ليس معني كونك جندي مقاتل أن تنتزع منك الإنسانية بل علي العكس فالعديد من الحروب تخاض بالأساس من أجل الدفاع عن تلك القيم و رغم إعلان الولايات المتحدة مشاركتها في حرب فيتنام تحت لواء تلك الشعارات إلا أن قواتها إرتكبت العديد من الفظائع بحق المدنيين و لكن لحسن الحظ كان من بين أفرادها العديد ممن يؤمنون بالإنسانية فعلا و ليس قولا و من بينهم الطيار الأمريكي هيو طومسون الذي هدد زملائه الجنود بأنه سيطلق النار عليهم إذا لم يتوقفوا عن قتل المدنيين الذين كان معظمهم من النساء و الأطفال خلال مذبحة ماي لاي عام 1968 و ذهابه إلي أبعد من ذلك حين سعي لإدانة جميع الظباط و الجنود المتورطين في تلك المذبحة رغم الضغوط التي واجهها من قياداته لإثناءه عن تلك الخطوة .
بدأت مذبحة ماي لاي عندما أعلن الجيش الأمريكي أن كل فرد يسكن في منطقة واسعة من ” فيتنام ” هو إما جزء من الفيتكونج أو من المتعاطفين معهم لذلك وصلت وحدة ” تشارلي ” إلي تلك المنطقة و معهم أوامر صريحة بتدمير القرية عن بكرة أبيها لذلك في صباح يوم 16 مارس عام 1968 و حين كان سكان بلدة ” ماي لاي ” يتناولون وجبة الإفطار أقتحم الجنود المكان عليهم و أمر الظابط المسئول عن الوحدة ” ويليام كالي ” بإعتقال سكانها و لم يبدي القرويين أي مقاومة عندما دفعهم الجنود الأمريكيين إلى حفرة ثم فتحوا النار عليهم من بنادقهم الآلية .
و أثناء وقوع المذبحة كان الطيار ” هيو طومسون ” يطير بمروحيته و معه طاقمه فوق المكان لتقديم الدعم الجوي إن تطلب الأمر و كانت شهادته عن تلك اللحظات بأنه واصل الطيران ذهابًا و إيابًا و لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى بدء في ملاحظة أعداد كبيرة من الجثث منتشرة في كل مكان من بينهم رضع بعمر عامين و أطفال بأعمار ثلاثة و أربعة و خمس سنوات إضافة إلي جثامين نساء و رجال كبار في السن و لم يكن هناك أي أشخاص في سن التجنيد على الإطلاق و من الجو أدرك ” هيو طومسون ” و طاقمه المكون من شخصين أن الجنود الأمريكيين كانوا يذبحون المدنيين الأبرياء و بدأوا في التفكير فيما يحدث في الأسفل لأنهم لم يرغبوا في قبول هذه الفكرة المريعة لأنهم إذا قبلوها فهذا معناه أن إخوانهم الأمريكيين الذين هم يحلقون لحمايتهم في الجو كانوا يقومون بشيء شرير للغاية علي الأرض .
و من مروحيته لم يتمكن ” هيو طومسون ” من التواصل مع القوة الموجودة على الأرض و يقول ” لاري كولبورن ” الذي كان أحد أفراد طاقم المروحية بأنه عندما تأكد ” هيو ” من أن أفرادنا هم من يقومون بعملية القتل عرف أنه يتعين عليه إتخاذ إجراءات صارمة و بالفعل هبط بطائرته المروحية بالقرب من خندق كان يضم 150 شخصًا و العديد منهم قد ماتوا لكن آخرين كانوا قد أصيبوا و يحاولون الفرار بينما كان يقف رقيب بجانبهم و ركض ” هيو طومسون ” إليه قائلا ” هؤلاء مدنيون .. علينا مساعدتهم” و لم يرد عليه و أنتظر الرقيب حتى غادر الطيار علي مروحيته ثم أطلق النار على المدنيين العزل و يرديهم قتلي و رأه الطيار و هبط مرة أخري غاضبا لكن هذه المرة أمام خندق أخر يختبئ فيه مدنيين و من مكان قريب بدء يقترب منهم مجموعة من الجنود حاملين أسلحتهم و إلتفت الطيار إلي طاقمه و قال : “هؤلاء الناس سيموتون و لن أسمح بحدوث هذا علينا أن نفعل شيئا هل أنتم معي يا رفاق؟” .
