الجنرال “بيتان” في 15 مايو 1917 .
و تم إجراء هذا التغيير لتجنب تكملة أكثر ضررًا ففي أواخر أبريل اندلع تمرد بين المشاة الفرنسيين و انتشر حتى تأثر به 16 فيلقًا من الجيش الفرنسي و اختارت السلطات أن تنسب ذلك إلى الدعاية التحريضية لكن اندلاع التمرد كان يحدث دائمًا عندما صدرت أوامر للقوات المنهكة بالعودة إلى الصف و استطاع “بيتان” اعادة الهدوء من خلال تلبية المظالم العادلة للقوات و أعادت سمعته ثقة القوات في قادتهم و أوضح أنه سيتجنب الهجمات المتهورة في المستقبل على الخطوط الألمانية حيث أصر “بيتان” على أن الاستراتيجية العقلانية الوحيدة هي البقاء في موقف دفاعي حتى تغير العوامل الجديدة الظروف بشكل كافٍ لتبرير شن الهجوم بأمل معقول في النجاح و كانت نصيحته المستمرة هي: “يجب أن ننتظر الأمريكيين و الدبابات” حيث تم بناء الدبابات في وقت متأخر بأعداد كبيرة و أظهر هذا التركيز عليها إدراكًا بأن الحرب الآلية قد حلت محل حرب المشاة الجماعية .
دخول الولايات المتحدة في الحرب
بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع “ألمانيا” في 3 فبراير عام 1917 دفعت الأحداث “الولايات المتحدة” بلا هوادة على طريق الحرب و باستخدام سلطته كقائد أعلى للقوات المسلحة أمر “ويلسون” في 9 مارس بتسليح السفن التجارية الأمريكية حتى يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ضد هجمات الغواصات حيث أغرقت الغواصات الألمانية ثلاث سفن تجارية أمريكية خلال الفترة من 16 إلى 18 مارس مما أدى إلى خسائر فادحة في الأرواح و اتخذ “ويلسون” قرارًا في 20 مارس لإعلان الحرب على “ألمانيا” و بدعم من مجلس وزرائه و من قبل معظم الصحف و شريحة كبيرة من الرأي العام و في 21 مارس دعا الكونجرس للاجتماع في جلسة خاصة و في 2 أبريل قام بتسليم رسالة الحرب لتلك الهيئة حيث وافق مجلس الشيوخ في 3 أبريل و مجلس النواب في 6 أبريل على قرار الحرب و أعقب ذلك إعلان الحرب على الفور.
و كان دخول “الولايات المتحدة” نقطة تحول في الحرب العالمية الأولى لأنه جعل هزيمة “ألمانيا” في نهاية المطاف ممكنة حيث كان من المتوقع في عام 1916 أنه إذا ذهبت “الولايات المتحدة” إلى الحرب فإن الجهود العسكرية التي يبذلها الحلفاء ضد “ألمانيا” ستدعمها الإمدادات الأمريكية و تمديدات الائتمان الهائلة و قد تم الوفاء بهذه التوقعات بشكل وافٍ و حاسم حيث كان إنتاج “الولايات المتحدة” للأسلحة ليس فقط لتلبية احتياجاتها الخاصة و لكن أيضًا لاحتياجات “فرنسا” و “بريطانيا العظمى” و بحلول الأول من أبريل عام 1917 كان الحلفاء قد استنفدوا وسائلهم لدفع تكاليف الإمدادات الأساسية من “الولايات المتحدة” و كان من الصعب أن نرى كيف كان بإمكانهم الحفاظ على المجهود الحربي إذا ظلت “الولايات المتحدة” على الحياد حيث حافظت القروض الأمريكية للحلفاء بقيمة 7 ملايين دولار بين عام 1917 و نهاية الحرب العالمية الأولى على تدفق الأسلحة و المواد الغذائية الأمريكية عبر المحيط الأطلسي .
و كانت المساهمة العسكرية الأمريكية لا تقل أهمية عن المساهمة الاقتصادية حيث تم تقديم نظام التجنيد الإجباري بموجب قانون الخدمة الانتقائية الصادر في 18 مايو 1917 و لكن تطلب الأمر عدة أشهر لرفع و تدريب و إرسال قوة استكشافية إلى أوروبا حيث كان لا يزال هناك 85000 جندي أمريكي فقط في “فرنسا” عندما شن الألمان آخر هجوم كبير لهم في مارس 1918 و لكن كان هناك 1،200،000 هناك بحلول سبتمبر التالي و كان القائد الأمريكي في أوروبا الجنرال “جون بيرشينج” كما كانت البحرية الأمريكية هي ثاني أكبر بحرية في العالم و عندما دخلت أمريكا الحرب سرعان ما تخلت البحرية عن خططها لبناء السفن الحربية و ركزت بدلاً من ذلك على بناء المدمرات و مطاردات الغواصات التي كانت في أمس الحاجة إليها لحماية سفن الحلفاء من الغواصات الألمانية و بحلول يوليو 1917 كان هناك بالفعل 35 مدمرة أمريكية متمركزة في “كوينزتاون” على ساحل “أيرلندا ” و هو ما يكفي لتكملة المدمرات البريطانية لنظام قوافل فعال حقًا عبر المحيط الأطلسي و بحلول نهاية الحرب كان هناك أكثر من 380 طائرة أمريكية متمركزة في الخارج كما قدم إعلان الحرب الأمريكي مثالاً يحتذى به للدول الأخرى في نصف الكرة الغربي حيث أصبحت “كوبا و بنما و هايتي و البرازيل و جواتيمالا و نيكاراغوا و كوستاريكا و هندوراس” في حالة حرب مع “ألمانيا” بحلول نهاية يوليو 1918 بينما اكتفت جمهورية “الدومينيكان” و “بيرو” و “أوروجواي” و “الإكوادور” بقطع العلاقات .
الثورات الروسية والجبهة الشرقية مارس 1917 – مارس 1918
وضعت الثورة الروسية عام 1917 نهاية للملكية الاستبدادية لروسيا الإمبراطورية و استبدلت بحكومة مؤقتة لكن سلطة الأخيرة كانت محل نزاع من قبل السوفييتات أو “مجالس نواب العمال و الجنود” الذين ادعوا أنهم يمثلون جماهير الشعب و بالتالي فهم القائد الشرعي للثورة حيث كانت الثورة حدثا هائلا و بدا للحلفاء الغربيين على أنه كارثة و لقوى المركز فرصة ذهبية و ظل الجيش الروسي في الميدان ضد القوى المركزية لكن روحه تحطمت و تعب الشعب الروسي تمامًا من الحرب التي شنها النظام الإمبراطوري لأسبابه الخاصة دون أن يكون مستعدًا معنويًا أو ماديًا لها و كان الجيش الروسي سيئ التسليح و الإمداد و التدريب و لديه ضعف فى القيادة و عانى من سلسلة طويلة من الهزائم و أدت دعاية السوفييتات للجنود و البحارة للتمرد داخل وحداتهم إلى تخريب بقايا الانضباط في القوات التي كانت بالفعل محبطة بشدة .
و كان قادة الحكومة المؤقتة توقعوا أن نصرًا ألمانيًا في الحرب من شأنه أن يبشر بالخير لروسيا في المستقبل كما كانوا أيضًا مدركين لالتزامات أمتهم تجاه الحلفاء الغربيين و اعتقد “كيرينسكي ” وزير الحرب من مايو 1917 أن الهجوم المنتصر من شأنه أن يعزز سلطة الحكومة الجديدة إلى جانب تخفيف الضغط على الجبهة الغربية و نتيجة لذلك انطلقت قوات بقيادة “كورنيلوف” ضد النمساويين في شرق “غاليسيا” في 1 يوليو 1917 الا انه توقف فجأة نتيجة التعزيزات الألمانية بعد 10 أيام من التقدم المذهل و تحول إلى هزيمة كارثية في الأسابيع الثلاثة التالية و بحلول أكتوبر كان الألمان المتقدمين قد سيطروا على معظم “لاتفيا” و على الطرق المؤدية إلى خليج “فنلندا” و في غضون ذلك كانت الفوضى تنتشر في “روسيا” و كانت الشعوب غير الروسية العديدة في الإمبراطورية السابقة تطالب واحدة تلو الأخرى بالحكم الذاتي أو الاستقلال عن “روسيا” سواء بشكل عفوي أو بدفع الألمان لاحتلال بلدانهم و لم يكن الأوكرانيين والجورجيين والأرمن والأذربيجانيين أقل نشاطًا في حركاتهم القومية المطالبة بالإستقلال .
