عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية بدء نظام عالمي جديد نحو التشكل في إتجاه معسكرين أحدهما غربي بقيادة الولايات المتحدة و الأخر شرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي و علي مدار خمسون عاما تقريبا دار بين الثنائي صدام مرير أمتدت نيرانه إلي جميع بقاع العالم فيما عرف حينها بإسم الحرب الباردة لذلك و في أوائل الستينيات كانت القيادة الأمريكية تشعر بقلق عميق إزاء وصول الزعيم الشيوعي فيدل كاسترو إلى السلطة في كوبا القريبة من حدودها لذلك كانت فكرة التخلص منه حتمية و عليه تم وضع خطة تم التوقيع عليها من قبل هيئة الأركان المشتركة و قدمت إلي مكتب الرئيس جون كينيدي تحت إسم عملية نورثوودز و الذي بمقتضاها يتم تنفيذ هجمات إرهابية زائفة داخل الأراضي الأمريكية و خارجها و محاولة إلصاق التهمة بنظام كاسترو لتكون وسيلة لتبرير التدخل العسكري الأمريكي في كوبا و إسقاطه .
و رغم بداية الحرب الباردة في منتصف الأربعينيات إلا أنه مع حلول عام 1959 كانت توتراتها تقترب من الذروة في اللحظة التي ظهر فيها ” فيدل كاسترو ” على الساحة بعد أن تمكن من الإطاحة بالزعيم الكوبي ” فولجنسيو باتيستا ” المدعوم أمريكيا و تصبح بذلك “كوبا” هي أول دولة شيوعية في نصف الكرة الغربي و هو ما أثار قلق الأمريكيين الذين أعتادوا علي التهديدات البعيدة القادمة من “الاتحاد السوفييتي” و لكن في تلك المرة أصبح لديهم فجأة دولة شيوعية على بعد 150 كيلومتر فقط من ساحل “فلوريدا” و بدا أن الحرب الباردة أصبحت تتخذ مسارا أكثر سخونة بعد أن صرح الزعيم السوفيتي ” نيكيتا خروتشوف ” في يوليو عام 1960 قائلا لا ينبغي للمرء أن ينسى أن الولايات المتحدة لم تعد الآن على مسافة بعيدة عن الاتحاد السوفييتي كما كانت من قبل في رسالة تهديد وصلت للمسئولين الأمريكيين و بما أنهم أعلنوا بشكل علني عدم تسامحهم مع الشيوعية الدولية في نصف الكرة الغربي فقد بدأت أجهزة الإستخبارات في العمل خلف الكواليس نحو تحقيق ذلك الهدف .
و كانت البداية حين شرعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA في محاولة تحييد حكم “كاسترو” من خلال هجوم خليج الخنازير الذي قادته الوكالة عام 1961 من خلال إرسال مسلحين معارضين إلي السواحل الكوبية و عندما فشلت تلك الخطة قررت القيادة العسكرية الأمريكية أن دورها قد حان لذلك و في عام 1962 طلب الجنرال ” إدوارد لانسديل ” رئيس العمليات لمشروع مكافحة نظام “كاسترو” من هيئة الأركان المشتركة وصفًا موجزًا و لكن دقيقًا للذرائع التي من شأنها أن توفر مبررًا للتدخل العسكري الأمريكي في ” كوبا ” و للإستجابة لطلبه قامت هيئة الأركان بقيادة الجنرال “ليمان ليمنيتزر” بالتخطيط لعملية نورثوودز .
كانت تفاصيل عملية نورثوودز التي تم تقديمها علي هيئة وثيقة في 13 مارس عام 1962 إلى وزير الدفاع “روبرت ماكنمارا” و الموافقة عليها من قبل هيئة الأركان المشتركة تحتوي علي عددًا من الطرق التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها التحريض على الحرب ضد “كوبا” حيث أقترحت إحدى الخطط إختراع حوادث منسقة جيدًا داخل جزيرة جوانتانامو و ما حولها لجعل الأمر يبدو و كأن القاعدة الأمريكية الموجودة بها تتعرض للهجوم و لمحاولة جعل الأمر يبدو ذات مصداقية أقترحت عملية نورثوودز إستخدام الشائعات و الإعتماد علي الكوبيين الموالين و إشعال الحرائق و إجراء جنازات وهمية للضحايا مع ذكر ” حادثة مين ” و هو حادث شهير إنفجرت فيه سفينة حربية أمريكية تحمل ذلك الإسم في ظروف غامضة داخل ميناء ” هافانا ” عام 1898 و أعطت مبررًا للولايات المتحدة لخوض الحرب مع “إسبانيا” لذلك من الممكن إتباع نفس الأسلوب داخل تلك العملية و ترتيبه علي عدة أشكال من خلال تفجير سفينة أمريكية في خليج جوانتانامو و إلقاء اللوم على “كوبا” أو تفجير سفينة ثم القيام بعملية إنقاذ وهمية و أشارت الوثيقة إلى أن قوائم الضحايا في الصحف الأمريكية من شأنها أن تسبب موجة مفيدة من السخط الوطني .
