نستطيع القول أن عام 1943 لم يكن عامًا جيدًا على الديكتاتور الإيطالي بينيتو موسوليني فبعد رغبته في السيطرة على شمال إفريقيا بأكملها انتهت أحلامه بهزيمة مذلة و أدى قراره الكارثي بإرسال قوات إلى الجبهة الشرقية لمحاربة الاتحاد السوفيتي أو روسيا حاليا إلى تكبد خسائر لا يمكن تحملها اضافة الى تزامن ذلك مع بدء الحلفاء غزو صقلية و إنزال قوات من جيوش الولايات المتحدة و المملكة المتحدة الى أراضيها حيث كان ذلك ايذانا بوصول نيران الحرب العالمية الثانية إلى حدود إيطاليا و على عكس ما كان يحدث في ألمانيا حيث حكم الزعيم أدولف هتلر بلاده بقبضة من حديد كان لا يزال لدى إيطاليا ملك و مجلس يمكنه محاسبة موسوليني و نتيجة الكوارث التى حلت على البلاد تم إزاحته من منصبه و إعتقاله فى مكان سرى و هو ما دفع هتلر الى اصدار اوامره بالبحث عن حليفه و العثور عليه و احضاره الى برلين مهما كان الثمن لتبدأ المخابرات الألمانية فى تنفيذ واحدة من أعقد العمليات الاستخبارية و التى أطلق عليها اسم عملية البلوط بغرض الوصول الى الزعيم الإيطالى و إنقاذه .
فمع حلول يوم 19 من يوليو عام 1943 ظهرت قاذفات الحلفاء فوق مدينة “روما” و يتم قصفها و رغم أنها لم تكن المرة الأولى التى كانت هدفا فيها للقاذفات الا أن تلك الغارة تحديدا أصبحت نقطة تحول حاسمة في سقوط ” موسولينى ” لأنه فى تلك المرة قام القصف بتسوية منطقة “سان لورينزو” الصناعية بالأرض و تسببت في أضرار جسيمة لاثنين من مطارات العاصمة و حولت أجزاء من كنيسة “سانت لورانس” القديمة إلى أنقاض و بسبب ذلك غضب أعضاء فى حكومته و قرروا الإنقلاب عليه في تصويت بحجب الثقة في 24 من يوليو و في اليوم التالي تم استدعاءه إلى قصر الملك “فيكتور عمانويل الثالث” حيث كان يعتقد أنه سيكون مجرد اجتماع روتينى الى أن فوجئ بأن الملك يخبره بأنه سيتم استبداله بالمارشال “بيترو بادوليو” و أن أمره فى الحكم قد أنتهى لأنه أصبح أكثر رجل مكروه فى إيطاليا بعد الدمار الذى حل بالبلاد اضافة الى أن الجنود أصبحوا لا يريدون القتال بعد الآن .
و غادر “موسوليني” القصر في حالة صدمة لأنه حكم إيطاليا منذ عام 1922 و الآن تم طرده بشكل مهين من منصبه بعد أن خانه أعضاء حكومته و أثناء خروجه فوجئ بإلقاء القبض عليه على الفور من قبل أفراد من الشرطة العسكرية الإيطالية و وجود قرار بإعتقاله بأوامر من الملك و بعد ثلاث ساعات أعلن عن استقالته عبر الراديو لتطير تلك الأنباء الى ” أدولف هتلر ” الذى صدم من الخبر لأنه إذا كان من الممكن خلع “موسوليني” بهذه السهولة فربما كان المصير نفسه ينتظره هو أيضا و نتيجة غضبه و خوفه من تداعيات تحالف محتمل بين الحلفاء و ” إيطاليا ” و توقع أنها ستتحول الى دولة معادية قرر أن مسار العمل المتاح أمامه هو ضم الأراضي الإيطالية السابقة الى ” ألمانيا ” إضافة الى محاولة إنقاذ صديقه الديكتاتور من الأسر و هو الأمر الذى كان يتوقعه الإيطاليين لذلك كان يتم نقل “موسوليني” بشكل مستمر فى أماكن متعددة منذ اعتقاله لإبعاد الألمان عن تلك الفكرة و مع ذلك توقع “هتلر” ذلك التكتيك لذا اجتمع شخصيا مع واحدا من أكفأ ظباط المخابرات الألمانية و هو الظابط ” أوتو سكورزينى ” و قال له أن صديقه و رفيقه المخلص في السلاح تعرض للخيانة من قبل ملكه و اعتقله مواطنوه و هو لا يستطيع ترك أعظم أبناء “إيطاليا” في مأزق و بالنسبة له فإن الدوتشي هو تجسيد لعظمة “روما” القديمة أما الحكومة الجديدة فستتخلى عنا لذلك يجب أن يتم إنقاذه على الفور و الا سيتم تسليمه إلى الحلفاء لذلك فهو يكلفه بتلك المهمة و التى عرفت بإسم ” عملية البلوط ” أو ” العملية أيتشى ” .