و تلاشت سلطة الحكومة المؤقتة و نفوذها بسرعة في “روسيا” خلال أواخر صيف و خريف عام 1917 و أطاحت الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917 بالحكومة المؤقتة و أتت بالبلاشفة الماركسيين تحت قيادة “فلاديمير لينين” حيث أدت الثورة البلشفية إلى نهاية مشاركة “روسيا” في الحرب و في 26 نوفمبر أمرت الحكومة البلشفية الجديدة من جانب واحد بوقف الأعمال العدائية ضد القوى المركزية و ضد الأتراك و تم التوقيع على هدنة بين روسيا اللينينية و القوى المركزية في “بريست ليتوفسك” في 15 ديسمبر 1917 و كانت مفاوضات السلام التي تلت ذلك معقدة فمن ناحية أرادت “ألمانيا ” السلام في الشرق من أجل أن تكون حرة في نقل القوات من هناك إلى الجبهة الغربية كما كانت مهتمة في نفس الوقت باستغلال مبدأ تقرير المصير القومي من أجل نقل أكبر قدر ممكن من الأراضي إلى مدارها الآمن من روسيا الثورية الى الأراضى الألمانية و فى المقابل أراد البلاشفة السلام من أجل أن يكونوا أحرارًا في ترسيخ نظامهم في الشرق بهدف التمكن من مده غربًا بمجرد أن يحين الوقت و غزا الألمان “أوكرانيا” على الرغم من الهدنة ثم استأنفوا تقدمهم في دول البلطيق و في “بيلاروسيا” و رغم ذلك قبلت شروط “ألمانيا” من أجل إنقاذ الثورة البلشفية و بموجب معاهدة “بريست ليتوفسك” (3 مارس 1918) اعترفت “روسيا” السوفيتية بفنلندا و أوكرانيا كدولتين مستقلتين و تخلوا عن السيطرة على “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا و معظم بيلاروسيا” و تنازلت عن كارس وأردهان وباتومي لتركيا.
الشؤون اليونانية
كان موقف “اليونان” تجاه الحرب غير مؤكد منذ فترة طويلة ففي حين تمسك الملك “قسطنطين الأول” و الأركان العامة عن فكرة مبدأ الحياد فضل “إليوتيريوس فينيزيلوس” زعيم الحزب الليبرالي الانحياز الى قضية الحلفاء كرئيس للوزراء من عام 1910 و أراد أن تشارك “اليونان” في مشروع الدردنيل للحلفاء ضد “تركيا” في عام 1915 لكن هيئة الأركان العامة رفضت ذلك و احتل الحلفاء منطقتى “ليمنوس و ليسبوس” بغض النظر عن حياد “اليونان” و أقال الملك “فينيزيلوس” من منصبه مرتين في عام 1915 لكن “فينيزيلوس” كان لا يزال يحظى بأغلبية في البرلمان و أثار احتلال البلغار لمقدونيا اليونانية في صيف عام 1916 أزمة سياسية أخرى و غادر “فينيزيلوس” العاصمة “أثينا” متوجهاً إلى جزيرة “كريت” في أواخر سبتمبر و شكل حكومة خاصة به هناك و نقلها في أوائل أكتوبر إلى “سالونيك” و في 27 نوفمبر أعلنت الحرب على “ألمانيا و بلغاريا” و أخيرًا قام الحلفاء في 11 يونيو 1917 بخلع الملك “قسطنطين” ثم عاد “فينيزيلوس” إلى “أثينا” لرئاسة الحكومة اليونانية الموحدة و التي أعلنت في 27 يونيو الحرب على القوى المركزية.
كابوريتو
على الجبهة الإيطالية و خلال الفترة من 17 أغسطس إلى 12 سبتمبر استولى الايطاليين على جزء كبير من هضبة بينسيزا مما أدى إلى حدوث اضطرابات فى المقاومة النمساوية و لتجنب الانهيار النمساوي قررت ” ألمانيا ” أنه يجب على النمساويين شن هجوم ضد “إيطاليا” و أنه يمكنهم بصعوبة إقراضهم ستة فرق ألمانية لهذا الغرض و تم التخطيط للهجوم بجرأة و التنظيم ببراعة و التنفيذ الجيد حيث تفاجأ الإيطاليين تمامًا من هذا الزخم الذي هدد قواتهم حيث تجاوز نجاح الهجوم آمال مخططيه و لم يتمكن الألمان من استغلال تقدمهم السريع بفعالية كما أرادوا مما ساعد الايطاليين من التراجع السريع لإنقاذ أجنحة الجيش و تمكنوا بحلول 9 نوفمبر من حشد 300 ألف جندي الا انهم تكبدوا خسائر كبيرة فى المعارك وصلت الى 500000 ضحية و تم أسر 250.000 آخرين ثم تم دعم دفاع الإيطاليين من خلال التعزيزات البريطانية و الفرنسية التي تم نقلها إلى “إيطاليا” عندما بدأت الانهيار.
بلاد ما بين النهرين صيف 1916 – شتاء 1917
حظيت القوات البريطانية في بلاد ما بين النهرين التي أهملت و أثبطت عزيمتها بسبب كارثة “الكوت” باهتمام أكبر من “لندن” في النصف الثاني من عام 1916 حيث قام السير “فريدريك ستانلي مود” الذي أصبح القائد العام للقوات المسلحة بفعل الكثير لاستعادة معنوياتهم حتى أنه بحلول ديسمبر كان مستعدًا لاستعادة “الكوت” كخطوة أولى نحو الاستيلاء على “بغداد” و من خلال سلسلة من الحركات الالتفافية شق البريطانيين طريقهم تدريجيًا و منهجيًا فوق نهر دجلة مما أجبر الأتراك على توسيع دفاعاتهم في اتجاه مجرى النهر حتى تم توجيه الضربة النهائية في “الكوت” بهجوم أمامي في 22 فبراير 1917 و على الرغم من سقوطها بعد يومين فقد نجحت معظم الحامية التركية في تخليص نفسها من التهديد بالحصار و نتيجة عدم قدرتهم على الاحتفاظ بخط جديد على “نهر ديالى” قام القائد التركي “قاسم كارابكير” بإخلاء “بغداد” التي دخلها البريطانيين في 11 مارس و في أوائل نوفمبر تم طرد القوة التركية الرئيسية في بلاد ما بين النهرين من “تكريت” على نهر دجلة في منتصف الطريق بين بغداد و الموصل و بعد أن غيّر “مود” مشهد بلاد ما بين النهرين خلال عام واحد من مشهد يائس إلى مشهد نصر توفي بسبب الكوليرا في 18 نوفمبر 1917 و خلفه في القيادة السير “ويليام مارشال” .
فلسطين خريف 1917
بعد أن تولى القيادة في “مصر” نقل اللنبي مقره من “القاهرة” إلى الجبهة الفلسطينية و خصص صيف عام 1917 للتحضير لهجوم خطير ضد الأتراك و على الجانب التركي كان “فالكنهاين” الذي يتولى القيادة الآن في “حلب” يخطط بنفسه للذهاب إلى شبه جزيرة سيناء في الخريف لكن البريطانيين كانوا قادرين على الضرب أولاً حيث بدأ “اللنبي” عمليته بقصف مكثف لغزة من 20 أكتوبر فصاعدًا و عندما تم الاستيلاء على بئر السبع من قبل القوات المتقاربة في 31 أكتوبر تم شن هجوم خادع على “غزة” في اليوم التالي لجذب الاحتياطيات التركية إلى هناك و بعد ذلك اخترق الهجوم الرئيسي الذي نُفذ في 6 نوفمبر الدفاعات الضعيفة و حاول “فالكنهاين” القيام بضربة معاكسة في بئر السبع لكن انهيار المركز التركي استدعى تراجعًا عامًا و بحلول 14 نوفمبر انقسمت القوات التركية إلى مجموعتين مختلفتين و تم الاستيلاء على ميناء يافا و نقل اللنبي قوته الرئيسية للتقدم إلى الداخل في القدس و في 9 ديسمبر احتلتها “بريطانيا” .