و يقول ” لاري كولبورن عن وصف هول المشهد أن ” رؤية الناس و هم يتم تجميعهم مثل العديد من الحيوانات و يسيرون في خندق و يتم إطلاق النار عليهم هو أمر لم يراه أو يسمعه من قبل إلا في الحرب العالمية الثانية و أن الطيار أخبره أن نفس الشئ كان يدور في ذهنه و كانوا يفكرون في ألمانيا النازية و مشاهد الخنادق المحفورة و إجبار المعتقلين علي السير إليها و المقابر الجماعية لذلك وقف ” هيو طومسون ” و طاقمه بطائرتهم أمام المخبأ لحماية المدنيين و حاول قائد الفرقة إبعادهم عن الطريق لكن الطيار قال لطاقمه: “سأذهب إلى المخبأ بنفسي و أخرج هؤلاء الأشخاص و إذا أطلقوا النار عليهم أو علي أطلقوا النار عليهم!” و كان جادا في تهديده و بالفعل نجحوا في إجلاء المدنيين و وقف المذبحة و حين عاد إلي القاعدة ألقي خوذة الطيران الخاصة به على الأرض و تعهد قائلاً: “لن أطير مرة أخرى أبداً هذا ليس ما أنا هنا من أجله و ليست هذه هي الطريقة التي من المفترض أن نقوم بعملياتنا بها و لن يكون لي أي دور في هذا و سأمزق هذه الأجنحة و لن أطير مرة أخرى أبدًا ” .
و بمجرد عودته إلي القاعدة أبلغ ” هيو طومسون ” قائده عن المذبحة و أفترض أن القيادات سوف تبدء التحقيق بشكل فوري و لكن بدلاً من ذلك أخفى الجيش أمر مذبحة ” ماي لاي ” التي راح ضحيتها مئات الأبرياء من بينهم 182 امرأة و 173 طفلاً و كان من بين هذه الأعداد 17 امرأة حامل و 56 رضيعاً و لم تظهر الحقيقة إلا بعد مرور عام و نصف عندما تواصل جندي كان قد شاهد تقارير عن المذبحة مع أحد الصحفيين و هو ما دفع الجيش في فتح تحقيق و أجراء مقابلات مع ” هيو طومسون ” و طاقمه و أوصوا بتوجيه الإتهام إلى عدد من الظباط بتهمة إرتكاب المجزرة و التستر عليها و في نوفمبر عام 1970 بدأت المحاكمات و شهد الطيار ضد ” ويليام كالي ” لكن و علي عكس المنتظر دعم الكثير من داخل الجيش و الرأي العام الظابط ” كالي ” لدرجة أن ” طومسون ” تلقي تهديدات بالقتل بسبب حديثه عن المجزرة .
و أنتهت المحاكمة و كان ” ويليام كالي ” هو الشخص الوحيد الذي أدين من بين المتهمين الأربعة عشر و حُكم عليه عام 1971 بالسجن مدى الحياة بتهمة القتل العمد ثم تم تخفيضها فيما بعد إلى 10 سنوات ثم تم إطلاق سراحه المشروط بعد قضائه ثلاث سنوات فقط بعد أن خفف الرئيس الأمريكي ” ريتشارد نيكسون ” عقوبته و قال ” هيو طومسون ” أنه طوال فترة المحاكمة تلقي الكثير من التهديدات بالقتل عبر الهاتف و تعرض للعديد من المضايقات في الشارع و كان يجد جثث حيوانات ميتة و مشوهة على شرفته .
أقرأ أيضا : جيمس وارد .. الطيار الذى انقذ قاذفته بعد تسلقه لجناحها المحترق لاطفاءه و هى على ارتفاع أربعة كيلومترات
و في عام 1983 ترك ” هيو طومسون ” الجيش و أصبح طيارًا خاصًا لطائرة هليكوبتر و على الرغم من أنه عاش لفترة مع إضطراب ما بعد الصدمة و إدمان الكحول و مواجهة الكوابيس خلال نومه إلا أنه أصبح في نهاية المطاف مستشارًا للمحاربين القدامى في إدارة شؤون المحاربين القدامى في ولاية ” لويزيانا ” و في عام 1998 منحه الجيش وسام الجندي للبطولة و في الذكرى الثلاثين للمذبحة عاد “هيو طومسون” إلى قرية ” ماي لاي ” و يقول أنه قابل فيها إحدي السيدات اللائي قام بمساعدتهم في ذلك اليوم حيث سألته لماذا لم يعود الأشخاص الذين أرتكبوا هذه الأفعال معك حتي نسامحهم .