مع حدوث الهدنة التى أنهيت بموجبها المعارك الضارية خلال الحرب العالمية الأولى بين الحلفاء و القوي المركزية في 11 من نوفمبر عام 1918 دخل الحلفاء فى مفاوضات أستمرت لمدة ستة أشهر فى مؤتمر باريس لإبرام معاهدة للسلام و فى يوم 28 من يونيو عام 1919 وقعت ألمانيا مع قوى الحلفاء على معاهدة فرساي التى تعتبر واحدة من أهم معاهدات السلام بعد الحرب العظمى و ذلك بقصر فرساي فى فرنسا بينما وقعت باقى القوى المركزية الأخرى التى تحالفت مع الألمان على معاهدات منفصلة و أشتملت بنود المعاهدة على شروط مجحفة أعتبرها الألمان قاسية جدا و تمثلت فى إستقطاع أجزاء من أراضيها لصالح دول أخرى و حظر تصنيع الأسلحة مع دفع تعويضات ضخمة و يعتبر بعض المؤرخين أن معاهدة فرساي قد أسهمت بشكل كبير فى صعود الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر لحكم البلاد و الذى تسببت سياسته فى دخول العالم لحقبة مأساوية جديدة و إندلاع الحرب العالمية الثانية .
مؤتمر باريس للسلام
بعد أربع سنوات من الصراع خلال الحرب العالمية الأولى طلبت الحكومة الألمانية من “وودرو ويلسون” رئيس “الولايات المتحدة” بترتيب هدنة عامة في أكتوبر عام 1918 و أعلنوا أنهم قبلوا النقاط الأربع عشرة التي صاغها و قدمها إلى الكونجرس الأمريكي في يناير عام 1918 كأساس لسلام عادل و فى المقابل طالب الحلفاء “ألمانيا” بتعويضهم عن جميع الأضرار التي لحقت بالسكان المدنيين و ممتلكاتهم من جراء العدوان الألماني برا و بحرا و جوا علاوة على ذلك كان هناك بعض من التعقيدات بين الحلفاء فى الوصول الى صيغ محددة للسلام بسبب المعاهدات السرية التي أبرمتها “المملكة المتحدة” و “فرنسا” و “إيطاليا” مع “اليونان” و “رومانيا” و بعضها كان خلال السنوات الأخيرة من الحرب و لكن أنتهى الحال بصياغة المعاهدة في ربيع عام 1919 أثناء إنعقاد مؤتمر “باريس” للسلام و الذي عقد في وقت كان فيه العالم يواجه جائحة الإنفلونزا الإسبانية و سيطر على المؤتمر القادة المعروفين باسم “الأربعة الكبار” و هم “ديفيد لويد جورج” رئيس وزراء “المملكة المتحدة” و “جورج كليمنصو” رئيس وزراء “فرنسا” و “ودرو ويلسون” رئيس “الولايات المتحدة” و “فيتوريو أورلاندو” رئيس وزراء “إيطاليا” حيث أتخذ القادة الثلاث الأوائل على وجه الخصوص قرارات مهمة فى ذلك المؤتمر و لم يكن لأي من الدول المهزومة أى رأي في تشكيل المعاهدة و تعامل المندوبين الألمان مع ذلك الأمر الواقع الا أنهم صدموا من قسوة الشروط و احتجوا على التناقضات بين الضمانات التي قدمت لهم عندما تم التفاوض على الهدنة و المعاهدة الفعلية أمامهم خاصة بنود قبول الإعتراف بذنب الحرب و تسببهم فى إشتعالها و شروط التعويضات .
كما كانت من بين الشروط المجحفة فى المعاهدة تخفيض عدد سكان و أراضي “ألمانيا” بنحو 10 في المائة في الغرب و أن تعاد “الألزاس و اللورين” إلى “فرنسا ” و توضع “سارلاند” تحت إشراف عصبة الأمم حتى عام 1935 أما في الشمال يتم منح ثلاث مناطق ألمانية صغيرة لبلجيكا و شمال شليسفيج إلى “الدانمارك” و في الشرق تم إحياء “بولندا” مجددا بقطع من الأراضى السابقة التابعة لبروسيا و بوزنان و منحها ممرًا إلى بحر البلطيق كما حصلت أيضا على جزءًا من “سيليزيا العليا” بعد اجراء استفتاء على انضمامها كما تم إعلان جدانسك (دانزيج) مدينة حرة كما استولت “بريطانيا” و “فرنسا” و “اليابان” و دول الحلفاء الأخرى على جميع مستعمرات “ألمانيا” الخارجية في “الصين” والمحيط الهادئ و أفريقيا .
