رصاصات أطلقها شاب صربي يدعي جابريلو برينسيب أسفرت عن إغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند و الذي بوفاته إشتعلت نيران قامت بتدمير الأخضر و اليابس فيما عرف بإسم الحرب العالمية الأولي و التي لم تقتصر معاركها داخل قارة أوروبا فقط و لكن أمتدت إلي جميع أنحاء العالم و خلفت ورائها ملايين من القتلي و الجرحي و سقوط إمبراطوريات ضخمة و قيام دول جديدة علي أنقاضها و رغم تسبب ذلك الشاب الصربي في إشعالها إلا أنه لم يكن الوحيد الذي ترك بصمة في تلك الحرب بعد أن برز إسم مواطن صربي أخر يدعي مومسيلو جافريتش الذي دخل التاريخ بإعتباره أصغر جندي في تلك الحرب بعد أن شارك في معاركها و هو بعمر 8 سنوات فقط و تقديرا لجهوده حصل علي العديد من الترقيات و الأوسمة نظير شجاعته في تلك الحرب .
وُلد ” مومسيلو جافريتش ” في مايو عام 1906 في تلال ” جوتشيفو ” بقرية قريبة من بلدة “لوزنيكا” غرب “صربيا” و كان الطفل الثامن لأسرة مكونة من أحد عشر طفلًا و عندما أندلعت الحرب العالمية الأولي عام 1914 بدأ الجنود النمساويين المجريين التابعين للحرس الملكي الكرواتي و الذين يشار إليهم بإسم فرقة الشيطان في ذبح آلاف السكان المدنيين في القري الواقعة في تلك المنطقة و كان من بينهم والدي ذلك الطفل و ثلاث شقيقات و أربعة أشقاء و جدته و كان سعيد الحظ لعدم ملاقاته ذلك المصير بعد أن أرسله والده الذي كان يستعد للهروب مع أسرته قبل تلك المذبحة إلى منزل عمه و لكن عندما عاد إلي منزله و رأي أسرته مقتولة بشكل مروع بجوار فناء منزلهم ركض على طول واد تلال “جوتشيفو” متجها إلي فوج المدفعية السادس التابع لفرقة “درينا” الذي كان يتمركز بالقرب من مسقط رأسه و كان يرأسه الرائد “ستيفان توكوفيتش” .
و بعد وصول ” مومسيلو جافريتش ” إلي الفوج و روايته لما حدث مع أسرته سأله الرائد ” توكوفيتش ” عما إذا كان يعرف كيفية رمي القنابل ليقوم الصبي بإلتقاط الحجارة و إلقائها متظاهرا أنها قنبلة و أعجب به الرائد و قرر تجنيده مع تعيين حارس له لحمايته يدعي ” ميلوش ميشوفيتش ” و يتم تلقيبه بإبن الفرقة و في وقت لاحق من ذلك المساء كشف ” مومسيلو جافريتش ” لوحدته عن موقع الجنود النمساويين – المجريين الذين قاموا بتلك المذبحة ليتحرك الفوج إليهم و يقوم بمهاجمتهم حيث قام ” مومسيلو جافريتش ” بالإنتقام منهم بإلقاء ثلاث قنابل عليهم و بعد وقت قصير من تلك المعركة شارك في “معركة سير” التي وقعت في أغسطس عام 1914 و أستمرت تسعة أيام كاملة و كان أطرافها الصربيين و النمساويين و المجريين و حقق الحلفاء فيها أول إنتصار رسمي لهم لكن الخسائر في كلا الجانبين كانت فادحة حيث تشير التقديرات إلى أنها تسببت في سقوط ما بين 40.000 إلى 60.000 ضحية ما بين قتيل و جريح و أسير من كلا الجانبين و بعد أن نجا الصبي من تلك المعركة تمت ترقيته إلي رتبة عريف و منحه زيًا عسكريًا مميزا و يكون بذلك أصغر عريف في التاريخ عن عمر يناهز الثامنة .
