خلال الحرب العالمية الثانية عرف عن ظباط أجهزة الأمن الألمانية و خاصة الجستابو بأنهم أفراد ذو كفاءة مهنية عالية و مع ذلك كان لهم صفات سيئة السمعة لقسوتهم الشديدة أثناء التحقيقات و إتباعهم لأساليب وحشية في إنتزاع الإعترافات لذلك لم يكن كلاوس باربي الظابط في ذلك الجهاز إستثناءً من تلك القاعدة بعد أن قام بالكثير من جرائم الحرب أثناء عمله في فرنسا خلال فترة الإحتلال الألماني لأراضيها لدرجة أنه تم وصفه بإسم جزار ليون حيث لم يكتفي بإرسال اليهود الفرنسيين إلى معسكرات الإعتقال فحسب بل قام أيضًا بتعذيبهم بوحشية شديدة و معهم مقاتلين من المقاومة الفرنسية و الغريب أنه رغم جرائمه أفلت من محاكمات نورمبرج التي عقدت بعد إنتهاء الحرب عقب هزيمة ألمانيا و الأغرب أنه بدلاً من تعقبه لإعتقاله قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بتجنيده للعمل لصالحها كجاسوس لمواجهة الشيوعية خلال فترة الحرب الباردة .
فمع إندلاع الحرب العالمية الثانية و عقب إجتياح القوات الألمانية للأراضي الفرنسية كان من الطبيعي أن تظهر حركات مقاومة لذلك الإحتلال و التي كانت تقوم بشن هجمات مفاجئة علي الجنود الألمان المتواجدين في ” فرنسا ” و تكبيدهم خسائر فادحة و كانت تلك العمليات تتم بإحترافية شديدة إعتمادا علي تكتيكات حروب العصابات و إستخدام المتفجرات كما قاموا أيضا بتخريب القطارات و الجسور لمنع الجيش الألماني من الإستفادة بها و ردا علي تلك العمليات و في عام 1942 تلقي الظابط ” كلاوس باربي ” البالغ من العمر أنذاك 29 عاما أوامر بأن يصبح رئيسًا جديدًا للشرطة السرية النازية في مدينة “ليون” الفرنسية و نظرا لكفائته كان من المتوقع أن يقضي على حركات المقاومة في تلك المدينة بشكل كامل نتيجة إمتلاكه لخبرات في التعامل مع الفرنسيين حيث تنحدر عائلته من منطقة “سار” الألمانية المجاورة للحدود الفرنسية بالإضافة إلي خبراته الأمنية المتراكمة بعد أن أنضم إلى الحزب النازي كعضو بجهاز الأمن في سبتمبر عام 1935 و أثبت من خلال عمله أنه قاتل لا يرحم .
و نتيجة المسئولية الموكولة إليه كانت إستراتيجية ” كلاوس باربي ” من أجل تحقيق النتائج المرجوة هي القسوة و لا شيئ غيرها لذلك كانت لديه غرف تعذيب تحتوي على طاولات ذات قيود و أفران و أدوات للصعق بالكهرباء و كان في بعض الأحيان يقوم بنفسه بتعذيب المعتقلين سواء بقبضتيه العاريتين أو بإستخدام السياط و الهراوات و كان يأتي دائمًا إلي المسجون و هو علي وجهه إبتسامة رقيقة ثم بعدها يقوم بتحطيم وجهه بالإضافة إلي تعريض ضحاياه للعض من قبل الكلاب مع كسر أذرعهم و أقدامهم في كثير من الأحيان و نتيجة تلك الأفعال الوحشية أطلق عليه لقب ” جزار ليون ” و التي رغم وحشيتها إلا أنها كانت فعالة حيث نجح في أسر العديد من أعضاء المقاومة الفرنسية و تعذيبهم و قتلهم و كان من أشهر ضحاياه “جان مولان” زعيم المقاومة الفرنسية الذي تعرض لتعذيب لا يطاق من إقتلاع للأظافر و حقن بالإبر و كسر أصابعه في مفصل الباب و مع ذلك لم يكشف أبدا عن أي معلومات لجزار ليون و توفي في 8 يوليو عام 1943 داخل محبسه متأثرا بالضرب و التعذيب و لم يكن هذا أسوأ ما في الأمر لأنه قام بإعتقال 44 تلميذا يهوديًا و إرسالهم إلى معسكر أوشفيتز ليواجهوا مصيرهم هناك داخل غرف الغاز النازية .
