دائما ما يعجب الكثيرين منا بالأعمال السينمائيه التى تتحدث عن فكرة الهروب من السجن باعتباره تحديا كبيرا لبطل العمل فى أن يستطيع تجاوز كل تلك الاستحكامات الأمنيه و العبور بسلام للحصول على حريته , و رغم اعتماد بعض المؤلفين على قصص واقعية خلال كتاباتهم إلا انهم قد يضيفون بعض من الأجزاء الخياليه لزيادة جرعة الإثارة فى أعمالهم , و بعيدا عن السينما إلا انه توجد قصة حقيقية لا تحتاج الى أى اضافات من المؤلفين نظرا لغرابتها و اثارتها كانت قد حدثت خلال منتصف القرن الماضى لأحد اليابانيين و يدعى يوشى شيراتورى الذى أستطاع الهروب من سجنه أربع مرات متتاليه بشكل أثار جنون السلطات اليابانيه و ذهول المواطنين الذين أطلقوا عليه لقب الرجل الذى لا يستطيع أى سجن الصمود أمامه .
الهروب الأول ليوشى شيراتورى
بدأ ” يوشى شيراتوري” حياته كصياد فى روسيا ثم أنتقل الى اليابان للعمل كطاهي الا انه لم يكمل فيها و ظل يفشل في أعماله المتتاليه و بعد عدة وظائف فاشلة أصبح لاعبا للبوكر و لصًا صغيرًا الى أن تم القبض عليه متلبسًا بإحدى السرقات و وضع فى سجن ” اومورى ” عام 1936 حيث كانت الحياة فيه لا تطاق و قرر التخطيط للهروب منه حيث بدء فى مراقبة روتين الحراس لعدة شهور و لاحظ انهم ياخذون استراحة تمتد الى ربع ساعه بعد كل دورية على الزنازين و ظل ينتظر الفرصة المناسبه للهروب منه , و فى يوم بارد و بعد تأكده من أن الطريق امام زنزاته أصبح خاليا أدخل احد الأسلاك المعدنية فى مزلاج بوابته الحديديه التى استجابت له و انفتحت ليخرج من زنزاته حيث لم يشكل ذلك سوى جزء بسيط من خطة هروبه نظرا الا أنه لا يزال المزيد من العقبات أمامه , و بعد اطمئنانه انه لازال لديه متسعا من الوقت تمكن من تجاوز بوابة امنية اخرى تعد هى البوابة الرئيسية للسجن و بذلك قطع 50% من خطة الهروب و لم يتبقى سوى الابتعاد عن منطقة السجن لضمان الحصول على حريته الكامله التى ستكون مكانا للبحث المكثف عنه .
و أثناء هروب ” يوشى شيراتورى ” وصل الحراس إلى زنزانته فى جولتهم الروتينيه فى تمام الساعة 5:45 صباحًا حيث رأوا جسدا مستلقيًا على سريره و نائمًا و لم يخطر ببالهم ان ذلك الشئ الموجود أسفل الغطاء ما هو الا مجرد بلاط مفكك لتضليلهم حيث لم يكتشفوا حقيقة الامر سوى فى اليوم التالي حين دق جرس الانذار داخل السجن معلنة هروبه و بدأ عمليات البحث عنه الا انه كان قد غادر المكان بالفعل و ابتعد تماما عنه .
الهروب الثانى
و لم تكن تلك سوى البداية لـ ” يوشى شيراتورى ” فى عمليات الهرب حيث عاد مرة اخرى الى السجن بعد مرور ثلاثة أيام على هروبه الأول لمحاولته سرقة بعض الأغراض من داخل أحد المستشفيات و ألقى القبض عليه متلبسا و قدم الى المحاكمة التى عاقبته على سرقته المستشفى بالاضافة الى محاولة هروبه السابقه بالسجن مدى الحياه حيث كانت عقوبة قاسية و صادمه له لأنه لن يكون مع عائلته البسيطه المكونة من زوجته و ابنته مرة أخرى و شعر بخيبة أمل كبيرة عندما اكتشف أن تعبه و تخطيطه فى محاولته للهرب السابقه كان مضيعة للوقت و أن حريته التى توقعها لم تدم طويلاً.
