يعتبر فيلم العراب الذي أنتج عام 1972 و تناولت أحداثه العالم الخفي للجريمة المنظمة داخل الولايات المتحدة و أخرجه فرانسيس فورد كوبولا و قام ببطولته مارلون براندو و أل باتشينو واحد من أبرز الأفلام الخالدة التي تركت بصمة كبيرة في تاريخ السينما العالمية بعد تلقيه إشادات من قبل النقاد و الجماهير و لكن لعل الكثيرين لا يعلمون أن ذلك العمل السينمائي من أجل إنتاجه و ظهوره علي الشاشات قد مر بأزمة كبيرة مع قيادات الجريمة المنظمة داخل مدينة نيويورك و علي رأسهم جو كولومبو الذي وجه تهديدات صريحة لفريق عمل الفيلم حال تنفيذه .
بدأت قصة فيلم ” العراب ” حين تم الحصول علي حقوق الرواية عام 1968 من خلال المنتج ” روبرت إيفانز ” حيث كان ” ماريو بوزو ” كاتب الرواية مثقل بالديون بسبب عادته في المقامرة لذلك كان متحمسًا لتلك الصفقة لأن حقوق الكتاب و الفيلم ستساعده في التخلص من ديونه و قد إعترف صراحةً بأن أبحاثه حول الجريمة المنظمة من أجل كتابة تلك الرواية إقتصرت علي طرح الأسئلة علي اللاعبين و المقامرين في الكازينوهات و مع ذلك نجحت الرواية بعد أن باعت في بادئ الأمر 750,000 نسخة تلاها ملايين النسخ الأخري و بطبيعة الحال نتيجة نجاح الرواية تم تسليط الضوء بشكل كبير علي الفيلم الذي لم ينتج بعد و عندما علم ” جو كولومبو ” بالأمر و الذي كان أحد زعماء الجريمة المنظمة المدعي ظاهريا أنه وكيل عقاري و يقود رابطة الحقوق المدنية الإيطالية الأمريكية المهتمة بالإحتجاج علي الصور النمطية للإيطاليين عارض الأمر و أوضح أن الإنتاج لن يكون موضع ترحيب في مواقع التصوير بنيويورك إذا أصر علي تعزيز تلك الصور النمطية عن الإيطاليين .
و كان من أسباب مهاجمة ” جو كولومبو ” للفيلم علي حد تعبيره أنه لا يوجد شيء اسمه “المافيا” و نُقل عنه قوله ذات مرة: “مافيا؟ ما هي المافيا؟ لا توجد مافيا. هل أنا رئيس عائلة؟ نعم زوجتي وأبنائي الأربعة وابنتي. هذه هي عائلتي.” إلا أن تحقيقًا سريعًا في ماضيه كان يكشف عن حقيقة أخرى فبعد أن سيطر علي عائلة الجريمة “بروفاسي” في منتصف الستينيات و استفاد من الفراغ الذي خلفه الزعيم المسجون “جو جالو المجنون” صعد ” جو كولومبو ” بسرعة في صفوف “عائلات نيويورك الخمس” الشهيرة و تم توجيه تهم له بالتهرب الضريبي و إتهامه من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي بإدارة شبكة واسعة من القمار والإبتزاز و في حين أن المشتبه بهم الجنائيين يفضلون البقاء بعيدًا عن الأنظار إختار ” كولومبو ” التحرك علي نطاق واسع حيث أسس الرابطة المدنية الإيطالية الأمريكية و إحتج علي القصص الإعلامية المثيرة المتعلقة بالإيطاليين الأمريكيين لذلك وجد دعمًا من أفراد مجتمعه حيث بلغ عدد أعضاء الرابطة حوالي 45,000 شخص من الذين كانوا قد سئموا من صورهم النمطية علي شاشات السينما و نجح في الحصول علي إلغاء إعلان تجاري شهير لمنتج “ألكا-سلتزر” و كان يضغط لإزالة كلمة “مافيا” من البرامج التلفزيونية كما نجح في تقليل الإشارات إلي مصطلحات مثل “مافيا” أو “لا كوزا نوسترا” في الثقافة الشعبية .
