تمتلئ كتب التاريخ بالعديد من الأوقات العصيبة التى مرت على العالم نتيجة إنتشار العديد من الأمراض و الأوبئة التى فتكت بحياة الملايين بسبب وجود فيروسات مميتة او أنواع من البكتيريا المدمرة و لكثير من الوقت سعى العلم لمحاربة تلك الأمراض عن طريق دراسة مسبباته و معرفة نقاط ضعفه من أجل الوصول الى لقاحات أو أدوية لها و نجح بالفعل فى القضاء على بعضها و لا يزال يحاول الأن مع الأخر و مع ذلك توجد أنواع غامضة من الأوبئة التى لم يتم التوصل الى حلول لها لأن العلماء لا يستطيعون فهمها أو تفسيرها بالأساس و هو ما حدث حين سقطت فرنسا ضحية وباء حب التجول و الذى يبدو أنه كان معديا فى أواخر القرن التاسع عشر بعد أن وجد العشرات من الرجال أنفسهم يتجولون حول أوروبا في شرود و يعبرون الحدود و حتى القارات مع عدم وجود وجهة واضحة ليستيقظون و يجدون أنفسهم محتجزين إما في حجز الشرطة أو مصحة عقلية و لا يتزكرون ماذا حدث لهم أو كيف وصلوا الى تلك النهاية .
و أستمر وباء حب التجول داخل “فرنسا ” لما يقرب من عقدين من الزمن بداية من عام 1886 و حتى عام 1909 حيث أصبحت فيها البلاد مرتعا للسياح المرضى و كانت أول حالة مسجلة لذلك المرض لرجل يدعي “جان ألبرت داداس” الذى ولد عام 1860 حيث تقول قصته أنه عندما بلغ سن الثامنة سقط من أعلى شجرة أدى ذلك الى اصابته بارتجاج في المخ و نوبات من القيء و الصداع النصفي و هي إصابة يعزوها علماء النفس المعاصرين إلى أنها ربما تكون هى من حفزت ولعه المميز للسفر الذى بدأ عند بلوغه سن الثانية عشرة حين اختفى ذات يوم بعد أن كان يتم تدريبه فى أحد المصانع التابعة لشركة الغاز التى يعمل بها ثم يعود إلى الظهور مرة أخرى في بلدة مجاورة حيث يقول المؤرخين أنه عندما توصل اليه شقيقه وجده يساعد بائع مظلات متنقل و عندما واجهه شعر كما و لو أنه يستيقظ من نوم عميق و لم يكن لديه أي فكرة عن مكان وجوده أو لماذا كان ينقل المظلات لشخص غريب .
و كانت حادثة المظلة تلك هى الحلقة الأولى في اصابته بما يعرف وباء حب التجول الذى لا يمكن تفسيره فخلال معظم حياته اليافعة كان يغيب ” داداس ” عن الوعي و يسافر بشكل عفوي و يجد نفسه يستيقظ على مقاعد باريسية أو على القطارات المتجهة إلى مدن لم يزرها من قبل و غالبًا ما كان يتجول بعيدًا لدرجة أنه كان يضطر إلى العمل في وظائف غريبة لكسب المال من أجل العودة إلى منزله حيث أستقل مرة سفينة توجهت إلى “الجزائر” و عندما استفاق اضطر الى تنظيف الأواني في مطبخ سفينة عائدة إلى “فرنسا” ثم اعتقل في نهاية المطاف بمدينة “إيكس” حيث كان يعمل كعامل زراعي غير مسجل و بعد سلسلة من حالات الشرود تلك و التى كانت تصل أحيانا للسير 70 كيلومترا يوميا عاد إلى منزله و عمله في شركة الغاز و بدأ في صنع اسم لنفسه كسائح مغرم بالصدفة .