و بعد قضاءه ست سنوات داخل سجن ” اومورى ” أنتقل الى سجن اخر شديد الحراسة و التحصين يدعى ” سجن أكيتا ” عام 1942 الذي كان يستخدم خلال الحرب العالمية الثانية كأحد المعتقلات و يحتوى على زنزانات خاصه ذات جدران نحاسية ملساء و أسقف عالية لا يمكن الوصول اليها باليد و لم يكن هناك أي ضوء شمس يدخلها من خلال نافذتها حيث كانت مضاءة فقط من خلال بقعة ضوئيه مثبتة فى السقف و مع كل تلك الاستحكامات كان حراسه الجدد يعاملونه بشكل أسوء من سجنه السابق بعد علمهم بمحاولة هروبه السابقه حيث كانوا حريصين على تلقينه درسا بعدم تكرار تلك الفعلة مرة أخرى و التأكد من عدم قدرته على الهروب مرة أخرى و ذلك من خلال وضع الأغلال على يديه طوال الوقت و ارهاقه بالعمل البدنى المفرط و حبسه في البرد داخل زنزانته بملابس خفيفه و وضعه في الحبس الانفرادي لفترات طويلة و النوم على سطح صلب و اجباره على رفع أوزان ثقيلة و رغم كل تلك المعاملات القاسيه الا أن احد أفراد حراسته و يدعى ” كوباياشى ” مختلفا عنهم حيث كان يشفق عليه و يعامله معاملة حسنة .
و نتيجة لكثرة التعذيب الذى تعرض له ” يوشى شيراتورى ” قرر الهروب من السجن و خلال إحدى فترات إقامته داخل زنزانته فى ليلة عاصفة نظر أحد الحراس إلى زنزانته فى منتصف الليل و لم يصدق ما رآه حيث كانت الزنزانة خاليه و لا أثر لوجود ” يوشى ” و كانت الأصفاد هي كل ما تبقى اما هو فقد تبخر من المكان و كان الامر غامضا و وضع الحراس بعض من التفسيرات حول خطة هروبه فى انه كان خبيرا في التحرر من القيود لذلك فقد كان تخلصه من الاصفاد امرا منطقيا من خلال استعانته بأحد الأسلاك التى وجدها ملقاه فى مكان ما او من خلال أحد الأشياء التي أحضرها “كوباياشي” له و فور انتهائه من فك قيوده يبدء فى تسلق الجدران النحاسية الملساء التى كان يعتقد أنها لا يمكن التغلب عليها حيث تبين أن “شيراتوري” كان متسلقا ماهرا يتمتع بقدرة خارقة مثل السحلية و عندما يصل الى اعلى السقف كان قد لاحظ أن النافذة رغم أنها مغلقة باحكام الا أنها كان لها اطار خشبى متأكل لم يلحظه الحراس ليشرع فى محاولة انتزاعها من مكانها حيث كرر ذلك عدة مرات و على فترات متفاوته أمتدت الى عدة شهور كلما تيسر له ذلك و كان كلما شعر باقتراب احد الحراس من زنزاته كان يعود مرة اخرى الى مكانه و يضع الاصفاد عليه مجددا حتى لا يثير الشك حتى نجح اخيرا فى انتزاع ذلك الاطار و لم يتبقى سوى تحديد الموعد المناسب لهروبه و الذى اختاره يوما عاصفا حتى لا يسمع الحراس وقع أقدامه على السطح و نجح ” يوشى ” بالهرب و لم يستطيع أحد الوصول اليه .
و بعد مرور ثلاثة أشهر من هروبه كان الحارس الرئيسي للسجن “كوباياشي” في منزله عندما سمع طرقًا فقام ليفتح الباب و يتفاجئ أنه الهارب “يوشى شيراتوري” و هو فى حالة مزريه و يبحث عن مساعده حيث قدم اليه الطعام و يستمع إلى ما سيقوله حيث أوضح ” يوشى ” أنه لا يمانع في أن يكون بالسجن و أن السبب الوحيد لهروبه مرتين هو المعاملة المروعة التي كان يتلقاها من الحراس الساديين و أنه جاء اليه لأنه كان الشخص الوحيد الذي أظهر له الاحترام لذلك شعر بأنه ملزم بإبلاغه بنيته القادمه و هى انه يسلم نفسه عن طيب خاطر إلى وزارة العدل حيث يمكنه بعد ذلك تقديم دعوى لايضاح مدى الفساد و الهمجية في نظام السجون الياباني و أن هناك حاجة ضروريه إلى الإصلاح و أراد حشد الرأى العام من أجل المساهمة فى تغيير ذلك و هو أمرا لن يستطيع ان يفعله بمفرده لأنه فى نظر المجتمع شخص مدان و هارب من العداله و لكن عن طريق مساعدة ” كوباياشى ” حارس سجن “أكيتا” المحترم و الذى يثق به فانه سوف يعزز مصداقيته فى صحة تلك الاتهامات .
