يعد الترحال طبيعة فى الحياة البشرية سعيا لتحقيق أهداف مختلفة و التى قد تكون من أجل الرزق أو التعليم أو السياحة و حين يقرر الإستقرار فى أحد الأماكن فمن الضرورى أن يخضع للعديد من الإشتراطات التى تضعها سلطات ذلك المكان أو تفرضها طبيعة البيئة المحيطة و لكن مهما بلغت تلك الأشتراطات فمن الصعب أن تكون على نفس الدرجة التى تضعها مستوطنة نائية في القارة القطبية الجنوبية تدعى فيلا لاس إستريلاس و التى تشترط على القادمين إليها للإقامة فيها لفترة طويلة الخضوع لاجراء عملية جراحية لإستئصال الزائدة الدودية و لا ينحصر ذلك على القادم بمفرده فقط و لكن على جميع أفراد أسرته اذا قرر إصطحابهم معه بما فيهم الأطفال .
قد يكون الأمر غريبا و لكن بمعرفة أسباب ذلك فسوف نجد أنها أمرا منطقيا حيث تعتبر بلدة “فيلاس لاس إستريلاس” إحدى المستوطنات القليلة و المعزولة في القارة القطبية الجنوبية و المقامة فى أجواء قارصة البرودة منذ عام 1984 و يعيش فيها ما يقارب من 100 شخص أغلبهم من العلماء و أفراد عسكريين من القوات الجوية و البحرية التشيلية بعضهم يعيش فيها لسنوات طويلة بدلاً من أسابيع أو شهور لذلك فهم يصطحبون معهم عائلاتهم للاقامة و هو ما جعل تلك البلدة بحكم الواقع تمتلك مجموعة من المرافق مثل مدرسة و مكتب بريد و مجموعة من المنازل و نظرا لشدة عزلتها فيحتم على القاطنين فيها لفترة طويلة إزالة الزائدة الدودية كإجراء احترازي ضروري لأن أقرب مستشفى رئيسي يبعد أكثر من 1000 كيلومتر منهم و على الجانب الآخر من المحيط الجنوبي الجليدي كما أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الأطباء وسطهم ليس من بينهم أى جراح متخصص .
فعند وصولك الى مستوطنة “فيلا لاس إستريلاس” ستجد علامة ترحيب و عمود من الأسهم يشير إلى المدن الحضارية البعيدة عن ذلك المكان مثل “بكين: 17.501 كم” و طريقها الرئيسى للدخول و الخروج هو مهبط من الحصى و يتم الوصول اليها من خلال طائرة نقل عسكرية ضخمة من طراز C-130 و التى تبدأ من مدينة ” بونتا أريناس ” فى أقصى جنوب تشيلي و تقطع رحلة تستغرق ثلاث ساعات يكون المشهد الوحيد المرئي من النوافذ الصغيرة للطائرة هو مئات الأميال من المحيط البارد و المظلم و بعدها تصل الى المستوطنة القابعة فوق أرضية صخرية و رغم برودة الطقس الخارجية و التى تكون بمتوسط -2.3 درجة مئوية طوال السنة الا أن المنازل تتسم بالدفئ و تحتوي جدرانها على نصب تذكارية و صور للبعثات السابقة و الزوار و فى الخارج يمكن رؤية حيوانات فى الجوار مثل طيور البطريق و فقمات الفيل و يلاحظ عدم وجود كلاب و التى تم حظرها لأنها قد تنقل أمراض الكلاب إلى الحياة البرية القارة القطبية الجنوبية .