التعويضات الألمانية والقيود العسكرية
و اعتبر بند ذنب الحرب في معاهدة فرساي أن “ألمانيا” هي المعتدي و البادئ بها و بالتالي أصبحت هى المسؤولة عن تقديم تعويضات لدول الحلفاء مقابل الخسائر و الأضرار التي لحقت بهم في الحرب و فى ذلك الوقت كان من المستحيل حساب المبلغ المحدد الذي يتعين دفعه كتعويضات عن الأضرار التي تسبب فيها الألمان و خاصة في “فرنسا” و “بلجيكا” أثناء صياغة المعاهدة لكن لجنة تم تشكيلها قيمت الخسائر التي تكبدها السكان المدنيون بمبلغ 33 مليار دولار في عام 1921 و على الرغم من أن الاقتصاديين في ذلك الوقت أعلنوا أن مثل ذلك المبلغ الضخم لا يمكن تحصيله دون إزعاج المالية الدولية الا أن الحلفاء أصروا على أن تدفعه “ألمانيا” و سمحت لهم المعاهدة باتخاذ إجراءات عقابية إذا تخلفت عن السداد فى المواعيد المحددة .
و بالإضافة الى ذلك أراد الأربعة الكبار و خاصة “كليمنصو” التأكد من أن “ألمانيا” لن تشكل تهديدًا عسكريًا مرة أخرى لبقية أوروبا و لذلك احتوت المعاهدة على عدد من الشروط لضمان هذا الهدف حيث اقتصر عدد الجيش الألماني على 100 ألف رجل و تم القضاء على هيئة الأركان العامة و منع تصنيع السيارات المصفحة و الدبابات و الغواصات و الطائرات و الغازات السامة و السماح لعدد قليل فقط من المصانع لتصنيع أسلحة أو ذخائر و كان من المقرر أن تكون كل “ألمانيا” الواقعة غرب نهر الراين و ما يصل إلى 50 كم شرقها منطقة منزوعة السلاح و كان من المأمول أن يقترن نزع السلاح القسري لألمانيا بنزع السلاح الطوعي في دول أخرى .
ميثاق عصبة الأمم
تضمنت معاهدة فرساي أيضا على ميثاق عصبة الأمم الذي يضمن فيه الأعضاء استقلال بعضهم البعض و سلامة أراضيهم حيث كان “ويلسون” مقتنعًا بأنه لا يمكن تحقيق سلام دائم ما لم تظهر منظمة دولية لذلك فقد ترأس اللجنة التي صاغت العهد و هي وثيقة قصيرة و موجزة من 26 مادة تم تبنيها بالإجماع في المؤتمر يوم 28 أبريل عام 1919 و بموجب أحكامها ستُفرض عقوبات اقتصادية على أي عضو يلجأ إلى الحرب كما كانت العصبة موكولة للإشراف على الأراضي الواقعة تحت الانتداب و صياغة خطط للحد من التسلح كما أنشأت معاهدة فرساي أيضا المحكمة الدائمة للعدل الدولي و منظمة العمل الدولية .
الإستياء الألماني
و بعد كثير من المفاوضات قُدمت النسخة النهائية من “معاهدة فرساي” إلى وفد ألماني في 7 من مايو عام 1919 و رغم احتجاجهم الا أنه تم التوقيع عليها في 28 يونيو و بعدها أبرمت معاهدتا “سان جيرمان و نويلي” و التى كان فيها شروط الحلفاء للسلام مع “النمسا-المجر” و “بلغاريا” على التوالي و بالعودة الى معاهدة فرساي فقد انتقدها الألمان بشدة و اشتكوا من أنه تم إملاءها عليهم و أنها تنتهك روح النقاط الأربع عشرة و بها تضحيات لا تطاق من شأنها أن تدمر اقتصادهم لذلك ففي السنوات التي أعقبت التصديق عليها تمت مراجعة و اجراء بعض من التعديلات فى بنود معاهدة فرساي لصالح “ألمانيا” من خلال تقديم العديد من التنازلات لهم قبل صعود “أدولف هتلر” لحكم البلاد و بحلول عام 1938 بقيت فقط بنود الاستيطان الإقليمي .
و يزعم العديد من المؤرخين أن الجمع بين معاهدة قاسية و التراخي اللاحق في تطبيق أحكامها قد مهد الطريق لتصاعد النزعة العسكرية الألمانية في الثلاثينيات مجددا اضافة الى ان التعويضات الألمانية الضخمة و شرط الذنب من الحرب قد تسبب فى حدوث استياء عميق في داخل البلاد و تولد لدى مواطنيها مشاعر انتقامية و عندما أعاد “هتلر” تسليح “راينلاند” عام 1936 و الذى كان بمثابة انتهاكًا للمعاهدة لم يفعل الحلفاء شيئًا لمنعه مما شجعه للتمادى بشكل أكبر في المستقبل و التسبب باندلاع الحرب العالمية الثانية .