الجبهة الغربية يونيو – ديسمبر 1917
أعطى قرار “بيتان” بالبقاء في موقع دفاعي مؤقتًا بعد فشل “نيفيل” الفرصة للقائد البريطانى “هيج” لتحقيق رغبته في شن هجوم بريطاني في فلاندرز حيث أتخذ الخطوة الأولى في 7 يونيو عام 1917 بهجوم تم إعداده منذ فترة طويلة على “ميسينز ريدج ” على الجانب الجنوبي من منطقة “إيبرس” و أثبت هذا الهجوم نجاحًا شبه كامل و زيادة فى ثقة ” هيج ” الذى تجاهل التحذيرات القائلة بأن الأمطار ستحول منذ بداية شهر أغسطس ريف فلاندرز إلى مستنقع لا يمكن عبوره تقريبًا حيث كان يبذل قصارى جهده لتحقيق اختراق مبكر و هكذا عندما بدأت معركة “ايبرس الثالثة” في 31 يوليو كان الهجوم فاشلاً فبعد أربعة أيام كانت الأرض بالفعل مستنقعات لكن “هيج” كان لا يزال مصمماً على الاستمرار في هجومه و ما بين 20 سبتمبر و 4 أكتوبر و بفضل تحسن الطقس تمكن المشاة من التقدم إلى مواقع تم تطهيرها من خلال القصف و لكن ليس أبعد من ذلك و شن “هيج” هجومًا آخر غير مجدٍ في 12 أكتوبر تلاه ثلاث هجمات أخرى بالكاد أكثر نجاحًا في الأيام العشرة الأخيرة من أكتوبر و أخيرًا في 6 نوفمبر عندما تقدمت قواته مسافة قصيرة جدًا و احتلت أنقاض “باسندال” بالكاد على بعد خمسة أميال من نقطة انطلاق هجومه شعر “هيج” أنه تم القيام بما يكفي حيث فقد 325000 رجل و لم يلحق أي ضرر مماثل بالألمان .
و أنهى البريطانيين على الأقل حملة العام بعملية ذات أهمية معينة للمستقبل و عندما تلاشى هجوم إيبرس في طين فلاندرز نظروا مرة أخرى إلى دباباتهم التي لديهم الآن قوة كبيرة منها و لكنهم بالكاد يستطيعون استخدامها بشكل مريح في المستنقعات و اقترح ضابط فيلق الدبابات العقيد ” فولر ” غارة واسعة النطاق على الجبهة الجنوبية الغربية من كامبراي حيث يمكن إطلاق سرب من الدبابات عبر الأراضي المنخفضة ضد الخنادق الألمانية و في 20 نوفمبر تم شن الهجوم بقيادة 324 دبابة و فاجأ أول هجوم حاشد بالدبابات في التاريخ الألمان تمامًا و حقق البريطانيين اختراقًا أعمق بكثير و بتكلفة أقل من أي هجوم من هجماتهم السابقة و لسوء الحظ تم إلقاء جميع القوات و الدبابات في الضربة الأولى و بما أنه لم يتم تعزيزهم في الوقت المناسب فقد توقف التقدم على بعد عدة كيلومترات من “كامبراي” الى ان حدث ضربة ألمانية مضادة في 30 نوفمبر اخترقت الجناح الجنوبي للقوات البريطانية و هددت القوات بأكملها بكارثة قبل أن يتم نجدتهم من قبل هجوم مضاد بريطاني آخر و في النهاية أعاد الألمان احتلال ثلاثة أرباع الأرض التي فاز بها البريطانيبن و مع ذلك أثبتت معركة “كامبراي” انه يمكن للدبابة أن تفتح حاجز الخندق .
الشرق الأقصى
لم يكن دخول “الصين” إلى الحرب العالمية الأولى في عام 1917 إلى جانب الحلفاء مدفوعًا بأي شكوى ضد القوى المركزية و لكن بخوف حكومة “بكين” من أن تحتكر “اليابان” المحاربة منذ عام 1914 تعاطف الحلفاء و “الولايات المتحدة” عندما تأتى شؤون الشرق الأقصى للتسوية بعد الحرب و عليه في مارس عام 1917 قطعت حكومة “بكين” علاقاتها مع “ألمانيا” و في 14 أغسطس أعلنت الصين الحرب ليس فقط على “ألمانيا “و لكن أيضًا على العدو الآخر للحلفاء الغربيين “النمسا و المجر” و مع ذلك فقد ثبت أن مساهمة “الصين” في جهود الحلفاء الحربية لا تذكر من الناحية العملية.
العمليات البحرية 1917-1918
نظرًا لأن القيود الألمانية السابقة على حرب الغواصات كانت مدفوعة بالخوف من استفزاز “الولايات المتحدة” للدخول إلى الحرب فقد أزال إعلان الحرب الأمريكي في أبريل 1917 أي سبب لانسحاب الألمان من سياستهم المعلنة بالفعل للحرب غير المقيدة و نتيجة لذلك أغرقت الغواصات 181 سفينة في يناير و 259 في فبراير و 325 في مارس و أغرقت 430 في أبريل و مثّلت عمليات الإغراق في أبريل 852 ألف طن إجمالي مقارنة بـ 600 ألف طن افترضها الاستراتيجيين الألمان على أنها هدفهم الشهري و 700 ألف طن التي تنبأ بها البريطانيين في شهر مارس بشكل متشائم و كان الألمان قد حسبوا أنه إذا كان من الممكن إغراق السفن التجارية العالمية بمعدل شهري قدره 600 ألف طن فإن الحلفاء سيكونوا غير قادرين على بناء سفن تجارية جديدة بسرعة كافية لتحل محل السفن المفقودة و لن يتمكنوا من الاستمرار في الحرب لأكثر من خمسة أشهر و في الوقت نفسه شرع الألمان الذين كان لديهم 111 غواصة قيد التشغيل عندما بدأت الحملة غير المقيدة في برنامج بناء واسع النطاق حيث كانت خسائرهم بسيطة و تبلغ واحدًا أو اثنين من الغواصات شهريًا و خلال شهر أبريل كان من المقرر إغراق واحدة من كل أربع سفن تجارية أبحرت من الموانئ البريطانية و بحلول نهاية شهر مايو تم تخفيض كمية الشحن المتاحة لنقل المواد الغذائية و الذخائر الحيوية إلى “بريطانيا العظمى” إلى 6.000.000 طن فقط .
و مع ذلك فقد ثبت أن العدد الإجمالي لشهر أبريل هو رقم الذروة و يرجع ذلك أساسًا إلى أن الحلفاء تبنوا أخيرًا نظام القوافل لحماية السفن التجارية حيث كان في السابق كل سفينة متجهة إلى أحد موانئ الحلفاء تبحر من تلقاء نفسها بمجرد تحميلها و هكذا كان البحر مليئًا بالسفن التجارية الفردية و غير المحمية و يمكن أن تعتمد الغواصة على عدة أهداف تدخل نطاقه أثناء رحلة بحرية لذلك فقد تم معالجة تلك المشكلة مع نظام القافلة هذا من خلال جعل مجموعات من السفن التجارية تبحر داخل حلقة واقية من المدمرات و المرافقين البحريين الآخرين و كان من الممكن لوجستيًا و اقتصاديًا توفير هذا النوع من المرافقة لمجموعة من السفن علاوة على ذلك فإن الجمع بين القافلة و المرافقة سيجبر الغواصة على المخاطرة بإمكانية شن هجوم مضاد من أجل إغراق السفن التجارية مما يمنح الحلفاء فرصة لتقليل أعداد الغواصات و على الرغم من الفوائد الواضحة و التي تبدو ساحقة لنظام القوافل الا ان الفكرة كانت جديدة و قوبلت مثل أي نظام لم يتم تجربته بمعارضة قوية من داخل الجيش و لكن نتيجة ان ذلك الأمر يمثل ضرورة قصوى و تحت ضغط كبير من “لويد جورج” تمت تجربة النظام بشكل أو بآخر كملاذ أخير.
و أبحرت القافلة الأولى من “جبل طارق” إلى “بريطانيا العظمى” في 10 مايو 1917 و الأولى من “الولايات المتحدة” أبحرت في وقت لاحق في مايو و أبحرت السفن التي تستخدم جنوب المحيط الأطلسي في قافلة يوم 22 يوليو و خلال الأشهر الأخيرة من عام 1917 تسبب استخدام القوافل في انخفاض مفاجئ في غرق السفن من قبل الغواصات و سرعان ما تم إثبات صحة نظام القوافل بحيث تم توسيعه في أغسطس ليشمل الشحن المتجه للخارج من “بريطانيا العظمى” و لاحظ الألمان أنفسهم أن البريطانيين قد أدركوا مبادئ الحرب ضد الغواصات و أن ذلك النظام قد قلل إلى حد كبير من فرص الهجوم .