كان رد ” كوباياشى ” هو اتصاله بعد دقائق بالشرطة بينما كان “يوشى شيراتوري” في المرحاض ليلقى القبض عليه و يعود مرة أخرى إلى السجن و تعهد بعدم الوثوق أبدًا في أى ضابط شرطه حيث أضافت المحكمة إلى حكمه المؤبد السابق ثلاث سنوات اضافيه على هروبه الثانى و حين طلب إرساله إلى سجن “طوكيو” حيث كان الطقس فيه أكثر دفئًا و لم يعد قادرًا على تحمل البرد قوبل بالرفض و أرسله القاضي الى سجن “أباشيرى” فى مدينة ” هوكايدو ” بأقصى شمال اليابان و المعروف بأنه سيئ السمعة و لم يستطيع أي رجل الهروب من ذلك السجن المتجمد مطلقا .
الهروب الثالث ليوشى شيراتورى
كان سجن ” أباشيرى ” غير أدمى فالبرد فيه لا يطاق و درجة الحرارة في الزنازين دون الصفر حتى الحساء و صلصة الصويا التى كانت تقدم الي المساجين تتجمد في كثير من الأحيان و دخل ” يوشى شيراتورى ” اليه فى شتاء عام 1943 حيث أُلقي في زنزانة و هو مقيد اليدين و بملابس صيفية في درجة الحرارة صعبه ليشعر على الفور بوخز شديد من الهواء البارد و ربما حاول مقاومة حرسه بدافع من اليأس بداخله الا أنهم تمكنوا من صده و ضربه بعنف ليقف “شيراتوري” غاضبًا و متحديًا و متعهّدًا بأنه سيهرب من ذلك السجن كما فعل دائمًا وأنه لا يوجد شيء يمكنهم فعله حيال ذلك و أنه حتى لو وضعوا الأصفاد في وجهه لن يكون مفيدًا لأنه سيجد دائمًا طريقة للتحرر و قام فتح قيوده أمامهم لإثارة رعب الحراس هو أمر دفعهم الى تشديد الحراسة عليه بشكل يفوق الوصف مع جعل زنزاته ذات مواصفات استثنائيه حيث احتوت على تجهيزات عالية الجودة ببوابة حديدية قويه ذات فتحة صغيرة جدا بشكل لا يسمح بخروجه منها و مخصصة لادخال الطعام اليه كما وضعت قيوداً حديدية خاصة على معصميه و قدميه و الطريقة الوحيدة التي يمكن إزالتها منه كانت من قبل متخصصين الذين يأتون مرتين أسبوعياً حيث يستغرقون ساعتين كاملتين لازالتها من اجل استحمامه و ضمان عدم اصابته بجروح لطول مدة وضعها على يديه او قدميه .
كانت الظروف المحيطة بيوشى صعبه و لم يستطيع فعل اى شئ لفترة امتدت الى شهور و كان الحراس يسخرون منه و يجبرونه على تسول الطعام و في إحدى الليالي من شهر أغسطس سمع أحد الحراس شيئًا يتحرك على السطح أثناء قيامه ببعض الأعمال الورقية الا انه لم يهتم و لكن عند دخوله إلى زنزانة ” يوشى شيراتورى ” ذهل عندما وجد سريره و عليها ملابسه مطوية بشكل أنيق و تم وضع قيوده المصممة خصيصًا له و التي يبلغ وزنها 20 كجم بجانبها ليدق جرس الانذار داخل السجن معلنا هروبه و وفائه بوعده الى الحراس و يختفى تماما من المكان و لم يستطيع احد العثور عليه .
و لكن كيف هرب من تلك الزنزانة المنيعه ؟ .. الاجابه تكمن قبل الهروب بستة أشهر حيث بدء الاستعدادات لذلك لأنه قبل تلك المدة كان يفتقر إلى القوة والقدرة على التحمل للهروب ناهيك عن القيود التي كانت عليه و اراد فهمها بشكل اكبر لذلك كان كل ما يحتاجه هو الوقت والصبر و خلال الفترة التى يقدم له الحراس الطعام يوميا كان يحرص على الاحتفاظ بجزء صغير من الحساء ليرش بها الفتحة الموجودة على بوابة زنزاته التى يقدم منها اليه الطعام و أصفاده التى اصابهم الصدأ مع الوقت من ذلك الحساء اما عن خروجه من الفتحة الضيقة للغايه الموجودة فى البوابه فقد استطاع و بشكل خرافى خلع كتفه و ثنى جسده مثل الدوده و الخروج منها بشكل سلس .
و بذلك أصبح ” يوشى شيراتورى ” قد هرب من ثلاثة سجون منهم سجن “أباشيري” المنيع بشمال “هوكايدو” حيث كان هو الرجل الوحيد الذي هرب منه ليتوجه الى الجبال المتجمدة و المغطاة بالثلوج معرض حياته للخطر اما من البرد او الدببة الجبليه المفترسه و رغم ذلك الا انه استطاع التكيف بداخل احد المناجم المهجورة و عاش على المكسرات و التوت و الأرانب من أجل الطعام و تعلم كيفية اصطياد سرطانات البحر الا ان اكثر ما كان يشغل باله هو انه حتى لو نجا من تلك المصاعب فلن يستطيع العودة إلى عائلته لأنها ستكون تحت المراقبة المستمرة .