و يعيش فى “فيلا لاس إستريلاس ” القائد ” سيرجيو كوبيلوس ” و هو ظابط رفيع المستوى بالقوات الجوية فى الجيش التشيلى مع زوجته و ابنه منذ أكثر من عامين و خلال تلك الفترة كانت عائلته تسافر من حين الى أخر لبلدهم الأم ” تشيلى ” بينما يبقى هو نظرا لعمله كقائد للمكان حيث يقول ان الشتاء فى تلك المستوطنة يكون صعبا جدا حيث تصل درجة الحرارة حينها الى -47 درجة مئوية بشكل يجعلهم لا يستطيعون الخروج من منازلهم لأسابيع و لكن عائلته تحب ذلك المكان و تستمتع بالوجود فيه كما يعمل مع عدد من الأفراد منهم طبيب القاعدة و الذى ينصح المقيمين فيها بعدم التفكير بالحمل و الانجاب فى ذلك المكان لأنه أمر به خطورة اضافة الى “خوسيه لويس كاريلان” الذي انتقل إليها قبل ثلاث سنوات مع زوجته و طفليه للعمل كمدرس حيث يتفق مع قائد المكان فى أن الأمور تزداد حدة في الشتاء حيث يواجهون فيها تحديات مثل السير عبر عواصف الرياح القاسية للوصول إلى المدرسة التى يدرس فيها ما يقارب من 12 طفلا هم من أبناء مسؤولي القوات الجوية الذين يديرون القاعدة حيث يعتبر الأباء عزلة ذلك المكان أمرا مفيدا لتقوية الروابط الأسرية كما يقول “بول روبليدو” الذى يعمل كهربائى فى المستوطنة ان الناس يخافون في بقية “تشيلي” من اللصوص لدرجة أنهم يبنون جدرانًا حول منازلهم و لكن هذا ليس هنا لأنها أكثر الأماكن أمانًا في العالم .
و رغم وجود مستوطنات تتبع “الولايات المتحدة” و “الصين” و “روسيا” و معظم الدول الأخرى التي لديها محطات بحثية في القارة القطبية الجنوبية الا أنهم لا يميلون إلى إحضار أي شخص الى ذلك المكان الأبرد و الأشد رياحا سوى الباحثين و فرق الدعم إلى بإستثناء “تشيلي” و جارتها “الأرجنتين” اللتان سلكتا طريقًا مغايرا فى تركيبة سكان مستوطناتها لتضم أسرًا لديها أطفال حيث تعيش عائلات القوات الجوية في منازل صغيرة بينما يقيم الباحثين في مجمع يديره معهد أنتاركتيكا التشيلي و ينامون في أسرّة بطابقين لا تختلف عن تلك الموجودة على حاملة طائرات و تتوفر طاولة ” بينج بونج ” في غرفة المعيشة و يأخذون وجباتهم معًا في قاعة ضيقة و المكونة من بطاطس مهروسة و دجاج و لحم بقري مفروم و تسمح صالة الألعاب الرياضية للتشيليين في “فيلا لاس إستريلاس” بلعب مباراة كرة قدم في الأماكن المغلقة ضد الباحثين الزائرين من القواعد الروسية و الصينية كما توفر كنيسة صغيرة تطفو فوق المستوطنة مكانًا هادئًا للصلاة .
أقرأ أيضا : تعرف على طبيعة الحياه فى بلدة أويمياكون أبرد مكان مأهول على وجه الأرض
و يقول البعض من الذين يعيشون فى تلك المستوطنة أن من يتأقلمون مع فترات من العزلة النسبية في القارة القطبية الجنوبية قد يجدون صعوبة في إعادة التكيف عند عودتهم إلى البر الرئيسي لتشيلي حيث يطلقون على هذه الحالة اسم “متلازمة الناسك” و لكن رغم كل تلك التحديات فلا يزال العديد من التشيليين يطمحون إلى فرصة العيش في “فيلا لاس إستريلاس” بإعتبار ذلك المكان واحدة من آخر حدود العالم ربما لإشباع روح المغامرة و البعض الآخر بسبب الرواتب الأعلى من تلك الموجودة في تشيلي لوظائف مماثلة أو يبدو أنهم لديهم أسبابهم الخاصة للانتقال إلى القارة القطبية الجنوبية .