خلال الحروب يعتبر القتال الجوي مثل القتال البحري له العديد من المخاطر المرتبطة به و التي تنشأ من حقيقة أن المشاركين في تلك المعارك بعيدون كل البعد عن بيئتهم الطبيعية التي يعيشون فيها و هي الأرض لذلك فإذا كنت على بعد آلاف من الكيلومترات في البحر أو على إرتفاع بضعة كيلومترات في الهواء فإنك تخاطر بالموت ليس فقط من أسلحة عدوك و لكن أيضًا من الخطر الكامن في السقوط من أعلي السماء أو في وسط المحيط الذي لا يرحم و في حين أنه تم إختراع بعض من الوسائل للتخفيف عن تلك المخاطر مثل قوارب النجاة و المظلات لكن حال فشلهم فيكون الموت حتميا إلا إذا حدثت معجزة من نوع ما و كتبت لذلك الشخص النجاة كما حدث مع نيكولاس ألكميد الذي خدم في سلاح الجو الملكي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن قفز بدون مظلة من طائرته المحترقة علي إرتفاع 5.5 كيلومتر و رغم ذلك كتبت له النجاة .
وُلد نيكولاس ألكميد عام 1922 في “نورفولك” بإنجلترا و كان يعمل بستانيًا قبل الإنضمام إلي سلاح الجو الملكي البريطاني حين اندلعت الحرب العالمية الثانية حيث تم إلحاقه بالعمل علي أحد المدافع الجوية الخلفية المثبتة علي القاذفات و بعد الإنتهاء من تدريبه خدم كقائد مدفعي في سرب سلاح الجو الملكي رقم 115 و كان جزءًا من طاقم قاذفة من طراز ” أفرو لانكستر أم كيه ” التي كانت قادرة على حمل أضخم القنابل التي أستخدمها سلاح الجو الملكي خلال الحرب و غالبًا ما كانت تطير تلك القاذفات في مهام ليلية حتي أنه أطلق علي طاقم طائرة ” نيكولاس ألكميد ” لقب المذئوبين .
و خلال الحرب قام ” نيكولاس ألكميد ” بأربعة عشر مهمة ناجحة مع طاقم تلك القاذفة المكون من سبعة أفراد و في ليلة 24 مارس عام 1944 كانوا جزءًا من غارة أستهدفت العاصمة الألمانية “برلين” و نجحوا في تنفيذ مهمتهم علي أكمل وجه و لكن أثناء رحلة العودة أخذتهم الرياح العاتية بعيدا عن مسارهم و أنتهى بهم الأمر بالتحليق فوق منطقة الرور التي كانت بها دفاعات ألمانية عالية التركيز من مضادات الطائرات و فوق ذلك تمت مهاجمة القاذفة من قبل طائرة مقاتلة ليلية ألمانية و نتيجة الإشتباك معها حدثت العديد من الأضرار التي أدت إلي تدمير جناح و هيكل القاذفة و تشتعل فيها النيران و بدا من الواضح أن الأمر أصبح من الصعب السيطرة عليه لذلك أمر الطيار الطاقم بإرتداء مظلاتهم إستعدادًا للخروج منها .
و أثناء تلك اللحظات كان ” نيكولاس ألكميد ” بمفرده داخل برجه في الجزء الخلفي من القاذفة و التى وصلتها النيران أيضا و من شدة الحرارة بدأ قناع الأكسجين المطاطي المثبت علي وجهه في الذوبان كما بدأت ذراعيه في الإحتراق و خلال ذلك كان يستميت و هو مذعورا بحثًا عن مظلته و حين عثر عليها أخيرا أصيب بلحظة من الرعب الشديد عندما وجدها مشتعلة فيها فيها النيران هي الأخري لذلك أصبح أمام خيارين كلاهما مر و هو إما الحرق حتى الموت أو السقوط من أعلي و أيضا حتى الموت و لضيق الوقت إتخذ القرار و كان الخيار الثاني بعد أن أقنع نفسه بأنه من الأفضل أن يعاني من رعب السقوط القصير و تكون حينها نهاية سريعة و رحيمة عن المعاناة من عذاب الحرق في النار لذلك قفز من الطائرة المحترقة دون مظلته و سقط بسرعة 193 كيلومتر في الساعة و من إرتفاع يقترب من 5.5 كيلومتر و خلال سقوطه نظر إلى السماء المرصعة بالنجوم و الطائرة المحترقة التي قفز منها للتو ثم فقد وعيه .