و بجانب ما سبق تضمنت الاقتراحات الأخرى في عملية نورثوودز تطوير حملة إرهاب كوبية شيوعية في “فلوريدا” أو ربما واشنطن العاصمة و إغراق قارب للاجئين الكوبيين سواء كان بشكل حقيقي أو مزيف و التخطيط لهجمات عامة على اللاجئين الكوبيين و تفجير القنابل و زرع الأدلة التي تشير إلى ضلوع “كوبا” في ذلك و إتهامها بأنها كانت تخطط لشن هجوم في أمريكا الجنوبية و لكن ربما كانت المؤامرة الأكثر طموحًا في عملية نورثوودز هي التي كانت تتعلق بطائرة مدنية حيث اقترحت خلق حادث يثبت بشكل مقنع أن طائرة كوبية هاجمت و أسقطت طائرة مدنية مستأجرة و يقوم بتنفيذها طلاب جامعيين مزيفين و رسمها بشكل مقنع لجعلها تبدو حقيقية و لكن رغم الجهد الذي بذل في وضع تلك الخطة إلا أن عملية نورثوودز لم تصل إلى أبعد من مجرد أن تكون وثيقة بعد أن أخبر الرئيس “جون كينيدي” الجنرال “ليمنيتسر” في 16 مارس عام 1962 بأنه ليس لديه أي خطط لإستخدام أي نوع من القوة للإستيلاء على “كوبا” .
و يقول المخرج ” أوليفر ستون ” الذي أخرج فيلم ” جون كينيدي ” عام 1991 و أنتج الفيلم الوثائقي “إعادة النظر في جون كينيدي: من خلال النظرة الزجاجية” أن عملية نورثوودز و كل المخططات المجنونة التي أبتكروها لغزو “كوبا” صدمت و أرعبت الرئيس الأمريكي لذلك ربما تكون الحكومة هي من قتلته لأنه كان يتعامل مع عقلية دولة الحرب التي ظهرت في الخمسينيات و وفقاً لجيمس بامفورد الذي سلط الضوء على عملية نورثوودز في كتابه “جسد الأسرار” الصادر عام 2001 فإن السبب في إبقاء هذه الأمور سرية لفترة طويلة هو أن هيئة الأركان المشتركة لم ترغب أبدًا في إظهارها لأنها كانت محرجة للغاية واصفًا إياها بأنها واحدة من أكثر الخطط التي وضعتها الحكومة الأمريكية فسادًا على الإطلاق و أضاف أن المغزى الأساسي من الديمقراطية هو أن يكون هناك قادة يستجيبون للإرادة العامة و لكن في تلك الحالة يحدث العكس تمامًا حيث يحاول الجيش خداع الشعب الأمريكي و دفعه إلى حرب يريدونها في الوقت الذي لا أحد يريدها .
و على الرغم من أن معظم اللاعبين الرئيسيين في عملية نورثوودز قد ماتوا حين صدرت تلك الوثيقة إلا أن المقربين من الرئيس أنكروا بشكل قاطع أي معرفة بالمؤامرة المناهضة لكاسترو حيث قال “ثيودور سورنسون” المستشار الخاص للبيت الأبيض في عهد “كينيدي” بأنه لم يسمع بها قط و لا يصدقها لأنها من الواضح عدم قانونيتها تمامًا و غير حكيمة على الإطلاق كما نفى وزير الدفاع حينها “روبرت ماكنمارا” الذي يُزعم أنه رأى الخطة أمام الرئيس علمه بها و قال بأنه لم يسمع بها قط مضيفا أنه لا يستطيع أن يصدق أن قيادات الجيش كانوا يتحدثون أو يشاركون في ما يمكن أن يسميه عمليات تقترب أكثر في مضمونها إلي أعمال وكالة المخابرات المركزية .
أقرأ أيضا : العملية إيفي بيلز .. قصة البرنامج السري الامريكي للتصنت على كابل الإتصالات العسكرية السوفيتية تحت سطح البحر
و ختاما نستطيع القول أن إرث عملية نورثوودز يعد غامضا فعلى الرغم من أنها تعكس توترات الحرب الباردة و المخاوف بشأن “كوبا” إلا أنها من ناحية أخري تكشف عن الأساليب التي كان القادة العسكريين الأمريكيين على إستعداد للنظر فيها حيث يشير الكاتب “جيمس بامفورد” إلى أنه لو نجحت العملية لكانت ” الولايات المتحدة ” قد فرضت حكماً عسكرياً على الكوبيين و هذا ما يفترض أن نحررهم منه و أضاف أن الطريقة الوحيدة التي كنا سننجح بها هي أن نفعل بالضبط ما كان يفعله الروس في جميع أنحاء العالم من خلال فرض حكومة طاغية و هو ما كنا نتهم “كاسترو” نفسه بفعله .