بعد ذلك بدأت رحلة “داداس” الأكثر إثارة مع وباء حب التجول في عام 1881 عندما انضم إلى الجيش الفرنسي و هجره بالقرب من مدينة “مونس” و اتجه شرقا و مر عبر “تشيكوسلوفاكيا” و “ألمانيا” و “روسيا” و كل ذلك سيرًا على الأقدام و خلال مروره فى “ألمانيا ” أوقعته عضة كلب مسعور في المستشفى و مع ذلك كان توقيت وجوده مروعًا حيث تم اغتيال القيصر للتو و ألقى القبض على “داداس” المجهول هويته في السجن و بعد ثلاثة أشهر أنتقل إلى تركيا حيث منحه القنصل الفرنسي ما يكفي من المال لشراء تذكرة قطار من الدرجة الرابعة ليعود “داداس” إلى بلاده و عمله فى مصنع الغاز و تستمر معاناته مجددا حيث وجد نفسه عام 1886 في مستشفى “سانت أندريه” في مدينة “بوردو” حيث وقع في رعاية الطبيب النفسي الشاب “فيليب أوجست تيسي” و الذى أصبح مهووسًا بهذا المريض الغريب حيث شخّصه بأنه مصاب بهوس يطلق عليه اسم “دروموس ” أى الرغبة التي لا يمكن السيطرة عليها للتجول أو السفر و سرعان ما علم الطبيب النفسي أن “داداس” لا يمكنه أن يتذكر رحلاته المجنونة بين المدن و البلاد كما و لو أنه تحت تأثير التنويم المغناطيسي و لكنه أخبر الطبيب أنه تعلم حال وجوده في أي مدينة يصل اليها فعليه أن يجد القنصل الفرنسي و يطلب منه ما يكفي من المال للحصول على تذكرة قطار للعودة الى الوطن ثم يستخدم هذا المال للسفر إلى مدينة جديدة تمامًا حيث كان على عكس المتجولين المعاصرين لم تكن رحلاته لاكتشاف الذات و لكن بدلاً من ذلك كانت سلسلة من المحاولات غير المجدية بشكل منهجي للقضاء على الذات .
لكن قد لا يكون هذا هو الحال بالنسبة لجميع الرجال الذين خضعوا للتشخيص بعده حيث بدأ ينتشر وباء حب التجول بين الناس و بدأ يلفت الإنتباه خاصة أنهم لم يكونوا من المتشردين الذين اعتبرتهم “فرنسا” مصدر تهديد للمجتمع بل على العكس كانوا رزينين و نظيفين و متواضعين و ربما ليسوا من الطبقة الوسطى و لكن من الفقراء العاملين حيث أستمر الوباء حب التجول لما يقرب من عقدين من الزمن و أعتبره الاطباء وقتها نوعًا مفاجئًا و جديدًا من الجنون و وضعوا بعض من التفسيرات لكيفية الإصابة به و التى تراوحت لرغبة الرجال فى ترك عائلاتهم أو كمحاولة انسانية من الاطباء العسكريين فى انقاذ بعض الفارين من الجيش لتفادى الحكم عليهم بالاعدام أو المعاناة من نوبة فقدان الذاكرة ربما بسبب إصابة في الرأس كما حدث مع ” داداس ” .
أقرأ أيضا : وباء الرقص .. قصة جائحة غامضه أجبرت المصابين بها على الرقص و أدت الى وفاة الكثير منهم
و لحسن الحظ أختفى وباء حب التجول بعد العقد الأول من القرن العشرين حيث أدت التوترات الزاحفة نجو الحرب العالمية الأولى إلى قيام الدول الأوروبية بإغلاق حدودها فى وجه بعضها البعض و حظر رحلات القطار السهلة مما جعل التجول بينهم ليس بالأمر السهل اما بالنسبة الى ” داداس ” فقد تمكن من الزواج و البقاء على قيد الحياة خلال كل هذا ثم ماتت زوجته في النهاية بسبب مرض “السل” و تم تبني ابنتهما “مارجريت” من قبل عائلة محلية من البستانيين حيث كان يزورها بين كل تجول و أخر الى أن اختطفت بشكل مأساوي و بعدها تم العثور على “داداس” نفسه ميتًا في بئر و تنتهى حياة واحد من أشهر المتجولين فى القرن العشرين .