رغم إنتهاء الحرب العالمية الثانية بإنتصار ساحق للحلفاء و هزيمة ألمانيا النازية و إنتحار زعيمها أدولف هتلر إلا أنه لا يخفي علي الكثيرين و بإعترف الحلفاء أنفسهم أن الألمان كانوا في بعض من مراحل تلك الحرب قريبين جدا من حسمها لإعتبارات تتعلق بمهاراتهم في فنون التخطيط العسكري و قوة التسليح و الإعتماد علي عدد من الجواسيس الأكفاء المنتشرين في أغلب دول العالم خاصة الأوروبية منها و الذي كان من بينهم شخص تركي يدعي إلياس بازنا الذي عمل لمدة عام كامل كخادم للسفير البريطاني في تركيا و لكن في واقع الأمر كان جاسوسا ألمانيا و تمكن من خلال عمله تصوير بعض من الوثائق البريطانية التي أحتوت علي أسرار هامة و قام بنقلها للنازيين الذين إذا كانوا قد أعطوا أولوية كبيرة لمحتواها لتغيرت مجريات تلك الحرب بشكل كامل لصالحهم .
ولد ” إلياس بازنا ” عام 1904 فى مدينة بريشتينا عاصمة إقليم كوسوفو الحالي و الذي كان في السابق جزء من الإمبراطورية العثمانية و علي مدار 40 عاما كان يعيش حياة متجولة بلا هدف حيث عمل في ” فرنسا ” كسائق في الجيش ثم صانع أقفال لشركة سيارات و لفترة وجيزة كمغني محترف في الأوبرا وفي أبريل عام 1943 وجد نفسه يعمل خادمًا في السفارات الموجودة في العاصمة التركية ” أنقرة ” و في أحد الأيام بينما كان جالسًا يقرأ الجريدة و يشرب القهوة في صالة فندق أنقرة بالاس ظهرت له فكرة مثيرة تتعلق بقيامه بسرقة أسرار قيمة من “بريطانيا ” و بيعها لخصومها مقابل مبلغ ضخم يستطيع العيش به لاحقا و لذلك أنطلق لتقديم طلب للحصول على وظيفة للعمل داخل السفارة الإنجليزية .
و عندما تم تقديم ” إلياس بازنا ” لأول مرة للسفير البريطاني في “تركيا” السير “هوجي كناتشبول-هوجيسن” بدا له أنه شخص مثالي للعمل معه خاصة و أنه قد جاء بتوصية من الملحق العسكري الأمريكي في أنقرة بالإضافة إلي سفير يوغوسلافيا كما أنه يتحدث الفرنسية بطلاقة و يعمل سائقا جيدا و ميكانيكيا ماهرا و خلال عمله معه كان يساعده في الإغتسال و إرتداء ملابسه إضافة إلي ردعه للزوار الغير مرغوب فيهم و أثناء تعامله معه أكتشف السفير أن خادمه ” إلياس بازنا ” يتمتع بصوت غنائي رائع حتي أنه قد أعطي له فرصة الغناء في إحدي الحفلات الموسيقية .
و رغم إعجاب السفير بأداء خادمه ” إلياس بازنا ” إلا أنه لم يكن يعرف أنه في يوم 26 أكتوبر عام 1943 كان يجري إتصالات مع السفارة الألمانية لأنه قبلها بيوم تمكن من إلتقاط صور لبعض من الوثائق الرسمية التي كانت بحوزة “دوجلاس بوسك ” أول صاحب عمل بريطاني له و الذي زكاه للعمل مع السفير “هوجي كناتشبول-هوجيسن” و نظرا لأن ” إلياس بازنا ” كان لا يستطيع التحدث باللغة الإنجليزية أو قراءتها فلم يكن لديه أي فكرة عما كانت تحتويه تلك الصفحات التي قام بتصويرها لذلك تواصل مع الألمان الذي بدا لهم الأمر أنه ذات قيمة لأن السفير “فرانز فون بابن” شخصيا كان هو المفوض بدفع المبلغ الذي تم الإتفاق عليه و البالغ 20 ألف جنيه إسترليني أي ما يقرب من 1.4 مليون دولار أمريكي بأسعار اليوم للمجموعة الأولى من تلك الوثائق مع الإتفاق بأنه سيتم دفع 15 ألف جنيه إسترليني لكل عملية بيع وثائق إضافية و فور تلقي ” بازنا ” ذلك المبلغ قام بإخفائه تحت السجادة في غرفته بالسفارة البريطانية .
و لحسن حظ الجاسوس ” إلياس بازنا ” أن عمله أصبح سهلا و ذلك من خلال إهمال السفير البريطاني لقواعد الأمن حيث كان من المفترض أن يتبع الدبلوماسيين البريطانيين لوائح صارمة للغاية لحماية المستندات الحساسة بما في ذلك إبقائها في خزائن مغلقة داخل مكاتبهم الرسمية الخاضعة للحراسة و مع ذلك كان يفضل السير “هوجي” إصطحاب عمله إلى المنزل و الإحتفاظ بتلك الوثائق السرية داخل خزانته الشخصية و نظرا لأن ” إلياس بازنا ” كان صانع أقفال محترف إضافة إلي ثقة السير “هوجي” به فلم يواجه أي مشكلة في صنع قوالب من مفاتيحها خلال وجود رب عمله داخل الحمام لصناعة نسخ منها لاحقا و بمجرد أن أدرك السفير الألماني “فون بابن” مدى أهمية مصدره الجديد و الوثائق التي يقوم بتصويرها قرر أن الأمر يستحق الأموال التي يتلقاها ذلك الجاسوس الذي أطلق عليه إسم كودي و هو ” شيشرون ” .