و مع إنتهاء الحرب و هزيمة ” ألمانيا ” بدأت الإعتقالات في صفوف قيادات الجيش و الأمن الألمانيين و تقديمهم إلي المحاكمة بتهم إرتكاب جرائم حرب لكن ” كلاوس باربي ” تمكن من الهروب من العدالة بعد أن تنكر بتغيير ملابسه و تغيير هويته بأوراق مزورة حصل عليها من مقر الشرطة و يتوجه عبر الغابات و المراعي نحو أرض “ساورلاند” و مع مرور الأيام نفدت أمواله و أصبح متسولا لكن حظه قد تغير للأفضل مع دخول العالم لمرحلة الحرب الباردة فعلى الرغم من أن محاكمات نورمبرج كانت تهدف في المقام الأول إلى تحقيق العدالة إلا أن “الولايات المتحدة” و معها دول غربية أخري رأت أن النازيين قد يصلحون أن يكونوا رؤوس حربة محتملة ضد عدوهم الجديد “الإتحاد السوفيتي” صاحب الأيديولوجية الشيوعية و لذلك في عام 1947 أعدت الأجهزة الامنية الأمريكية ملفًا عن شخصية ” كلاوس باربي ” و تم تزكيته بإعتباره مناهض للشيوعية بشدة و سيكون مفيد جدا لهم .
و منذ ذلك الحين قام الأمريكيين بتجنيد ” كلاوس باربي ” ليكون عميلهم ضد الشيوعية رغم رغبة الفرنسيين بإعتقاله و محاكمته نظير جرائمه الوحشية بحقهم لذلك في أعوام 1949 و 1950 طلبوا رسميًا من ” الولايات المتحدة ” أن تقوم بإعتقاله و تسليمه إلى “فرنسا” لمواجهة العدالة و لتجنب الحقيقة المحرجة بتورطهم معه ردت عليهم الحكومة الأمريكية بأنها ليست على علم بمكانه لأنهم كانوا في حاجة ماسة إليه حيث كان ” كلاوس باربي ” و خبراته بالنسبة إلي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كنز قيم و بسبب خشيتهم من إنتشار الشيوعية في دول أمريكا الجنوبية فلم تكن لديهم أي مشكلة في حماية النازيين طالما سيحققون لهم النتائج المرجوة و لذلك ساعدته وزارة الجنسية و الهجرة علي الهروب هو و عائلته من أوروبا عبر مدينة جنوة الإيطالية الساحلية و من هناك سافر إلى “الأرجنتين” ثم أنتقل إلي “بوليفيا” من أجل البدء في حياة جديدة .
و في ” بوليفيا ” أستفاد “كلاوس باربي” من تجربته الوحشية في الجستابو من خلال الإنخراط في أعمال التجسس و تجارة الأسلحة و العمليات السرية الأخرى نيابة عن “الولايات المتحدة” حيث حافظ على إتصال دائم مع المخابرات المركزية التي تم تشكيلها حديثًا لضمان حمايته و بدورها أعتمدت عليه هي الأخري في تقديم الدعم للحكومات و الجماعات اليمينية في أمريكا الجنوبية لمواجهة الشيوعية و بعد فترة وجيزة بدأ العميل النازي السابق في إثبات كفائته و في نفس التوقيت حكمت الحكومة الفرنسية على ” كلاوس باربي ” بالإعدام غيابيا حيث كان وقتها بعيدًا جدًا عن هويته القديمة بعد أن حصل على الجنسية البوليفية تحت إسم جديد و هو “كلاوس ألتمان” عام 1957 و خلال فترة وجوده بها شارك في سلسلة من الإنقلابات العسكرية التي رعتها وكالة المخابرات المركزية حتي قيل أنه أمتلك رتبة عسكرية داخل الجيش البوليفي في ظل خلافة الديكتاتوريين البوليفيين خلال الفترة من عام 1964 و حتى 1982.