و مع بدء إشراف ” أوتو سكورزينى ” على ” عملية البلوط ” لم تكن جهود البحث الأولية لتحديد موقع “موسوليني” مشجعة حيث لم يكن لدى المخابرات الألمانية في “إيطاليا” سوى القليل من المعلومات المفيدة حول مكان وجوده لذا أرسل “سكورزيني” عملاءه فى جميع انحاء البلاد لجمع المعلومات لكنهم لم ينجحوا بنفس القدر و لكن بعدها لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لتعقب مكان الديكتاتور المخلوع حيث كشفت عمليات البث اللاسلكي التي تم اعتراضها أنه كان محتجز تحت حراسة مسلحة في فندق “كامبو” و هو منتجع تزلج في أعالي جبال “أبيناين” في منطقة “جران ساسو” بجنوب “إيطاليا” و أصبحت المشكلة الوحيدة فقط هى في كيفية إخراجه حيث كشفت صور الاستطلاع الجوي أن موقع ذلك الفندق على قمة جبل لذلك استبعد تماما ان تكون الغارة بهجوم مظلى و مع ذلك كشفت الصور عن قطعة أرض صغيرة و مسطحة مجاورة للفندق و يقرر “سكورزيني” أنها تعتبر مثالية لهبوط سرب من الطائرات الشراعية .
و في صباح يوم 12 من سبتمبر عام 1943 بدء تنفيذ ” عملية البلوط ” بشكل عملى حين استقل ” أوتو سكورزيني ” و فريق من قوات الكوماندوز التابعة لقوات الأمن الخاصة الألمانية و مظليين عشرة طائرات شراعية و انطلقوا من مهبط طائرات صغير بالقرب من “روما” إلى الفندق و عندما اقتربوا من موقع الهبوط أدرك “سكورزيني” أن قطعة الأرض المخصصة للهبوط كانت في الواقع منحدرًا صخريًا و ليست قطعة أرض مسطحة كما أظهرت الصور الجوية لذلك لم يكن أمام الطائرات الشراعية خيار سوى التحطم على المنحدر مما تسبب في إصابة بعض من القوات في إحدى تلك الطائرات و فى نفس الوقت بالأسفل فى الوادى أستولت وحدتان من المظلات بقيادة الرائد “هارالد مورس” و الذى كان قائد “عملية البلوط” الميدانى على خط السكة الحديد المائل الذي عادة ما كان ينقل السياح إلى أعلى الفندق مع القيام بقطع جميع خطوط الهاتف و أى اتصال بالعالم الخارجي .
و بالعودة الى أعلى الجبل فبمجرد هبوط “سكورزيني” و قواته و وصوله الى الفندق الذى كان فيه ” موسولينى ” تحت حراسة مشددة من قبل مائتي عضو من ” الكاربنيرى ” و تجنبا لحدوث أى إشتباك معهم أحضر معه الجنرال الإيطالي “فرناندو سوليتي” الذى صرخ فى وجه الحراس أثناء دخول القوات الألمانية الى الأبواب و يأمرهم بعدم إطلاق النار حيث أستجابوا له بالفعل و ألقوا أسلحتهم و أستسلموا كما تم تحطيم راديو الحراس حتى لا يغري أي شخص لطلب الدعم و اندفع “سكورزيني” إلى الطابق العلوي و يبدأ البحث في الغرف عن الزعيم الإيطالى المخلوع و عندما وجده أخيرًا قال له أن “هتلر” أرسلنى لانقاذك و أجابه ” موسولينى ” و هو متأثرا أنه كان متأكدا أن صديقه ” أدولف ” لن يتخلى عنه و فى نفس الوقت كان الرائد “مورس” يشق طريقه إلى أعلى الجبل و دخل الى الفندق و استقبل “موسوليني” و قدم اليه نفسه و وقف الديكتاتور الإيطالي المبتسم لالتقاط الصور بينما كان “سكورزيني” يراسل لاسلكيًا طائرة إقلاع و هبوط قصير لتأتي و تلتقط الديكتاتور .
