لم تقتصر الحرب العالمية الثانية على المعارك العسكرية فقط بل كانت هناك صدامات أخرى تحدث وراء الكواليس من خلال عمليات مخابراتية ساهمت بشكل كبير فى تغيير دفة المعارك لصالح طرف على حساب الأخر و مع ثراء تلك الحرب بالعديد من العمليات الإستخبارية شديدة البراعة و ذات التخطيط المحكم تأتى العملية مينسميت أو اللحم المفروم فى المقدمة و التى يعتبرها العديد من المؤرخين العسكريين بأنها من أعظم عمليات الخداع الإستراتيجى فى تاريخ الحرب كلها و سمحت لعملاء المخابرات البريطانية بخداع الزعيم النازى أدولف هتلر للاعتقاد بأن الحلفاء كانوا على وشك غزو اليونان و ليس صقلية و هو ما شتت القيادة العسكرية الألمانية و كان بداية تغيير مسار المعارك و الغريب فى الأمر أن بطل تلك الخطة كان شاب متوفى لا نعتقد أنه كان يوما طوال حياته يظن ان موازين الحرب كلها كانت ستتغير بفضله .
فمع حلول نهاية عام 1942 بدأت ديناميكيات الحرب العالمية الثانية في التحول بعد نجاح الحلفاء في قتال قوى المحور في شمال إفريقيا و بدأوا يفكرون في تحويل تركيزهم إلى أوروبا حيث أرادوا الاستيلاء على جزيرة صقلية الواقعة فى جنوب إيطاليا لكنهم كانوا قلقين من أنها كانت استراتيجية واضحة للغاية بالنسبة الى ألمانيا حتى أن رئيس الوزراء البريطانى فى ذلك الوقت ” وينستون تشرشل ” قال أن الجميع ما عدا الأحمق الدموي ” هتلر ” سيعرفون أنها صقلية” و كان بالفعل الحلفاء مقتنعين بأنهم بحاجة إلى الاستيلاء على تلك الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي التي وصفها “تشرشل” بأنها “بطن أوروبا الناعم” و للقيام بذلك بدأت المخابرات البريطانية في تطوير “عملية باركلي” التى كانت حملة تضليل أشارت إلى تركيزهم على منطقة البلقان .
و أنتهت اجتماعات المخابرات البريطانية بخطة طموحة للغاية أطلق عليها اسم ” العملية مينسميت ” و التى تتمحور حول إرسال جثة بوثائق “سرية” مزيفة لخداع النازيين حيث طرحت تلك الفكرة سابقا لأول مرة في مذكرة عام 1939 تحمل اسم ” تروت ميمو ” و كتبها مدير المخابرات البحرية البريطانية “جون جودفري ” و توجد روايات أخرى تتحدث على أن من كتبها هو نائبه ” إيان فليمنج ” مبتكر شخصية ” جيمس بوند لاحقا و التى اقترحت عدة طرق مختلفة يمكن للمخابرات البريطانية استخدام طرق و اساليب للتضليل حيث كانت الفكرة رقم 28 لجثة ترتدى زي طيار مع وجود متعلقات منها رسائل في جيوبه و يتم القاءه على السواحل بشكل يبدو كما و لو أنه فشل فى فتح مظلته و أضافت المذكرة أنه لا توجد صعوبة في الحصول على الجثث من المستشفى البحري لكن بالطبع يجب أن تكون جديدة .
و لم يمضى وقت طويل حتى بدأ تنفيذ ” العملية مينسميت ” لكن كان لدى ضباط المخابرات مشكلة واحدة أنهم كانوا بحاجة إلى جثة حيث قام عملاء المخابرات البريطانية “إوين مونتاجو” و “تشارلز تشولمونديلي” بالبحث عنها و أتصلوا بأحد الأطباء الشرعيين في “لندن” لمحاولة مساعدتهم حيث عثروا على جثة بمشرحة “كينجز كروس” لرجل ويلزي يبلغ من العمر 34 عامًا يُدعى “جليندور مايكل” وهو رجل مشرد توفي بعد تناول سم للفئران و كان مناسبًا تمامًا للعملية نظرا لعدم وجود أصدقاء أو عائلة له حيث قامت المخابرات البريطانية فى تطوير هوية مزيفة له كجندي بريطاني يُدعى الكابتن “ويليام مارتن” و لكى تكون الصورة كاملة فبجانب الاسم و الرتبة أعطوا للجثة حياة حقيقية بأنها شخصية تنحدر من أسرة ثرية و لديه خطيبة اسمها “بام” و وجود علاقة متوترة مع والده المزعوم حتى أنهم وضعوا فى متعلقاته رسالة غرامية من حبيبته “بام” تناشده بعدم الذهاب و المشاركة فى المعارك لأنها لن تستطيع تحمل ذلك و لاضفاء المزيد من المصداقية تم وضع صورة لاحدى عميلات المخابرات و اسمها ” جان ليزلى ” لتكون هى خطيبته المزعومة و لزيادة المصداقية تم اضافة رسالة مثيرة للجدل من والده و تذاكر سينما و طوابع و إيصال لخاتم خطوبة من الماس و حتى إشعارًا من أحد البنوك يطالبه بسداد مبلغ سحب على المكشوف مؤخرًا .