و بصرف النظر عن القوافل قام الحلفاء بتحسين تقنيتهم المضادة للغواصات (الهايدروفونات ، شحنات العمق ، إلخ) و قاموا بتوسيع حقول الألغام الخاصة بهم علاوة على ذلك في عام 1918 ، أنشأ الأدميرال السير “روجر كيز” نظامًا يتم بموجبه مراقبة القناة الإنجليزية بواسطة مركبة سطحية مزودة بأضواء كاشفة بحيث يتعين على الغواصات التي تمر عبرها أن تغمر نفسها في الأعماق لتضرب بالألغام التي تم زرعها لهم و في وقت لاحق تخلت معظم الغواصات عن القناة كوسيلة للوصول إلى المحيط الأطلسي و بدلاً من ذلك اتخذت الممر شمال “بريطانيا العظمى” و بالتالي فقدت الوقود الثمين و الوقت قبل الوصول إلى الممرات البحرية كثيفة السفر في الطرق الغربية لبريطانيا العظمى و في صيف عام 1918 زرع عمال الألغام الأمريكيون أكثر من 60.000 لغم في حزام عريض يمتد على مسافة 180 ميلاً من بحر الشمال بين اسكتلندا و النرويج و ذلك لعرقلة وصول الغواصات من “ألمانيا” إلى منطقة المحيط الأطلسي بخلاف القناة الخاضعة لحراسة مشددة .
حرب جوية
في بداية الحرب العالمية الأولى استخدمت القوات البرية و البحرية الطائرات الموضوعة تحت تصرفها في المقام الأول للاستطلاع و بدأ القتال الجوي مع تبادل الطلقات من الأسلحة الصغيرة بين طيارين العدو الذين يلتقون بعضهم البعض أثناء الاستطلاع و مع ذلك ظهرت الطائرات المقاتلة المسلحة بالبنادق الآلية في عام 1915 كما تم إدخال القصف التكتيكي و قصف القواعد الجوية للعدو بشكل تدريجي في هذا الوقت و تطوير دوريات الاتصال مع تقديم الطائرات للدعم الفوري للمشاة في عام 1916 و من ناحية أخرى بدأ القصف الاستراتيجي في وقت مبكر حيث قصفت الطائرات البريطانية القادمة من “دونكيرك” مدن “كولونيا و دوسلدورف و فريدريشهافن ” في خريف عام 1914 و كان هدفها الرئيسي هو حظائر المناطيد الألمانية و بالمثل كانت الطائرات الألمانية أو الطائرات البحرية تشن غارات على البلدات الإنجليزية في ديسمبر 1914 و تم قصف “لندن” لأول مرة في ليلة 31 مايو – 1 يونيو 1915 و في أكتوبر 1916 بدأ البريطانيين بدورهم هجومًا أكثر منهجية من شرق فرنسا ضد أهداف صناعية في جنوب غرب “ألمانيا”و بينما وجه البريطانيين الكثير من قوتهم الجديدة في القصف لشن هجمات على قواعد الغواصات استخدم الألمان قوتهم إلى حد كبير لمواصلة الهجوم على مدن جنوب شرق إنجلترا و هو ما دفع البريطانيين الى التفكير بجدية أكبر في القصف الاستراتيجي و في الحاجة إلى قوة جوية مستقلة عن الخدمات القتالية الأخرى لذلك تم إنشاء سلاح الجو الملكي الذى يعتبر بمثابة أول قوة جوية منفصلة في العالم من خلال سلسلة من الإجراءات المتخذة بين أكتوبر 1917 و يونيو 1918 .
تحركات السلام مارس ١٩١٧ – سبتمبر ١٩١٨
حتى نهاية عام 1916 اقتصر السعي لتحقيق السلام على الأفراد و المجموعات الصغيرة و في الأشهر التالية بدأت في الحصول على دعم شعبي واسع حيث كان الجوع في المدن و التمرد في الجيوش و قوائم الضحايا التي يبدو أنها لا نهاية لها جعلت المزيد و المزيد من الناس يتساءلون عن الحاجة و الحكمة لاستمرار الحرب و توفي “فرانسيس جوزيف” إمبراطور النمسا في 21 نوفمبر 1916 و بدأ الإمبراطور الجديد ” تشارلز الأول ” و وزير خارجيته “جراف أوتوكار تشيرنين ” تحركات السلام في ربيع عام 1917 و لكن للأسف لم ينسقوا جهودهم الدبلوماسية و كانت قنوات التفاوض التي فتحوها بين “النمسا و المجر” و الحلفاء قد جفت بحلول الصيف و في “ألمانيا” اقترح “ماتياس إرزبيرجر” و هو عضو كاثوليكي من الروم الكاثوليك في الرايخستاج في 6 يوليو 1917 التخلي عن عمليات الضم الإقليمية من أجل تسهيل التوصل إلى سلام تفاوضي و خلال المناقشات التي تلت ذلك استقال “بيثمان هولفيج” من مكتب المستشارية و عين الإمبراطور “ويليام الثاني” فى المنصب “جورج ميكايليس” دون استشارة الرايخستاج الذى قام بتمرير قرار السلام في 19 يوليو بأغلبية 212 صوتًا و الذى كان عبارة عن سلسلة من العبارات غير المؤذية التي تعبر عن رغبة “ألمانيا” في السلام و لكن دون التخلي الواضح عن عمليات الضم أو التعويضات و لم ينتبه الحلفاء إلى ذلك تقريبًا.
و كان اقتراح النائب الألمانى “إرزبرجر” في 6 يوليو يهدف إلى تمهيد الطريق أمام مذكرة البابا بنديكتوس الخامس عشر القادمة للمتحاربين في كلا المعسكرين و التى دعت إلى انسحاب “ألمانيا” من “بلجيكا” و “فرنسا” و انسحاب الحلفاء من المستعمرات الألمانية و استعادة ليس فقط “صربيا “و “الجبل الأسود” و “رومانيا” و لكن أيضًا استقلال “بولندا” و رفضت “فرنسا” و “بريطانيا العظمى” تقديم رد سريع في انتظار تصريح “ألمانيا” بموقفها من “بلجيكا” و الذي تجنبت “ألمانيا” الالتزام به و تم اتخاذ خطوة سلام غير رسمية في “لندن” يوم 29 نوفمبر 1917 حين نشرت صحيفة “الديلي تلجراف” رسالة من اللورد “لانسداون” تقترح إجراء مفاوضات على أساس الوضع الراهن قبل الحرب و رفض “لويد جورج” أطروحات “لانسداون” في 14 ديسمبر .
و جعل الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” من نفسه المصاغ الرئيسي و المتحدث باسم أهداف الحرب العالمية الأولى بالنسبة للحلفاء و “الولايات المتحدة” حيث شهدت الأشهر التسعة الأولى من عام 1918 سلسلة تصريحات “ويلسون” الشهيرة حول أهداف الحرب و تمثلت فى النقاط الأربع عشرة و التى كانت (1) عهود السلام المفتوحة و التخلي عن الدبلوماسية السرية (2) حرية الملاحة في أعالي البحار في زمن الحرب بالإضافة إلى السلام (3) أقصى قدر ممكن من حرية التجارة (4) تخفيض مضمون للأسلحة (5) تسوية استعمارية محايدة لا تستوعب فقط القوى الاستعمارية و لكن أيضًا شعوب المستعمرات (6) الإخلاء من جميع الأراضي الروسية و احترام حق “روسيا” في تقرير المصير (7) الاستعادة الكاملة لبلجيكا (8) الانسحاب الألماني الكامل من “فرنسا” و الرضا لفرنسا حول الألزاس واللورين (9) إعادة تعديل حدود “إيطاليا” على أساس عرقي (10) آفاق مفتوحة للحكم الذاتي لشعوب النمسا-المجر (11) استعادة “رومانيا” و “صربيا” و “الجبل الأسود” مع حرية الوصول إلى البحر لصربيا و الضمانات الدولية لاستقلال دول البلقان. (12) احتمالية الحكم الذاتي للشعوب غير التركية من الإمبراطورية العثمانية و فتح المضيق بلا قيود مع تأمين السيادة للأتراك في مناطقهم (13) بولندا المستقلة مع الوصول إلى البحر وبموجب ضمانات دولية (14) “رابطة عامة للأمم” لضمان استقلال وسلامة جميع الدول كبيرها و صغيرها.