بعد ذلك كان من الطبيعي أن يلقي ” نيكولاس ألكميد ” مصرعه و لكن من المثير للدهشة أنه أستيقظ بعد ثلاث ساعات ليجد نفسه مستلقيًا في ثلوج عميقة داخل غابة من الصنوبر و كان من الواضح أن أشجارها الصغيرة المرنة قد أبطأت من نزوله بدرجة كافية ساعدت علي أن تكون الثلوج قادرة علي تخفيف سقوطه و إمتصاص الصدمة و الغريب أنه لم يكسر له أي عظام لكنه أصيب بإلتواء في ركبته بالإضافة إلى عدد من الحروق الناجمة من النيران التي كانت في القاذفة كما كانت هناك قطع بلاستيكية رقيقة مغروسة في جلده و رغم نجاته من السقوط إلا أن مسألة بقاءه علي قيد الحياة كانت لا تزال غير مضمونة باقي الليل حيث كانت ركبته تعاني من آلام شديدة لدرجة أنه لم يتمكن من المشي بها كما بدأ البرد القارص و إنخفاض درجات الحرارة في المكان بالتأثير عليه بشكل سلبي .
و لمحاولة فعل أي شئ قام ” نيكولاس ألكميد ” بإطلاق نداء إستغاثة و التي جذبت إنتباه بعض من المدنيين الألمان حيث تم نقله إلى مستشفى “ميشيد” و عولجت جروحه و عندما أصبح جيدًا بما يكفي للتحدث تم إستجوابه من قبل الجستابو حيث أخبرهم بقصته لكنهم رفضوا تصديق أنه تمكن من النجاة من هذا الإرتفاع بدون مظلة و أصروا على أنه دفن مظلته في مكان ما و أنه كان جاسوسًا لكن عندما أرسلوا رجالًا لتمشيط موقع الهبوط بالإضافة لعثورهم علي حطام القاذفة أندهشوا عندما وجدوا بالفعل بقايا مظلته لا تزال موجودة داخلها و سرعان ما أنتشرت أخبار تلك المعجزة داخل الجيش الألماني نفسه و ألتقى بعدد من ضباط القوات الجوية الألمانية الذين أرادوا أن يسمعوا قصته و قفزته العجيبة و مع ذلك فإن هذا لم يكسبه أي معاملة خاصة لدي الألمان و مثل أي جندي أسير من الحلفاء تم إرساله إلى معسكر الإعتقال سيئ السمعة Stalag Luft III .
أقرأ أيضا : جيمس وارد .. الطيار الذى انقذ قاذفته بعد تسلقه لجناحها المحترق لاطفاءه و هى على ارتفاع أربعة كيلومترات
و يبدو أن الحظ الحسن كان مرافقا لـ ” نيكولاس ألكميد ” فمع قرب إنتهاء الحرب تم إجبار نزلاء ذلك المعسكر من الأسري و البالغ عددهم أكثر من 10000 شخص على قطع مئات الكيلومترات عبر شمال “ألمانيا” و في وسط عاصفة ثلجية إنخفضت خلالها الحرارة إلي -22 درجة مئوية و تسببت في وفاة الكثيرين منهم لكنه نجا من ذلك و تم تحريره في النهاية و بعد إنتهاء الحرب عمل ” نيكولاس ألكميد ” في مجال الصناعات الكيماوية في “المملكة المتحدة” و عاش حتى سن 64 إلي أن وافته المنية في يونيو عام 1987 .