و عقب تهديدات ” جو كولومبو ” لصناع العمل بدأ المنتج ” أل رودي ” في مواجهة سلسلة من الأحداث المزعجة التي بدت مرتبطة بإحتجاجات الرابطة العلنية حيث تم تحطيم نوافذ سيارته و تلقى مكالمات تهديدية في مكتبه و شاهد سيارات غريبة تتبعه في الطريق بالإضافة إلي تلقي شركة “جلف آند ويسترن” الشركة الأم لأستوديوهات باراماونت لتهديدات عبر الهاتف عن وجود قنابل داخل المبني و هو ما أدي إلي إخلاءه مرتين لذلك شعر ” رودي ” بالقلق ليس فقط علي سلامته الشخصية و لكن أيضًا علي سلامة الفيلم لأنه إذا أراد ” جو كولومبو ” تعطيل الإنتاج عن طريق ترتيب إضرابات العمال أو تخريب ديكورات الفيلم أو حتى إخفاء الممثلين فسيكون ذلك كارثيًا لذلك قرر التفاوض في أوائل عام 1971 و رتب إجتماعًا مع ” جو كولومبو ” و إبنه ” أنتوني ” لمناقشة الفيلم و خلاله قدم ” رودي ” لهما النص المكون من 155 صفحة و أصر علي أن الفيلم لن يعزز الصور النمطية التي كانت تعارضها الرابطة.
و من ناحيته كان ” جو كولومبو ” مستعدًا للتفاوض و أخبر ” رودي ” أنه إذا تم حذف أي إشارة إلي “المافيا” أو “لا كوزا نوسترا” من النص و تبرعوا بعائدات العرض الأول للفيلم إلي الرابطة فلن يعترض علي التصوير و نظرا لعدم وجود أي خيارات أمام ” رودي ” أضطر للموافقة علي الشروط و تم الإعلان في مارس عام 1971 أن “العراب” قد حصل علي موافقة الرابطة و عندما علمت الإدارة العليا في “جلف آند ويسترن” أن ” رودي ” قد أبرم صفقة مع المافيا كانوا غاضبين لأن ذلك أدي إلي إنخفاض أسعار أسهمهم لذلك تم إستدعاءه و تحميله المسؤولية ثم طرده من الفيلم و لكن لحسن حظه تم إعادة توظيفه مرة أخري بناءً علي إصرار ” كوبولا ” .
و من سخرية القدر أنه أثناء تصوير ” فرانسيس فورد كوبولا ” لمشاهد من الفيلم و تحديدا الإغتيالات الخيالية التي أمر بها ” مايكل كورليوني ” (آل باتشينو) ضد منافسي العائلة في 28 يونيو 1971 و بينما كان أحد قتلة ” كورليوني ” يوجه مسدسًا تمثيليًا تحت إشراف ” كوبولا ” كان مشهد مشابه جدًا يحدث علي أرض الواقع بعد أربع شوارع فقط حيث كان ” جو كولومبو ” يقترب من المنصة لإلقاء خطاب خلال تجمع لـ “يوم الوحدة الإيطالية الأمريكية” في “كولومبوس سيركل” بنيويورك و بينما كان يتوجه إلي المنصة إقترب منه مصور يحمل بطاقة صحفية يُدعى ” جيروم جونسون ” و قبل أن يدرك ” جو كولومبو ” ما كان يحدث ألقي ” جونسون ” الكاميرا و أستل مسدسا و أطلق ثلاث طلقات على رأسه و عنقه و علي الفور رد رجال ” كولومبو ” بإطلاق النار علي القاتل و أردوه قتيلا .
أقرأ أيضا : الصقر المالطي .. الفيلم السينمائي الذى كان له أثرا فى وضع نهاية للحرب العالمية الثانية
و نُقل كولومبو إلى المستشفى لكن إصاباته كانت خطيرة و قضى السنوات السبع التالية في غيبوبة قبل أن يتوفى في عام 1978 و رغم أن جريمة قتله لم تُحل رسميًا إلا أنه كان يعتقد أن ” جالو المجنون ” العائد للإنتقام و الذي ضاق ذرعًا بظهور كولومبو المتزايد قد أمر بقتله و في هجوم إنتقامي مفترض تم قتل ” جالو ” بعد عام واحد فقط أثناء تناوله الطعام في مطعم للإحتفال بعيد ميلاده و بذلك يصدر القدر أحكامه بأن تصريحات الزعيم ” جو كولومبو ” خاطئة و أن رواية و فيلم ” العراب ” ما هو إلا مجرد تجسيد للواقع .