و كانت حملة ويلسون للسلام عاملاً هامًا في انهيار إرادة القتال لدى الشعب الألماني و قرار الحكومة الألمانية رفع دعوى من أجل السلام في أكتوبر 1918 و في الواقع أجرى الألمان محادثات السلام الأولية مع “ويلسون” حصريًا و كانت الهدنة عندما جاءت في 11 نوفمبر 1918 تستند رسميًا إلى النقاط الأربع عشرة و التصريحات الويلسونية الإضافية مع تحفظين من البريطانيين و الفرنسيين يتعلقان بحرية البحار و التعويضات.
الهجمات الأخيرة وانتصار الحلفاء
الجبهة الغربية مارس – سبتمبر ١٩١٨
نظرًا لأن القوة الألمانية على الجبهة الغربية كانت تتزايد باطراد من خلال نقل القوات من الجبهة الشرقية (حيث لم تعد هناك حاجة إليها منذ انسحاب روسيا من الحرب) كانت مشكلة الحلفاء الرئيسية هي كيفية الصمود أمام هجوم ألماني وشيك و خلال انتظار وصول تعزيزات ضخمة من “الولايات المتحدة” أقنع القائد الفرنسى “بيتان” القائد الانجليزى “هيج” المتردد بأن البريطانيين لديهم 60 فرقة و يجب أن يوسعوا قطاعهم من الجبهة من 100 إلى 125 ميلًا مقارنة بـ 325 ميلًا التي سيحتفظ بها الفرنسيون بقوات قوامها 100 فرقة بينما على الجانب الألماني بين 1 نوفمبر 1917 و 21 مارس 1918 تمت زيادة القوات الألمانية على الجبهة الغربية من 146 إلى 192 فرقة و تم سحب القوات من “روسيا” و “جاليسيا” و “إيطاليا” و بهذه الوسائل تم تعزيز الجيوش الألمانية في الغرب بحوالي 570.000 رجل حيث كان اهتمام الألمان هو الهجوم قبل وصول الوحدات الأمريكية الرئيسية و في نفس الوقت التأكد من أن الهجوم الألماني يجب ألا يفشل لنفس أسباب هجمات الحلفاء في السنوات الثلاث الماضية و بناءً عليه شكلوا استراتيجية هجومية تعتمد على اتخاذ الخط التكتيكي الأقل مقاومة حيث ستبدأ الهجمات الألمانية الرئيسية بقصف مدفعي قصير و لكنه مكثف للغاية و باستخدام نسبة عالية من الغازات السامة و قذائف الدخان و الذى من شأنه أن يعطل الخنادق الأمامية للحلفاء و مواقع المدافع الرشاشة و سيحجب نقاط المراقبة الخاصة بهم ثم يبدأ وابل مدفعي ثان أخف فوق خنادق الحلفاء من أجل إبقاء العدو تحت النيران مع تقدم جماهير المشاة الهجومية الألمانية حيث سيؤدي تسللها العميق إلى أخذ مساحات كبيرة من الأراضي .
و لتنفيذ تلك الخطة الألمانية فقد تطلبت مثل هذه التكتيكات قوات مناسبة و منضبطة بشكل استثنائي و مستوى عالٍ من التدريب و بناءً على ذلك تم استقطاب أفضل القوات من جميع قوات الجبهة الغربية الموجودة و تدريبها بشكل منهجي على التكتيكات الجديدة كما تم بذل كل جهد لإخفاء المناطق الفعلية التي ستشن فيها الهجمات الألمانية الرئيسية و الذى سيكون فى اضعف النقاط على الجبهة .
و فى يوم 21 مارس بدء الهجوم بقصف أستخدم فيه 6000 مدفع و ساعد ضباب الصباح الباكر فى اخفاء التقدم الألماني من مواقع مراقبة الحلفاء و عرف ذلك الهجوم باسم “معركة السوم الثانية” أو “معركة سانت كوينتين” و الذى تفاجأ البريطانيين به تمامًا لكنه لم يتطور حيث نجح الهجوم فى بعض من الأماكن بينما فشل فى أماكن أخرى لشراسة المقاومة فيها و حاول الألمان استغلال انتصارات بعض النقاط لكنها لم تكن كافية و تعافى الحلفاء من مفاجئتهم الأولي و كانت الاحتياطيات الفرنسية في طريقها إلى الخط البريطاني و يعلق الألمان تقدمهم و في 9 أبريل بدأ الألمان حملة جديدة و أحرزت بعض من النجاحات حتى أوقفها البريطانيين مجددا و رغم ان الألمان فى هذه الهجمات لم يستطيعوا تحقيق نتائج استراتيجية الا انهم نجحوا فى احراز تفوقات تكتيكية ضخمة حيث بلغت الخسائر البريطانية وحدها أكثر من 300000 شخص و كان لابد من تفكيك عشرة فرق بريطانية مؤقتًا و لحسن الحظ بدأت استعادة التوازن تلوح في الأفق بعد وصول عشرات الفرق الأمريكية إلى “فرنسا” و وضع “بيرشينج” القائد الأمريكي قواته تحت تصرف البريطانيين لاستخدامها عند الحاجة .
و فى يوم 27 من مايو انطلق الألمان فى هجوم جديد و حقق نجاحات كبيرة لم تتوقعها القيادات الألمانية و لسوء الحظ لم يستغلوا تلك النجاحات جيدا ليبادر الحلفاء بهجمات مضادة على مدار اسبوعين اضاعت تلك النجاحات الألمانية التى اضطرت قيادتها الى توقيف العمليات مؤقتا لمدة شهر للتعافى بعد ان تم استنفاذ الكثير من الموارد و الرجال البارعين فى القتال و فى المقابل لم يخترق بهم اى مسافات كافية لقطع شريان سكة حديد حيوي و كانت القوات المتبقية على الرغم من قوتها في الأعداد أقل جودة نسبيًا و كانت حصيلة خسائرهم 800000 ضحية في هجماتهم الكبرى عام 1918 و في غضون ذلك كان الحلفاء يستقبلون الآن القوات الأمريكية بمعدل 300 ألف رجل شهريًا ثم بدأ الهجوم الألماني التالي الذي افتتح “معركة مارن الثانية” في 15 يوليو و لم يؤد إلى شيء حيث كان الهجوم الألمانى محبطا بسبب “الدفاع المرن” الذى كان “بيتان” قد وصفه مؤخرًا اضافة الى حدوث هجوم مضاد من البريطانيين في 18 يوليو لعبت فيه حشود من الدبابات الخفيفة دورا كبيرا فى اجبار الألمان على التراجع السريع.
و بعد استعادة الحلفاء زمام المبادرة كانوا مصممين على عدم فقدها حيث تقدمت قواتهم و أخذ 21000 أسير ألمانى و أوقعوا العديد من الضحايا بتكلفة حوالي 20000 ضحية منهم و لم يتوقفوا إلا عندما وصلوا إلى أطلال ساحات القتال القديمة عام 1916 و أنهارت بعض من القوات الألمانية في مواجهة الهجوم و فرّت قواتها أو استسلمت و هكذا كانت “معركة أميان” نجاحًا مذهلاً للحلفاء و وصفتها القيادات الألمانية بأنه اليوم الأسود للجيش الألماني في تاريخ الحرب و بدأوا فى النصح بمحاولة انهاء الحرب و أخبروا الإمبراطور “ويليام الثاني” و القادة السياسيين في “ألمانيا” أنه يجب فتح مفاوضات السلام قبل أن يصبح الوضع أسوأ و كانت الاستنتاجات التي تم التوصل إليها في مجلس التاج الألماني هو التخلى عن الأمل في النصر أو حتى الاحتفاظ بمكاسبها و كان الأمل فقط في تجنب الاستسلام و بطبيعة الحال نتيجة التراجع الألمانى سعت قيادات الحلفاء للنصر في خريف عام 1918 بدلاً من تأجيل المحاولة حتى عام 1919 و لذلك كان على كل جيوش الحلفاء في الغرب أن تتحد في هجوم متزامن .
