في ظل أجواء الحرب الباردة كانت أجهزة الإستخبارات تلعب دورًا بارزًا في معركة سرية دارت بين الولايات المتحدة و حلفائها من جهة و الإتحاد السوفيتي من جهة أخري و من ضمن المهام التجسسية المتميزة التي شنها السوفيت خلال تلك الفترة عملية مراقبة البريد الدبلوماسي التي تمكنوا فيها من إعتراض المراسلات الحساسة بين الدول الغربية و حلفائها عبر الوصول إلي بريدهم الدبلوماسي و رسائلهم الخاصة بين السفارات الغربية و وزارات الخارجية و الشخصيات السياسية المؤثرة في أوروبا و أمريكا و هو ما مكنهم من الوصول إلي معلومات إستراتيجية كانت تؤثر في قرارات الدول الغربية و ساعدتهم في مراقبة تحركات خصومهم بشكل أتاح لهم إمتيازًا إستخباريًا قيّمًا علي مدار سنوات طويلة .
ترجع جذور عملية مراقبة البريد الدبلوماسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين بدأ ” الأتحاد السوفيتي ” بتطوير شبكات تجسسية متقدمة من أجل متابعة تحركات القوى الغربية حيث كانت الشكوك العميقة و إنعدام الثقة بين المعسكرين الشرقي و الغربي تلك الفترة عاملاً محوريًا في إشعال جذوة التجسس المتبادل و في ظل تلك الصراعات أدرك السوفيت أهمية المراسلات الدبلوماسية التي تحمل بكل تأكيد معلومات عن الخطط الإستراتيجية للدول الغربية لذلك أطلقوا خطة متقنة لإعتراض بريدهم و مراقبة مراسلاتهم الحساسة بين السفارات و وزارات الخارجية التابعة لها و رسائل السفراء مع الشخصيات السياسية الكبرى و ركزت العملية علي مراقبة مراسلات بعض السفارات الحساسة في دول أوروبا الشرقية و الغربية و إستخلاص المعلومات الإستخباراتية منها و تحليلها لمعرفة نوايا و تحركات خصومهم.
و إعتمدت عملية “مراقبة البريد الدبلوماسي” علي تقنيات متطورة و أساليب سرية تضمن عدم إكتشافها حيث كانت المراسلات في تلك الفترة تُرسل غالبًا عبر البريد الدبلوماسي الذي يُعتبر محميًا بموجب القوانين الدولية و من خلاله يتم نقل الوثائق الرسمية بين السفارات دون تفتيش من الدول الحاضنة لها و هو ما دفع السوفييت لإستغلال هذه الثغرة عن طريق تطوير شبكة عملاء ماهرة و زرع جواسيس داخل محطات البريد و المطارات التي تمر عبرها تلك المراسلات كما أستخدموا أيضًا تقنيات متقدمة لفتح الرسائل و إعادة إغلاقها دون ترك أثر حتى لا يُلاحظ الدبلوماسيين وجود أي تدخل و كانت الرسائل تحتوي غالبًا علي تعليمات دبلوماسية و تقارير إستخباراتية و تحليلات سياسية سرية حول سياسات الدول الغربية و هو جعل إعتراضها فرصة ذهبية للسوفيت لفهم إستراتيجيات الغرب .
و أسفرت عملية “مراقبة البريد الدبلوماسي” عن نجاحات هائلة بالنسبة لجهاز المخابرات السوفيتية KGB بعد أن تمكنوا من الحصول علي معلومات حول تحركات حلف شمال الأطلسي (الناتو) و خطط الغرب في مواجهة المد الشيوعي حيث أسهمت هذه المعلومات في تمكين الإتحاد السوفيتي من إتخاذ قرارات إستراتيجية مضادة كانت تهدف إلي الحفاظ علي توازن القوى و تجنب المواجهات المباشرة مع الدول الغربية كما ساعدتهم في مراقبة التحالفات الغربية و معرفة التوجهات السياسية و الإقتصادية التي كانت تخطط لها ” الولايات المتحدة ” والدول الأوروبية الأخرى و نظرا لإستمرار تدفق المعلومات من خلال تلك العملية فقد ساهم ذلك علي تعزيز موقف الإتحاد السوفيتي و إكسابه القدرة علي صياغة خططه بطريقة تضمن تحقيق أهدافه دون إشعال مواجهة مباشرة مع الغرب .
إقرأ أيضا : العملية جولد .. نفق المخابرات الامريكية السري أسفل برلين الشرقية للتجسس على إتصالات السوفييت
و لأن لكل شئ نهاية و رغم نجاحات عملية “مراقبة البريد الدبلوماسي”، إلا أن التقدم التقني للغرب سرعان ما مكنهم من كشف عملية التجسس السوفيتية بعد تطور أنظمة الأمن و المراقبة حيث ساعدتهم التقنيات الجديدة علي إدراكهم بوجود تدخلات غير طبيعية في مراسلاتهم الدبلوماسية مما جعلهم يبدأون في تطبيق تدابير أمان جديدة تضمن حماية تلك المراسلات من أي محاولات للتجسس عليها و بحلول أواخر الستينيات كانت معظم الدول الغربية قد طورت أنظمة تشفير و توثيق عالية الأمان بشكل جعل عملية إعتراض البريد أكثر تعقيدًا و أقل فعالية .