كان أكثر ما يميز فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتى ( روسيا حاليا ) ان كلا الفريقين أستعملا كل ما هو متاح أمامهم لإحراز النصر فى ذلك الصراع بداية من إجراء التجارب النووية و تطوير الأسلحة التقليدية الى خوض منافسات إقتصادية و علمية كان جزء منها خارج حدود كوكب الأرض من خلال سباق الفضاء و أخيرا إستخدام القوى الناعمة المتمثلة فى الأداب و الفنون و السينما لخلق وعى جمعى و لشن حرب دعائية على الطرف الأخر لذلك ليس بالغريب مشاركة بعض من المؤسسات الأمنية و العسكرية الأمريكية فى عدد من الأعمال الفنية و السينمائية و لعل أبرزها ما فعلته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بقيامها بإنتاج فيلم سينمائي و هو مزرعة الحيوانات و المقتبس عن رواية للكاتب البريطانى البارز جورج أوريل و اجراء بعض من التعديلات عليها بغرض جعل رسالته معادية للشيوعية .
كانت رواية “مزرعة الحيوانات” للكاتب البريطانى ” جورج أوريل ” شهيرة جدا و قرأها كثير من الأمريكيين خلال مرحلة دراستهم الثانوية أو الجامعية و تدور أحداثها فى مزرعة يقيم بها عدد من الحيوانات و الذين يقومون بثورة ناجحة على البشر فيها الذين يقومون بإستغلالهم و تسخيرهم بغرض الحصول على الحرية و المساواة و فجأه يبدأ بعض من الحيوانات المنتصرة و الممثلة فى الخنازير بفرض طغيان جديد على الحيوانات الأخرى التى تصبح فى حيرة عن أيهم الأكثر سوء هل كانوا البشر المستغلين أم الخنازير القمعيين ليجدون فى النهاية أنه من المستحيل التفريق بينهم حيث كانت رواية مليئة بالإسقاطات السياسية حول الثورة الشيوعية التى قامت للإطاحة بحكم قياصرة روسيا القمعى و الفاسد لتكون هى أكثر قمعا بحق شعبها و هو ما جعل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تنتبه اليها و لرسالتها و هو مع دفعهم لمحاولة استغلالها فى انتاج فيلم سينمائى للرسوم المتحركة عام 1955 بعد شراء حقوق الرواية من أرملة الكاتب الكبير الذى كان قد توفى عام 1950 و لكن مع إجراء عدد من التعديلات من خلال إزالة البشر المستغلين منها حتى لا يعرف الجمهور أن الكاتب يقصد بها الرأسمالية مقابل الخنازير الشيوعية .
كان المشرف عن ادارة ذلك الملف داخل المخابرات الأمريكية هو ” إي هوارد هانت ” الذى سجن لاحقا بإعتباره أحد متأمرى الرئيس الأمريكى ” ريتشارد نيكسون ” خلال فضيحة ووترجيت حيث كان فى الخمسينيات يدير ورشة عمل الحرب النفسية التابعة للوكالة و كان لديه اختصاص واسع يشمل الدعاية و الحرب الاقتصادية و التخريب و خلال قيادته تحولت المخابرات المركزية إلى “وزارة الثقافة” الأمريكية لتوجيه الرسائل المعادية للشيوعية من خلال الأفلام السينمائية حيث قرر أنه يمكنه كسب القلوب و العقول الأمريكية من خلال صنع فيلم رسوم متحركة كامل الطول يعتمد على رواية “مزرعة الحيوانات” و يحدث سباق بين الوكالة و بين إدارة أبحاث المعلومات السرية التابعة لوزارة الخارجية البريطانية للظفر بحقوق تلك الرواية و انتهت بإنتصارهم عندما وافقت “سونيا أورويل” أرملة الكاتب على بيع الحقوق إليهم شريطة مقابلة بطلها المفضل ممثل هوليوود البارز “كلارك جيبل” و قام مسؤول في وكالة المخابرات المركزية يُدعى “جو بريان” بترتيبات ذلك اللقاء .
و للاستعداد لذلك الفيلم جيدا تم الاستقرار على أن يكون انتاج ” مزرعة الحيوانات ” فى المملكة المتحدة و الاستعانة برسامي الرسوم المتحركة البريطانيين الزوجين جون هالاس و جوى باتشيلور و الذين كانوا الأفضل عالميا لتصميم شخصيات “مزرعة الحيوانات” فى ذلك الوقت و لأن تكاليف الإنتاج بها أقل بكثير من الولايات المتحدة اضافة الى وجود بعض من الشكوك في ولاء بعض من الأمريكيين العاملين فى قطاع الرسوم المتحركة للشيوعية خاصة بعد وضع العديد منهم على القائمة السوداء و الغريب أن العاملين في الفيلم الذى بدء العمل فيه بنوفمبر عام 1951 و تم الانتهاء منه فى أبريل عام 1954 لم يعلموا حقيقة أن المخابرات المركزية الأمريكية هى الممول الفعلى للفيلم الا متأخرا و لم ينشر عن تلك الحقيقة الا بعد مرور 50 عاما .
أقرأ أيضا : أفلام سينمائيه قام الجيش الأمريكى بإجبار صانعيها على تعديل أحداثها
و صدر فيلم ” مزرعة الحيوانات ” و كان الإقبال عليه كبيرا فى قاعات السينما و نال اعجاب الجمهور خاصة بعد قيام الممثل المخضرم “موريس دينهام” الذي قدم أصوات كل إنسان و حيوان في ذلك العمل السينمائى حتى أنه أثار شكوك السلطات البريطانية نحوه لفترة بعد أن كان يجعل صوت الخنازيرالكبيرة مثل صوت الزعيم وينستون تشرشل كما حاز على العديد من المراجعات النقدية الايجابية رغم أن بعض النقاد اقترحوا على المشاهدين قراءة الرواية الأصلية لمعرفة ما تم استبعاده و تم توزيع الفيلم لاحقًا في جميع أنحاء العالم من قبل وكالة المعلومات الأمريكية (USIA) من خلال مكاتبها و لقى اشادة كبيرة فى الدول العربية في ضوء حقيقة أن الخنازير حيوانات غير محببة بالنسبة للمسلمين و بطبيعة الحال تم حظره فى ” الإتحاد السوفييتى ” حتى انتهت الحرب الباردة تقريبًا في عام 1988 حين نشرت صحيفة “إزفيستيا” الحكومية أخيرًا فصلين من الرواية معلقة عليهم بأنه من الجيد أن يصل نثر هذا الكاتب الإنجليزي العظيم إلى قرائنا و إن كان متأخرًا .