تطورات أخرى في عام 1918
التشيك واليوغوسلاف والبولنديون
خلال تلك الفترة بدأت الحركات الوطنية فى النمو و التي كانت ستؤدي تحت حماية الحلفاء في نهاية المطاف إلى تأسيس دول جديدة أو اعادة دول منتهية منذ فترة طويلة في نهاية الحرب حيث كانت هناك حركات من هذا القبيل منها حركة التشيك مع وجود السلوفاك و السلاف الجنوبيين أو اليوغوسلاف (الصرب و الكروات و السلوفينيين) و البولنديين حيث كانت الدولة التشيكية و هي “بوهيميا و مورافيا” تنتمي في عام 1914 إلى النصف النمساوي و السلوفاكية إلى النصف المجري و تم تمثيل اليوغوسلاف بالفعل في عام 1914 من قبل مملكتين مستقلتين “صربيا و الجبل الأسود” لكنهم كانوا أيضًا في الغالب في مناطق لا تزال موزعة على النمسا و المجر و تم تقسيم “بولندا” إلى ثلاثة أجزاء “ألمانيا” فى الشمال و الغرب كمقاطعات مملكة بروسيا و “النمسا” كان لديها “جاليسيا” و تمتلك “روسيا” باقى المساحة .
و التزم الحلفاء الغربيين بفكرة “تشيكوسلوفاكيا” منذ عام 1917 فصاعدًا اما بالنسبة للسلاف الجنوبيين للنمسا و المجر فقد تم تأسيس اللجنة اليوغوسلافية و التى أصدرت في 20 يوليو 1917 مع الحكومة الصربية في المنفى إعلان “كورفو” المشترك الذي تنبأ بدولة جنوب سلاف لتشمل الصرب و الكروات و السلوفينيين اما بالنسبة الى “بولندا” فقد كان القادة القوميين البولنديين في السنوات الأولى من الحرب غير متأكدين عما إذا كانوا سيعتمدون على القوى المركزية أو على الحلفاء لاستعادة استقلال بلادهم و طالما تردد الحلفاء الغربيين في تشجيع القومية البولندية خوفًا من الإساءة إلى “روسيا” و بدا أن القوى المركزية هي الراعية الأكثر ترجيحًا و مع ذلك نص بيان الإمبراطور الألمانى في 5 نوفمبر 1916 على تشكيل مملكة بولندية مستقلة و كان من الواضح أن هذه المملكة ستتألف فقط من الأراضي البولندية المحتلة من “روسيا” و ليس من أي إقليم ألماني أو نمساوي و عندما اعترفت الحكومة الروسية المؤقتة بعد ثورة مارس عام 1917 بحق “بولندا” في الاستقلال كان بإمكان اللجنة الوطنية البولندية أن تعتمد أخيرًا بشكل جدي على تعاطف الحلفاء الغربيين و أكملت الثورة البلشفية و نقاط ويلسون الأربع عشرة معًا اصطفاف البولنديين إلى جانب القوى الغربية .
أوروبا الشرقية و المحيط الروسي مارس – نوفمبر 1918
منحت معاهدة “بريست ليتوفسك” (3 مارس 1918) الحرية لألمانيا لفعل ما يحلو لها بممتلكات “روسيا” السابقة في أوروبا الشرقية و بينما كانوا يتابعون خطتهم عام 1916 لمملكة “بولندا” اتخذ الألمان تدابير جديدة للبلدان الأخرى حيث كان من المقرر أن تصبح “ليتوانيا” المعترف بها مملكة مستقلة تحت حكم بعض الأمراء الألمان و كان من المقرر دمج “لاتفيا و إستونيا” في دوقية بالتيكوم الكبرى تحت الحكم الوراثي لبروسيا و تم إرسال قوة استكشافية قوامها 12000 رجل إلى “فنلندا” لدعم قوات “مانرهايم” القومية ضد الحرس الأحمر الذين كان البلاشفة يدعموهم على الرغم من اعترافهم باستقلال “فنلندا” و أخيرًا الحكومة الأوكرانية من قبل نظام جديد بعد تقدم القوات الألمانية و النمساوية – المجرية في أراضيها.
و تم تحويل الهدنة الرومانية في ديسمبر 1917 إلى “معاهدة بوخارست” في 7 مايو 1918 و بموجب شروط هذه المعاهدة تم التنازل عن منطقة دوبروجا الجنوبية لبلغاريا و وضعت مدينة دوبروجا الشمالية تحت الإدارة المشتركة للقوى المركزية التى حصلت على سيطرة فعلية على حقول النفط و الاتصالات في البلاد و من ناحية أخرى حصلت “رومانيا” على بعض العزاء من “بيسارابيا” التي صوت قوميوها للانضمام اليها بشكل مشروط فى مارس 1918 .
و فى منطقة القوقاز فقد بدأت في الانزلاق إلى المعسكر الألماني حيث تم حل الجمهورية الفيدرالية التي لم تدم طويلاً من خلال إعلانات الاستقلال الفردية لأعضائها الثلاثة “جورجيا” في 26 مايو و “أرمينيا و أذربيجان” في 28 مايو و تم توقيع معاهدات الصداقة على الفور بين “جورجيا” و “ألمانيا” و بين “أرمينيا” و “تركيا” و تقدمت القوات التركية في “أذربيجان” حيث احتلوا “باكو” في 15 سبتمبر و في غضون ذلك كان الحلفاء الغربيين يأملون في استحضار بعض المظاهر الجديدة للجبهة الشرقية إذا دعموا القوى المختلفة و المتنامية في “روسيا” التي كانت تعارض صنع السلام مع البلاشفة فمنذ أن تم إغلاق البحر الأسود و بحر البلطيق في وجههم لم يتمكن الحلفاء من إنزال القوات إلا على شواطئ القطب الشمالي و المحيط الهادئ لروسيا و هكذا بدأ تدخلهم إلى جانب القوات المناهضة للبلشفية ( البيضاء ) .
جبهة البلقان 1918
في “سالونيكا” تم استبدال القائد العام للحلفاء الطموح سياسيًا و لكن غير فعال عسكريًا الجنرال “ساريل” في نهاية عام 1917 بالجنرال “جيومات” الذي خلفه بدوره في يوليو 1918 الجنرال “فرانشيت ديسبري” الذي شن هجومًا كبيرًا في سبتمبر بستة فرق صربية و فرنسية ضد جبهة طولها سبعة أميال تحت سيطرة فرقة بلغارية واحدة فقط و التى انهارت يوم 21 سبتمبر بينما تقدمت القوات الإيطالية في أقصى الغرب مع ضغط الصرب و الفرنسيين بجانبهم كما حقق البريطانيين في الشرق تقدمًا ملحوظا و في 26 سبتمبر طلب البلغار الحصول على هدنة و بتشديد الضغط عليهم وقع المندوبين البلغار على هدنة “سالونيكا” وقبلوا شروط الحلفاء دون تحفظ .
الجبهات التركية عام 1918
امتدت الجبهة البريطانية التركية في “فلسطين” في صيف عام 1918 من نهر الأردن غربًا شمال الضفة و اللد إلى البحر الأبيض المتوسط شمال يافا حيث كان هناك ثلاثة “جيوش” تركية واحد في شرق الأردن و اثنان في الغرب و اعتمدت هذه الجيوش في إمداداتها على سكة حديد الحجاز و كان “ليمان فون ساندرز” خليفة “فالكنهاين” كقائد للقوات التركية في “سوريا و فلسطين” مقتنعًا بأن البريطانيين سيبذلون جهدهم الرئيسي شرق الأردن و مع ذلك كان “اللنبي” مهتمًا حقًا باتخاذ اتجاه شمالي مستقيم معتقدًا أن خط السكة الحديدية الموجود على بعد حوالي 60 ميلاً خلف الجبهة التركية يمكن الوصول إليه و أن سقوطه سيعزل الجيشين التركيين في الغرب .
و بقليل من الحيلة و التشتيت التى دفعت الأتراك لتقليل قوتهم في الغرب هاجم “اللنبي” في 19 سبتمبر 1918 بتفوق عددي قدره 10 إلى واحد في “معركة مجيدو” و اجتاحت المشاة البريطانية المدافعين المذهولين جانبًا و فتحت الطريق أمام سلاح الفرسان الذي سار على بعد 30 ميلاً شمالاً في الممر الساحلي قبل أن يتأرجح إلى الداخل لقطع خطوط انسحاب الأتراك الذين بدأوا فى التراجع في 22 سبتمبر و كان العرب قد قطعوا بالفعل خط السكة الحديدية و كانوا ينتظرونهم و في الوقت نفسه كانت فرقتان بريطانيتان و قوة أخرى من العرب تتسابقان نحو دمشق التي سقطت في الأول من أكتوبر و انتهت الحملة بالاستيلاء على حلب و تقاطع سكة حديد “بغداد” في 38 يومًا و تقدمت قوات “اللنبي” لمسافة 350 ميلاً و أخذت 75000 سجين بتكلفة أقل من 5000 ضحية.