و امضى ” يوشى شيراتورى ” عامين على الجبل فى عزله ثم نزل إلى قرية مجاورة ليصدم من أخبار انتصار الولايات المتحدة على اليابان فى الحرب العالمية الثانيه و القاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما و ناجازاكى و انتحار ” هتلر ” و يقرر ترك طريقة حياته السابقة وراءه الانتقال جنوبًا إلى مدينة “سابورو” و التى خلال رحلته اليها كان يتضور جوعا و وجد لنفسه بعض من ثمرات الطماطم الناضجة فى حقل قريب حيث كان ذلك خطأ فادحًا منه بعد أن ظن احد المزارعين أنه لصا و أتى الى سرقته مما أدى إلى اندلاع شجار معه انتهى بطعن ” يوشى ” للمزارع طعنة أدت الى وفاته فى الحال و يقبض الناس عليه ” و يقدم الى المحاكمة و يحكم عليه بالإعدام و في عام 1947 تم إرساله إلى سجن “سابورو” في انتظار تنفيذ الحكم .
الهروب الرابع
فى سجن ” سابورو ” كان ” يوشى ” مراقب على مدار الساعة للتأكد من أنه لن يهرب مجددا قبل تنفيذ الحكم حيث أصبحت زنزاته أكثر قوة و مزودة بسقوف و قضبان جديدة و كانت فتحة النافذه أصغر بكثير من جسده كما انه بدء يكبر فى السن و تضاءلت احتمالات هروبه بشكل كبير و كان الحراس يرون اليأس في عينيه دائما و كانوا دائما يفتشون أسقف زنزاته كل ليلة أثناء وجوده فيها لضمان عدم هروبه و فى أحد الأيام دخل اليه الحراس ليجدوا أنه قد أختفى مجددا عام 1947 .
و بالبحث عن زنزاته اكتشفوا انهم كانوا يولون اهتماما كبيرا بمراقبة السقف و النافذه و اهملوا تماما أرضيتها التى قام بحفر نفق أسفلها يؤدى الى خارج السجن و بوعاء الحساء الذى كان يقدم اليه يوميا فى جنح الليل كما وضع على سريره لحافا كما لو يبدو انه نائما امام حراسه كما فعل فى المرة الأولى و يختفى تماما عن أعين السلطات حيث كان قد وصل الى سن الاربعينيات و في أحد الأيام بينما كان في “سابورو” عرض عليه شرطي كان جالسًا بجواره في محطة للحافلات سيجارة و بدأ في التحدث إليه بلطف الا انه حاول الابتعاد عنه حرصا على سلامته و فجأة تحرك الشرطي اليه مرة اخرى ليعرض على “شيراتوري” سيجارة أخرى بطريقة ودية و هو الامر الذى فاجأه حيث كانت السجائر سلعة باهظة الثمن فى ذلك الوقت و هو موقف جعله يذرف الدموع لأنه لطالما تم استغلاله و تعذيبه من قبل رجال الشرطة و لكن هذه المرة واجه مثالاً للفضيلة العسكرية و أصبح عاطفيًا للحظات و في مرحلة ما من محادثتهما كشف عن هويته و اعترف بنفسه على أنه “يوشي” .
و نتيجة لكشف هويته مرة اخرى أعيد اعتقاله عام 1948 لكن الأمور كانت تلك المرة مختلفة ربما كان ذلك بسبب استسلامه أو لأن نظام العدالة في اليابان كان يمر بمرحلة تحول حيث بدأت المحكمة العليا تتعاطف مع “شيراتوري” خاصة بعد التحقق من بعض مزاعمه السابقة بما في ذلك جريمته بقتل المزارع على اعتبار انه كان للدفاع عن النفس كما أنه لم يؤذي أو يقتل حارسًا واحدًا خلال محاولات الهروب الأربع و انتهت المحكمة العليا في النهاية إلى تبرئته من تهمة القتل العمد و حكمت عليه بالسجن 20 عامًا.
و حصل ” يوشى شيراتورى ” على ما أراد في سجن “فوتشو” فى ” طوكيو ” و وجد أن الحراس عاملوه معاملة جيدة لأول مرة خلال حياته و تم الإفراج عنه مبكرا عن موعده عام 1961 لحسن السير و السلوك و أصبح حراً و عاد إلى “أوموري” و التقى بأحد أفراد عائلته الوحيده الباقية على قيد الحياة و هى ابنته الى ان توفى عام 1979 عن عمر يناهر 71 عاما بعد حياة حافله بالهروب من السجون .