و بعد فترة وجيزة أدى الإذلال الناتج عن الخسارة في “معركة سير” إلى جعل رئيس الأركان النمساوي – المجري “هويتسندورف” يتحالف مع الجيشين الألماني و البلغاري الذين قاموا بغزو “صربيا” معًا عام 1915 و سحقوا الجيش الصربي و أدى ذلك إلى قيام الحكومة التي رفضت الإستسلام بإجلاء ما يقرب من 400.000 شخص بما في ذلك وحدة ” مومسيلو جافريتش ” بهدف الوصول إلى ساحل البحر الأدرياتيكي ثم يتم إنقاذهم من قبل سفن الحلفاء لذلك كان على كل هؤلاء الأشخاص السير عبر الجبل الألباني و المناطق الوعرة بأوروبا في منتصف شتاء عام 1915 فيما عرف بإسم “الجلجلة الألبانية” و نتيجة تلك الظروف القاسية وصل حوالي 180 ألف شخص فقط من بين 400 ألف شخص بدأوا الانسحاب إلى الساحل و يُزعم أنه أثناء المسير سقط صديقه و حارسه “ميلوش ميسوفيتش” بسبب الإرهاق و طلب منه الإستمرار بدونه إلا أن الصبي قد رفض و جلس بجوار صديقه في الثلج وهي لفتة أعطت “ميسوفيتش” القوة للإستمرار و نظرا لعدم ظهور المساعدة الموعودة من الحلفاء الغربيين أدي ذلك إلى وفاة المزيد من الصرب في الشوارع و لكن نتيجة تهديد الروس بالتوقيع على معاهدة سلام منفصلة مع الألمان رضخ الحلفاء الغربيين و قاموا بإنقاذهم و نقلهم إلي منطقة كورفو في “اليونان” و نتيجة نجاحه في عبور “ألبانيا” مع زملائه الجنود حصل ” مومسيلو جافريتش ” على “الوسام الألباني” لإظهاره شجاعة كبيرة في مواجهة الموت الوشيك .
بعد ذلك تم إرسال ” مومسيلو جافريتش ” مع وحدته إلى “سالونيك” حيث تلقى تعليمه المدرسي الذي يعادل أربعة صفوف من التعليم الابتدائي المعتاد و عندما تعافى الصرب من هزيمتهم عاد و قاتل معهم و هو بسن العاشرة من عمره في “معركة كاجماكلان” عام 1916 و عندما أظهر ذلك الصبي شجاعة بالغة في القتال قام القائد العام الصربي “سيفوجين ميشيتش” بترقيته إلى رتبة رقيب و تمت قراءة الأمر بصوت عالٍ و واضح على كافة أفراد الشعبة لتحفيزهم و زرع الشجاعة و الروح العالية بينهم و رغم إصابته عدة مرات أثناء خدمته إلا أنه أستمر في العودة إلى الخنادق حتى أكتمل تحرير “صربيا” و بعد إنتهاء الحرب حرص الرائد “ستيفان توكوفيتش” على أن يكمل ذلك المراهق تعليمه الرسمي حيث حصل على منحة دراسية بريطانية مخصصة لأيتام الحرب و ألتحق للدراسة في مدرسة “هنري رايت” و بعد تخرجه عام 1921 عاد إلى مسقط رأسه في “صربيا” و ألتقى بإخوته الثلاثة الذين نجوا من تلك المجزرة .
أقرأ أيضا : الصبى جونز .. المراهق الذى أستطاع سرقة الملابس الداخلية للملكة فيكتوريا
و حين أصبح ” مومسيلو جافريتش ” في سن التجنيد القانوني عام 1929 أدعى أنه شارك بالفعل في الجيش خلال الحرب العظمى إلا أن الضباط رفضوا تصديقه و حاولوا إجباره على الاعتراف بكذبه إلا أنه رفض و لذلك سُجن لمدة شهرين و نصف و بما أن هذه الحادثة شملت الفترة التي قضاها كمجند فقد أستمر بعد السجن في أداء خدمته العسكرية لمدة عام واحد و عندما ترك الجيش عاد ” مومسيلو جافريتش ” إلي العاصمة “بلجراد” حيث تعلم حرفة الرسم و حصل على رخصة قيادة و تزوج و وجد وظيفة في مصنع ورق و ظل به حتى بداية الحرب العالمية الثانية عندما تم تجنيده في الجيش الملكي اليوغوسلافي و خلال الحملة القصيرة التي أحتلت بعدها ألمانيا النازية “يوغوسلافيا” تم القبض على فوجه لكنه تمكن بطريقة ما من الفرار و أستقر لفترة في “بلجراد” حيث عمل كمساعد لحرفي يهودي و في عام 1943 تم إرساله مع رب عمله إلى معسكر إعتقال في “بانجيكا” بالعاصمة ” بلجراد ” و مع ذلك أعرب مشرف الشرطة الذي كان متعاونًا مع النازيين الصرب عن محاباته تجاه الصبي بطل الحرب العظمى و قرر إطلاق سراحه ثم قضى بقية حياته بسلام إلي أن توفي عام 1993 في “بلجراد” عن عمر يناهز 87 عامًا و نظرا لتاريخه المشرف تم منحه نصبًا تذكارية في جزيرة كورفو في “اليونان” و مؤخرًا شيد له نصبًا تذكاريًا أخر في “بلجراد” كما أن أحد شوارع مدينة “لوزنيكا” يحمل اسمه حتى وقتنا الراهن .