كان مستوى الخداع الذي قام به عملاء المخابرات البريطانية مذهلاً فى كل شئ و وسط كل تلك التفاصيل تم وضع صلب الخطة و هى رسالة بعنوان “شخصى و شديد السرية ” من الجنرال السير “أرشيبالد ناي” نائب رئيس هيئة الأركان العامة الإمبراطورية إلى الجنرال السير “هارولد ألكسندر” الذي كان في ذلك الوقت يقود المجموعة الثامنة عشرة للجيش في شمال إفريقيا و التى أشارت فيها إلى أن البريطانيين خططوا لارسال قواتهم الى اليونان و سردينيا و ليس في صقلية حيث قالت الرسالة نصا “لدينا فرصة جيدة جدًا لجعل هتلر يعتقد أننا سنذهب إلى صقلية كأنه هدف واضح و يجب أن يكون متوترًا بشأنها ” و انتهت مرحلة الإعداد لخطة ” العملية مينسميت ” و قبل عشرة أيام من وصوله إلى الشاطئ في “إسبانيا” نقل “إوين مونتاجو” و “تشارلز تشولمونديلي” الكابتن “ويليام مارتن” في شاحنة مليئة بالثلج الجاف و توجهوا إلى “اسكتلندا” فى المملكة المتحدة و من هناك تم وضعه على الغواصة “سيراف” التي نقلته إلى الساحل الإسباني.
و فى يوم 30 من أبريل عام 1943 و على بعد ميل واحد من الساحل أنزل الضباط جثمان ” ويليام مارتن ” في الماء و قاموا بدفعها الى الشاطئ بإستخدام محركات الغواصة و نجحت الخطة حيث عثر صيادوا سمك السردين على الرجل الميت و الحقيبة مقيدة بسلاسل إلى معصمه و تم ابلاغ السلطات الإسبانية بذلك و التى على الرغم من أنها كانت محايدة رسميًا خلال الحرب إلا أن المخابرات البريطانية كانت تعلم جيدًا أن النازيين لهم وجود في البلاد و بالفعل تم الإبلاغ عن اكتشاف الجثة بسرعة إلى المخابرات العسكرية الألمانية عبر جاسوس يدعى “أدولف كلاوس” اما بالنسبة الى البريطانيين فقد أرسلوا رسالة إلى “إسبانيا” يطلبون فيها رجوع جثمان الرجل و حقيبته و جاء في الرسالة أن الأوراق السرية ربما تكون في حقيبة سوداء و يجب استعادتها في الحال مع الحرص على عدم وقوعها في أى أيدى غير مرغوب فيها و من ناحيتهم سارع الألمان على الفور بفحص الحقيبة و فتحها و قراءة الرسالة المزيفة ثم قاموا بنقعها في مياه البحر لتبدو و كأنها لم تمس من قبل .
و رغم ما فعله الألمان لإظهار ان تلك الحقيبة لم تمس الا أنهم لم ينتبهوا الى أن العميلين ” منتاجو و تشولمونديلى ” قد تركا احد الرموش فى الرسالة لتمييز ما إذا كان أي شخص قد فتحها أم لا و من المؤكد أن رمش العين قد اختفى عندما أعيدت الحقيبة و للتأكيد على ذلك قامت المخابرات البريطانية بفك تشفير احدى الرسائل المرسلة إلى “أدولف هتلر” و أكدت أن جواسيس نازيين أخبروه عن الجثة و قد تم فتح الصندوق الموجود معه و على الفور تم ارسال برقية إلى “تشرشل” مفادها ان الألمان قد أبتلعوا الطعم و قد ظهر ذلك بالفعل حين اتخذت استراتيجية الحرب الألمانية منعطفًا دراماتيكيًا بعد نقل دباباتهم من فرنسا إلى اليونان و تم تكثيف تواجد الرجال و الأسلحة فى منطقة البلقان مقابل وضع دفاعات خفيفة فى “صقلية” التى تم غزوها بالفعل من قبل الحلفاء فى 10 من يوليو عام 1943 كما خططوا طوال الوقت و أستطاعوا الاستيلاء على الجزيرة بسهولة في أكثر من شهر بقليل من القتال و قد تكبدوا خسائر أقل بكثير مما كان متوقعًا في البداية و نجحت “العملية مينسميت” بشكل ممتاز لدرجة أن “هتلر” افترض في البداية أن غزو “صقلية” الذى يحدث أمامه كان مجرد خطة خداعية تهدف إلى تشتيت انتباهه عن الغزو المستقبلي لليونان الذي كان يعتقد أنه قادم .
و كان لنجاح تلك الخطة صدى كبير حتى أن المؤرخين أشاروا الى أنه لولا ” العملية مينسميت ” لم يكن لأدولف هتلر ان يأمر بتحويل القوات إلى اليونان مما يجعل الغزو أكثر صعوبة و أبطأ أو حتى مستحيلاً و لتغير مسار الحرب , و رغم ان أهمية تلك العملية و احترافيتها الا أنه لم يعرف أحد عنها حتى عام 1953 حين سردها “إوين مونتاجو” في كتابه “الرجل الذي لم يكن أبدًا” و الذى تحول إلى فيلم بعد بضع سنوات و أعيد تصويره مجددا فى فيلم أخر يحمل اسم ” العملية مينسميت ” من انتاج شبكة نتفليكس .