و حضرت الطائرة و قامت بهبوط صعب على شريط أرض صخرية و اصطحب ” أوتو سكورزيني ” الزعيم الإيطالي إليها الذى كان يلوح مودعا الرجال بالدموع حيث كان قد تم تصميم تلك الطائرة لنقل راكبين فقط و لكن “سكورزيني” أصر على مرافقة الديكتاتور مما جعل الطائرة مثقلة بشكل خطير و الإقلاع أكثر صعوبة حيث كان ذلك تصرفا غريبا من ” سكورزيني ” الا أن البعض قد عزاه الى أنه إذا حدث أي شيء لموسوليني و هو في طريقه للخروج من “إيطاليا” فكان سيتم تحميله المسؤولية الشخصية على ذلك خاصة و أن ” هتلر ” معروف بطبيعته الغير متسامحة لذلك فليكن المصير واحدا سواء فى النجاح أو الفشل و هكذا اندفعت الطائرة المثقلة بالحمل على المدرج المؤقت و تمكنت من الطيران في الهواء رغم وجود لحظات بدا كما و لو أنها ستسقط في الوادي أدناه لكن الطيار تمكن ببراعة من رفع مقدمة الطائرة لتحلق و تنطلق باتجاه “روما” بينما كان بقية الفريق يستعدون للعودة إلى الأراضي الصديقة سيرًا على الأقدام حيث حققت ” عملية البلوط ” نجاحًا باهرًا و من دون إطلاق رصاصة واحدة .
أقرأ أيضا : العملية مينسميت .. الرجل الذى ساهمت وفاته فى خداع الألمان و تغيير مسار الحرب العالمية الثانية
و نقل موسولينى ” فيينا ” بالنمسا و منها الى “ألمانيا” حيث صدم ” هتلر ” عند رؤيته لأول مرة في 14 سبتمبر في مخبأه “عرين الذئاب” خارج بلدة ” راستنبرج ” حيث أصبح “موسوليني” شخصية حزينة و فقد قدرًا كبيرًا من وزنه منذ آخر مرة رآه “هتلر” و لكن الشيء المهم هو أن صديقه القديم كان في أمان و لكن اتضح فيما بعد أن ذلك الإنقاذ ما كان الا مجرد انتصارًا أجوفًا لموسوليني بعد أن نصبه “هتلر” كزعيم دمية للجمهورية الاجتماعية الإيطالية المنشأة حديثًا حيث اعترف “موسوليني” بأنه لم يعد أكثر من أحد أتباع “هتلر” و عرف أن النهاية باتت قريبة حيث كان هو قبل سبع سنوات شخصًا مثيرًا للاهتمام و الآن أصبح أكثر بقليل من جثة و بالفعل صدق حدسه و جائت النهاية سريعة فبينما كان الحلفاء يشقون طريقهم عبر شمال إيطاليا حاول “موسوليني” و عشيقته “كلارا بيتاتشي” الهروب الى “سويسرا” المحايدة و في 27 من أبريل عام 1945 تم القبض عليه و على عشيقته و الوفد المرافق لهم من قبل الثوار الإيطاليين بالقرب من قرية “دونجو” على ضفاف بحيرة “كومو” و في صباح اليوم التالي قُتل “الدوتشي” رمياً بالرصاص و علقت جثته هو و عشيقته و العديد من أنصاره على سطح محطة بنزين في “ميلانو” و تصبح نهاية غير كريمة للرجل الذي حكم “إيطاليا” لأكثر من عشرين عامًا و ربما نجحت ” عملية البلوط ” فى هروبه من براثن أعدائه لكنها لم تكن كافية لهروبه من العدالة و القصاص نظير جرائمه ضد شعبه و بقية العالم .