و فى غضون ذلك كانت القوات البريطانية في بلاد ما بين النهرين تقدمت على نهر دجلة في أكتوبر و كانت على وشك الاستيلاء على “الموصل” و عندها تم تعليق الأعمال العدائية و قررت الحكومة العثمانية الاستسلام بعد أن رأت شرق “تركيا” أعزل و خوفًا من تقدم الحلفاء ضد “إسطنبول” من الغرب بعد انهيار “بلغاريا” قامت في 30 أكتوبر بالتوقيع على هدنة “مودروس” على متن سفينة بريطانية قبالة “ليمنوس” و كان على الأتراك الالتزام بشروطها فى أن يفتحوا المضائق أمام الحلفاء و تسريح قواتهم و السماح للحلفاء باحتلال أي نقطة استراتيجية قد يحتاجونها و استخدام جميع الموانئ و السكك الحديدية في “تركيا” و الأمر باستسلام ما تبقى من حامياتهم في شبه الجزيرة العربية و سوريا و بلاد ما بين النهرين حيث كانت الإمبراطورية العثمانية التي دامت قرونًا قد انتهت .
انهيار النمسا – المجر
في أوائل سبتمبر 1918 اقترحت الحكومة النمساوية – المجرية في مذكرة معممة للقوى الأخرى عقد مؤتمر على أرض محايدة من أجل سلام عام و تم إلغاء هذا الاقتراح من قبل “الولايات المتحدة” على أساس أن الموقف الامريكى قد تم الإعلان عنه بالفعل من خلال تصريحات “ويلسون” (النقاط الأربع عشرة ) و عندما ناشدت النمسا و المجر بعد انهيار “بلغاريا” في 4 أكتوبر التوصل إلى هدنة بناءً على تلك التصريحات كانت الإجابة في 18 أكتوبر هي أن حكومة “الولايات المتحدة” ملتزمة الآن بالتشيكوسلوفاك و اليوغوسلافيين و الذين قد أقاموا بالفعل أجهزة جاهزة لتولي السلطة.
و تم تنفيذ المشاهد الأخيرة لحل النمسا و المجر بسرعة كبيرة ففي 24 أكتوبر (عندما شن الإيطاليون هجومهم في الوقت المناسب) تم إنشاء مجلس وطني مجري في بودابست يأمر بالسلام و الانفصال عن “النمسا” و في 28 أكتوبر أصدرت اللجنة التشيكوسلوفاكية في براغ “قانونًا” لدولة مستقلة بينما تم تشكيل لجنة بولندية مماثلة في كراكوف لدمج جاليسيا وسيليسيا النمساوية في “بولندا” الموحدة و في 29 أكتوبر بينما كانت القيادة العليا النمساوية تطلب من الإيطاليين هدنة أعلن الكروات في “زغرب” استقلال سلافونيا و كرواتيا و دالماتيا في انتظار تشكيل دولة قومية للسلوفينيين و الكروات و الصرب و في 30 أكتوبر أعلن أعضاء الرايخسرات الألمان في “فيينا” دولة مستقلة للنمسا الألمانية .
و تم التوقيع على الهدنة المطلوبة بين الحلفاء و النمسا-المجر في فيلا جوستي بالقرب من بادوفا في 3 نوفمبر 1918 لتصبح سارية المفعول في 4 نوفمبر و التى بموجبها يجب طرد جميع القوات الألمانية من النمسا و المجر في غضون 15 يومًا أو اعتقالهم و يجب أن يتمتع الحلفاء بحرية استخدام الاتصالات الداخلية بين النمسا و المجر و الاستيلاء على معظم سفنهم الحربية و تم تعيين الكونت “ميهالي كارولي” رئيس مجلس بودابست الوطني رئيسًا لوزراء “المجر” من قبل ملكه الإمبراطور النمساوي “تشارلز” في 31 أكتوبر لكنه بدأ على الفور بفصل بلاده عن “النمسا” جزئيًا على أمل الحصول على دولة منفصلة و تخلى “تشارلز” الذى حكم النمسا و المجر عن حقه في المشاركة في شؤون الحكومة النمساوية في 11 نوفمبر و في الشؤون المجرية في 13 نوفمبر .
نهاية الحرب الألمانية
قدم المستشار الألمانى “جورج فون هيرتلينج” استقالته في 29 سبتمبر 1918 لأنه لم يكن لديه قدرة على كبح جماح القيادات العسكرية الذين حصلوا على موافقة الإمبراطور على تحرك سلام فوري حتى أنهم كشفوا في الأول من أكتوبر عن يأسهم العسكرى أمام اجتماع لقادة جميع الأحزاب السياسية الوطنية مما أدى إلى تقويض الجبهة الداخلية الألمانية من خلال الكشف المفاجئ عن حقائق كانت مخفية منذ فترة طويلة عن الجمهور و القادة المدنيين و في 3 أكتوبر تم تعيين المستشار الجديد و هو الأمير “ماكسيميليان” من بادن المعروف دوليًا باعتداله و شرفه و على الرغم من أنه طالب بفاصل زمني لبضعة أيام خشية أن تبدو مبادرة ألمانيا للسلام بوضوح شديد اعترافًا بانهيار وشيك لها أصر القادة العسكريون على اتخاذ خطوة فورية و تم إرسال مذكرة ألمانية إلى “ويلسون” تطلب هدنة و مفاوضات على أساس تصريحات “ويلسون” الخاصة في ليلة 3-4 أكتوبر.
و طلب رد “الولايات المتحدة” في 8 أكتوبر موافقة ألمانيا المبدئية على عدد من النقاط و هى (1) المفاوضات حول السؤال الوحيد المتعلق بوسائل وضع مبادئ ويلسون موضع التنفيذ (2) انسحاب القوات الألمانية من أراضي الحلفاء و بالفعل قبلت مذكرة الحكومة الألمانية المؤرخة في 12 أكتوبر هذه المتطلبات و اقترحت لجنة مختلطة لترتيب الإخلاء المفترض و مع ذلك في 14 أكتوبر أرسلت الحكومة الأمريكية مذكرة ثانية اقترن بها التلميحات إلى أساليب الحرب الألمانية “غير القانونية وغير الإنسانية” مع المطالب بأن يتم تحديد شروط الهدنة و الإجلاء من جانب واحد من قبل قواتها و جيش الحلفاء و إزالة “السلطة التعسفية” للنظام الألماني حتى يمكن إجراء المفاوضات القادمة مع ممثل حكومة الشعب الألماني.
و بحلول هذا الوقت أصبحت القيادة العسكرية العليا الألمانية أكثر بهجة بل و تفاؤلًا لأنها رأت أن اختراق “خط هيندنبورج” لم يتبعه اختراق حقيقي للحلفاء و جاء المزيد من التشجيع من تقارير عن تباطؤ قوة هجمات الحلفاء حيث يرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنهم تقدموا كثيرًا قبل خطوط الإمداد الخاصة و كان لا يزال بعض من القيادات العسكرية تريد هدنة و لكن فقط لمنح قواتهم راحة كمقدمة لمزيد من المقاومة و لضمان انسحاب آمن إلى خط دفاعي قصير على الحدود و بحلول 17 أكتوبر شعروا أن قواتهم يمكنها الاستغناء عن الراحة و لم يكن الأمر سيئًا إلى هذا الحد المتشائم أبدًا كما قالوه في 29 سبتمبر لكنه كان قد انتشر في جميع الأوساط السياسية الألمانية والجمهور الذى عانى من الحرمان المتزايد و كانوا نصف جائعين بسبب حصار الحلفاء و رغم ذلك فقد احتفظ الشعب الألماني بمعنوياته طالما اعتقدوا أن “ألمانيا” لديها احتمالية لتحقيق النصر على الجبهة الغربية و لكن عندما انهار هذا الأمل في أكتوبر 1918 تمنى الكثير من الألمان و ربما معظمهم أن تنتهي الحرب فقط على الرغم من أن ذلك قد يعني أن على أمتهم قبول شروط السلام غير المواتية و أصبح الرأي العام الألماني بعد أن أصيب بخيبة أمل مفاجئة أكثر انهزاميًا بشكل جذري أكثر من القيادة العليا.