و كانت أول الوثائق التي قام ” إلياس بازنا ” ببيعها إلي الألمان هو محضر مؤتمر موسكو الثالث الذي إلتقى فيه كبار قادة الحلفاء لمناقشة التقدم و التخطيط للحرب و هذا معناه أن معلوماته كانت تتعلق بالقيادات العليا ثم واصل عمله التجسسي بالتزامن مع التظاهر بالإخلاص في العمل مع السفير البريطاني الذي كان يحرص علي العزف بالبيانو أمام الضيوف وسط غناء من ” بازنا ” و في أواخر عام 1943 تمكن من إلتقاط صور لعشرات الوثائق الأخري التي حملت علامة “سري للغاية” و كان بينها تفاصيل تتعلق بأن الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” قد أثار فكرة إستسلام “ألمانيا” غير المشروط كخيار وحيد للسلام بالإضافة إلى بعض من تفاصيل مؤتمرات “موسكو” و “طهران” و “القاهرة” و نظرًا لعدم تمكنه من قراءة اللغة الإنجليزية فقد كان يقوم بإلتقاط صور لكل شيء يمكنه الحصول عليه من قائمة عيد الميلاد الخاصة بالسفير إلى المراسلات الخاصة مع الملك “جورج السادس” .
و خلال عمل ” إلياس بازنا ” المستمر فى النشاط التجسسي بدأت الأجهزة الأمنية التابعة للحلفاء في ملاحظة وجود تدفق مستمر للمعلومات في ديسمبر 1943 لدرجة أن ذلك الجاسوس قد صور وثيقة موجهة إلي السفير البريطاني لتحذيره من وجود تسرب للمعلومات من داخل سفارته و عندما وصل ضباط مكافحة التجسس البريطاني لمقابلة موظفي السفارة و إجراء بعض من التحقيقات معهم أفلت “إلياس بازنا” من شكوكهم لأنهم أعتقدوا أن ذلك الخادم كان غبيًا جدًا بحيث لا يمكن أن يكون جاسوسًا جيدًا إضافة إلي أنه لم يتحدث الإنجليزية أو يفهمها بأي حال من الأحوال .
و وصلت درجة الثقة في المعلومات التي يرسلها الجاسوس ” إلياس بازنا ” إلي أن النازيين كانوا يعتزمون إرسال قوات من الكوماندوز الخاص إلي مؤتمر ” طهران ” و ذلك لإغتيال الزعيم البريطاني “ونستون تشرشل” و السوفيتي “جوزيف ستالين” و الأمريكي “فرانكلين روزفلت” تحت إسم كودي و هو ” عملية الوثب الطويل ” إلا أنه لم يتم تنفيذها مطلقا إضافة إلي وجود شكوك في أنها كانت موجودة بالأساس و رغم أهمية ما كان يرسله ذلك الجاسوس إلا أنها فقدت قيمتها نتيجة الإقتتال البيروقراطي الذي إتسم به النظام النازي حيث كره السفير الألماني “فون بابن” رئيسه ” فون ريبنتروب ” الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية و كان يكره الإثنان “إرنست كالتنبرونر” رئيس الشرطة السرية الذي كان يغار من سيطرة جهاز الأمن الخاص على عملية شيشرون لذلك عمل على إعاقتها كما أن العديد من القادة الألمان نظرا لما تحتويه تلك الوثائق من أسرار خطيرة مع سهولة الحصول عليها بدأوا فى التشكك من مدي مصداقيتها .
و ربما يعد ذلك من حسن الحلفاء لأنه إذا كان الألمان قد أولوا إهتماما أكبر بالوثائق التي كان يرسلها الجاسوس ” إلياس بازنا ” لربما كانوا قد لاحظوا أنه فى أواخر عام 1943 بدأت كلمة واحدة تظهر في تلك الوثائق بشكل متكرر و هو ” أوفرلورد ” و التي تشير إلى الغزو المخطط لأوروبا الغربية و حين علم الجاسوس معناها أرسل إلي ” برلين ” للإبلاغ عن شكوكه لكنه لم يتلق منهم رد إيجابي و في 6 يونيو عام 1944 بدأ الحلفاء في إنزال أكثر من مليوني جندي على شواطئ نورماندي معلنين بذلك بداية نهاية الحكم الفاشي في أوروبا و لتدفع ” ألمانيا ” ثمن تجاهل التحذيرات و الأدلة التي حصلوا عليها من ” إلياس بازنا ” و نشروا القوات في المناطق الخطأ لتلحق بهم الهزيمة في النهاية .
أقرأ أيضا : ريتشارد سورج .. الجاسوس الذى أستطاع تغيير مسار الحرب العالمية الثانية
و بدأت مرحلة إنتهاء عمل ” إلياس بازنا ” كجاسوس مع قرب نهاية الحرب حين شعر أنه أصبح من الصعب جمع المعلومات بعد الأن نتيجة تشديد الإجرائات الأمنية داخل السفارة البريطانية لذلك قدم إستقالته و غادر السفارة إلى الأبد ليكتشف بعد ذلك أن أكثر من 300 ألف جنيه إسترليني كان قد حصل عليهم من الألمان كانت بلا قيمة و مزورة و لكن بصرف النظر عن نشر مذكراته أمضى ” إلياس بازنا ” معظم ما تبقى من حياته في غموض حيث عمل كحارس ليلي في “ميونيخ” حتي توفي مفلسا في 21 ديسمبر عام 1970 عن عمر يناهز 66 عامًا بعد أن رُفض التماسه من الألمان الغربيين للحصول على معاش تقاعدي .