و يزعم أن ” كلاوس باربي ” قد ساهم في إنشاء معسكرات إعتقال لمعارضي الجيش البوليفي حيث فيها أعاد إحياء تقنيات التعذيب القديمة كما أنه ساعد في تشكيل فرق الموت لتنفيذ العديد من عمليات الإغتيال و وفقًا لما قاله العميل السري في إدارة مكافحة المخدرات “مايكل ليفين” فإن أفرادها الذين كانوا يمارسون جرائمهم و هم مقنعين لم يكونوا بوليفيين بل قادمين من “ألمانيا” و “إيطاليا” و “فرنسا” و كان الكثير منهم يرتدون صليب معقوف على زيهم الرسمي و بدا الأمر و كأن “كلاوس باربي ” يؤسس نظامًا نازيًا جديدًا في “بوليفيا” و ساعدته “الولايات المتحدة” على القيام بذلك و في الآونة الأخيرة قيل أنه ساعد المخابرات الأمريكية في القضاء على “تشي جيفارا” أحد أشهر الثوريين الماركسيين و الذي ساعد “فيدل كاسترو” على تولي السلطة في “كوبا” و يُعتقد أنه قُتل و دُفن في قبر غير مميز في جمهورية الدومينيكان حيث تداول أن الإستخبارات الأمريكية قد تفاجئت بأن الحكومة البوليفية قد تعقبت “جيفارا” في جبالها و وفقًا لإحدى النظريات فإن معرفة “باربي” بتكتيكات حرب العصابات منذ أيامه التي قاتل فيها الثوار الفرنسيين في “ليون” ربما كانت مصدرًا حاسمًا في القبض عليه .
و بعيدا عن كونه عميل إستخباري فقد كان ” كلاوس باربي ” أيضًا رجل أعمال فمن خلال دعم من وكالة المخابرات المركزية أدار عدد من الأنشطة الغير قانونية مثل تجارة السلاح و تهريب الكوكايين بالشراكة مع “فريدريك شويند” الذي كان نازي سابق هو الأخر و كان له علاقات مع عصابات المخدرات في أمريكا الجنوبية و يُزعم أن أحد أشهر عملاءه هو “بابلو إسكوبار” و الذي كان يزوده على الأرجح بالأسلحة لكن أقرب حليف له كان تاجر المخدرات الملياردير “روبرتو سواريز جوميز” و الذي ساعده “كلاوس باربي” في تنصيب الجنرال “لويس جارسيا ميزا تيجادا” كزعيم دمية لبوليفيا عام 1980 في سابقة تعد هي الأولي من نوعها التي يتم فيها تمويل حكومة بأكملها و السيطرة عليها بأموال الكوكايين و مع ذلك في عام 1982 إنهارت ديكتاتورية “تيجادا” العسكرية و عند هذه النقطة كان “باربي” عرضة للخطر حيث كان قد تم تعقبه بالفعل في السبعينيات من قبل الصحفية الألمانية “بيات أوجست كلارسفيلد” و التي قامت مع زوجها “سيرج” بدور “صيادين نازيين” تنحصر مهمتهم في تعقب العملاء النازيين السابقين لتقديمهم للعدالة .
أقرأ أيضا : العملية بيبركليب .. البرنامج السري الأمريكى لتجنيد 1600 عالم نازي للمساهمة فى تطوير برامجها التكنولوجية
و بمجرد أن نما لعلم “فرنسا” بوجود ” كلاوس باربي ” في “بوليفيا” قامت بالدعوة إلي تسليمه بداية من عام 1973 و لكن كان يتم رفض طلبهم و مع تبدل الحال بوجود حكومة ديمقراطية ليبرالية في السلطة لم يعد محميا كما كان في السابق و لذلك تم تسليمه عام 1983 و تعاد محاكمته و يحكم عليه بالسجن مدى الحياة لإرتكابه جرائم ضد الإنسانية و في سبتمبر عام 1991 توفي ” كلاوس باربي ” عن عمر يناهز 77 عامًا نتيجة إصابته بمرض السرطان ليسدل الستار علي حياة جزار ليون الذي أصبح في يوم من الأيام واحدا من أهم عملاء المخابرات الأمريكية .