و أرسلت مذكرة ألمانية ثالثة إلى “الولايات المتحدة” في 20 أكتوبر تعلن موافقتها على التسوية من جانب واحد لشروط الهدنة و الإخلاء و هم يعتقدون اعتقادًا صريحًا بأن “ويلسون” لن يسمح بإهانة شرف “ألمانيا” و أقرت مذكرة رد “الولايات المتحدة” في 23 أكتوبر باستعداد “ويلسون” لاقتراح هدنة على الحلفاء لكنها أضافت أن الشروط يجب أن تكون مثل جعل “ألمانيا” غير قادرة على تجديد الأعمال العدائية و رأت القيادات العسكرية أنه مطلب للاستسلام غير المشروط و بالتالي كان عليهم مواصلة المقاومة لكن الوضع قد تجاوز سيطرتهم و في 26 أكتوبر أجبر الإمبراطور بعض من القيادات العسكرية على الاستقالة بناءً على نصيحة الأمير المستشار “ماكسميليان ” و في 27 أكتوبر اعترفت ألمانيا بالمذكرة الأمريكية و بدأ “ويلسون” الآن في إقناع الحلفاء بالموافقة على الهدنة و المفاوضات وفقًا للمراسلات الأمريكية الألمانية و اتفقوا مع اثنين من التحفظات الخاصة بشأن حرية البحار و بأنهم أرادوا تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالسكان المدنيين و ممتلكاتهم بسبب عدوان “ألمانيا” و أبلغت مذكرة ويلسون المؤرخة فى 5 نوفمبر الألمان بهذه التحفظات و ذكرت أن البريطانيين سوف ينقلون شروط الهدنة إلى ممثلي ألمانيا المعتمدين و في 8 نوفمبر وصل وفد ألماني بقيادة “ماتياس إرزبيرجر” إلى “ريثونديس” في غابة كومبيين حيث التقى الألمان وجهًا لوجه مع البريطانيين و أُبلغوا بشروط السلام الخاصة بالحلفاء.
و في غضون ذلك كانت الثورة تهز “ألمانيا” و بدأ الأمر بتمرد البحارة في “كيل” يوم 29 أكتوبر كرد فعل لأمر القيادة البحرية لأسطول أعالي البحار بالخروج إلى بحر الشمال لخوض معركة حاسمة و على الرغم من بقاء أطقم الغواصات على ولائهم إلا أن تمرد أطقم السفن السطحية امتد إلى وحدات أخرى من الأسطول و تطور إلى تمرد مسلح في 3 نوفمبر و تقدم لفتح ثورة في اليوم التالي و حدثت اضطرابات في “هامبورج و بريمن” و تشكلت “مجالس الجنود والعمال” مثل السوفيتات الروسية في المراكز الصناعية الداخلية و في ليلة 7-8 نوفمبر تم إعلان “جمهورية بافاريا الديمقراطية الاشتراكية” و سحب الاشتراكيين الديمقراطيين في الرايخستاج دعمهم لحكومة الأمير “ماكسميليان” من أجل أن يكونوا أحرارًا في مواجهة الشيوعيين لقيادة الثورة و أعلن عن تنازل “ويليام” عن لقبه الامبراطورى الألمانى و هكذا انتهى النظام الملكي فى “ألمانيا” و سلم الأمير “ماكسنيليان” سلطاته كمستشار إلى “فريدريش إيبرت” و هو ديمقراطي اجتماعي و قام بتشكيل حكومة مؤقتة و في 10 نوفمبر لجأ “ويليام الثاني” إلى “هولندا” المحايدة حيث وقع في 28 نوفمبر على تنازله عن حقوقه السيادية .
الهدنة
كانت شروط هدنة الحلفاء الواردة في عربة السكك الحديدية في “ريثونديس” قاسية و طُلب من “ألمانيا” إخلاء ليس فقط “بلجيكا” و “فرنسا” و “الألزاس واللورين” و لكن أيضًا كل الضفة اليسرى (الغربية) لنهر الراين و على القوات الألمانية في شرق إفريقيا الاستسلام و على الجيوش الألمانية في أوروبا الشرقية الانسحاب إلى حدود “ألمانيا” قبل الحرب و الغاء معاهدتي “برست-ليتوفسك” و “بوخارست” و كان على الألمان إعادة جميع أسرى الحرب إلى أوطانهم و تسليم الحلفاء كمية كبيرة من المواد الحربية بما في ذلك 5000 قطعة مدفعية و 25000 رشاش و 1700 طائرة و 5000 قاطرة و 150.000 عربة سكة حديد و في غضون ذلك كان من المفترض أن يستمر حصار الحلفاء لألمانيا .
و لكن لحماية ” ألمانيا ” من خطر البلشفية في أمة على وشك الانهيار حصل الوفد الألماني على بعض التخفيف من هذه الشروط حيث أقترح تخفيف الحصار و تقليل كمية الأسلحة التي سيتم تسليمها و السماح للقوات الألمانية الموجودة في أوروبا الشرقية للبقاء في مكانها في الوقت الحاضر و تم التوقيع على وثيقة الهدنة في 14 نوفمبر عام 1918 الساعة 11:00 صباحًا و بذلك انتهت الحرب العالمية الأولى رسميا .
و أصبحت حقيقة أن “ماتياس إرزبيرجر ” الذي كان سياسيًا مدنيًا و ليس جنديًا و الذى كان على رأس وفد الهدنة الألماني جزءًا لا يتجزأ من أسطورة “الطعنة في الظهر” فى أن الجيش الألماني “لم يهزم في الميدان” و أنه “طُعن في ظهره” أي أنه حُرم من الدعم في اللحظة الحاسمة من قبل السكان المدنيين المرهقين و الانهزاميين و قادتهم و تم تبني هذا الموضوع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بوقت قصير من قبل قيادات الجيش نفسها الذين لم يكونوا مستعدين للاعتراف باليأس من الوضع العسكري الألماني في نوفمبر 1918 و الذين أرادوا الدفاع عن شرف الأسلحة الألمانية و سرعان ما وجدت أسطورة “الطعنة في الظهر” طريقها إلى التأريخ الألماني و التقطها المحرضين السياسيين اليمينيين الألمان الذين ادعوا أن دعاية الحلفاء في “ألمانيا” في المراحل الأخيرة من الحرب قوضت معنويات المدنيين و أن الخونة بين السياسيين كانوا على استعداد لتنفيذ شروط الحلفاء بتوقيع الهدنة و أصبح “أدولف هتلر” في نهاية المطاف في مقدمة هؤلاء المحرضين السياسيين واصفًا “إرزبرجر” و قادة الاشتراكيين الديمقراطيين بأنهم “مجرمو نوفمبر” و دافع عن السياسات العسكرية و التوسعية التي يمكن لألمانيا من خلالها تعويض هزيمتها في الحرب و الانتقام من أعدائها .
القتلى و الجرحى و المفقودون
فاقت الخسائر التي عانى منها المشاركون في الحرب العالمية الأولى خسائر الحروب السابقة فقد مات حوالي 8500000 جندي نتيجة الجروح أو المرض و تسبب القصف المدفعي في وقوع أكبر عدد من الضحايا و الجرحى تليها الأسلحة الصغيرة ثم الغازات السامة و الحراب التي اعتمد عليها الجيش الفرنسي قبل الحرب كسلاح حاسم و لكنها أسفرت في الواقع عن عدد قليل من الضحايا و أصبحت الحرب آلية بشكل متزايد منذ عام 1914 و أدت إلى وقوع إصابات حتى عندما لم يحدث شيء مهم و وقعت أكبر خسائر في الأرواح ليوم واحد في 1 يوليو 1916 خلال معركة السوم عندما عانى الجيش البريطاني من 57470 ضحية .
اما بالنسبة الى المدنيين فتوجد شكوك حول عدد القتلى المدنيين بسبب الحرب حيث لم يتم إنشاء وكالات للاحتفاظ بسجلات هذه الوفيات و لكن من الواضح أن نزوح الشعوب من خلال حركة الحرب في أوروبا و آسيا الصغرى ترافق كما كان عام 1918 مع تفشي وباء الإنفلونزا الاسبانية الأكثر تدميراً في التاريخ و لكن تشير التقديرات إلى أن عدد القتلى المدنيين المنسوبين إلى الحرب العالمية الأولى كان أعلى من عدد القتلى العسكريين بحوالي 13.000.000 شخص و نتجت هذه الوفيات المدنية إلى حد كبير عن الجوع و التعرض للقصف و المرض و المواجهات العسكرية و المذابح.