كثير ما نقرأ في الروايات و نشاهد في الأفلام مدن يعيش سكانها بالكامل تحت الأرض لأسباب متعددة قد يكون بعضها بيئي للهروب من الملوثات المنتشرة في الأعلي أو أمني للحماية من مخلوقات شرسة تعيش علي السطح و لكن بعيدا عن عالم الروايات و بالإنتقال إلي أرض الواقع سنجد أنه بالفعل توجد مدينة في جنوب أستراليا تعرف بإسم كوبر بيدي تقع بالكامل أسفل الأرض و يعيش بداخلها ما يقرب من 3500 شخص يتبعون 45 جنسية مختلفة أغلبها أوروبية و يرجع سبب تجمعهم في ذلك المكان الغريب هو البحث عن الثروة و التنقيب عن الأوبال الذي يعد نوع من الأحجار الكريمة الموجودة في تلك المنطقة و لكن نظرا لتميزها بطقس قاسي و درجات حرارة مرتفعة فأصبحت مدينة كوبر بيدي هي الملاذ الوحيد لهم للهروب من تلك الظروف الجوية الصعبة .
و بالنظر إلي تاريخ المنطقة التي تقع فيها مدينة ” كوبر بيدي ” سنجد أنها قبل 150 مليون سنة كانت هي قاع محيط شاسع و مع مرور السنوات و القرون حمل المد الكثير من المعادن الموجودة في قاع المحيط و نقلها إلى عمق الشقوق في الأرض التي ترسبت فيها و تصلبت تدريجياً و بعد ذلك بدأ إنحصار المياه عن تلك المنطقة لكيلومترات لكنها تركت ترسباتها من الأحجار الكريمة البراقة و من أبرزها الأوبال الموجود بين الشقوق الصخرية لذلك أصبحت تلك المنطقة مسعي للكثير من الباحثين عن الثروة لإستخراج ذلك العنصر النفيس حيث بدأت أنشطتهم في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن أكتشف “جون ماكدول ستيوارت ” المنطقة لأول مرة و أطلق عليها اسم “ستيوارت رينج” كنوع من أنواع التكريم له و بعدها أصبحت المناجم منتشرة علي طول المكان .
أما بالنسبة إلي مدينة ” كوبر بيدي ” فقد تم إنشائها رسميا عام 1915 و رغم موقعها الغريب تحت الأرض إلا أنه كان من المدهش أن ينتقل إليها عدد ليس بالقليل من الناس بغرض الإقامة فيها و التنقيب عن الأوبال و حدث ذلك بعد إنتشار قصة لطفل يبلغ من العمر أربعة عشر عاما و يدعي ” ويلي هاتشينسون ” و الذي كان في مهمة برفقة زملاء له للتنقيب عن الذهب في ذلك المكان و أثناء تجولهم في أرض تعاني من الجفاف تفرق زملاؤه للبحث عن المياه تاركين “ويلي” يدير المخيم و لكن نظرا لمعاناته هو الأخر من العطش ترك المكان و ذهب للبحث عن المياه و عندما عاد رفقائه شعروا بالقلق لإختفائه و لكن سرعان ما تحول شعورهم إلى بهجة و سعادة عندما عاد إليهم في تلك الليلة و معه مخزون للمياه يكفيهم لأسبوعين و دلو مليء بالأوبال في كيس على كتفه .
و رغم أن إكتشاف ” ويلي هاتشينسون ” قد وضع “كوبر بيدي” على خريطة المنقبين إلا أن الوضع لم يكن سهلا لأعداد كبيرة من الباحثين عن الأوبال الذين أجتذبتهم تلك القصة بسبب المناخ الصحراوي الجاف الموجود في المكان و الذي يؤدي إلي ندرة المياه و بالتالي الغطاء النباتي لدرجة أن أول شجرة غرست في المدينة كانت من المعدن و تم وضعها لمجرد الزينة و لا تزال موجودة حتي اليوم كما أنه و نظرا لإرتفاع درجات الحرارة خاصة في فصل الصيف و التي قد تتجاوز 40 درجة مئوية و ندرة وجود الأمطار فقد عملا كلاهما علي جعل هبوب العواصف الترابية أمر معتادا لذلك نستطيع القول أن الحياة فوق الأرض لا يمكن تحملها لذلك قام الوافدين الجدد إلي ذلك المكان بالقيام بالحل الوحيد و المنطقي لمواجهة كل تلك الظروف الصعبة و ذلك من خلال الحفر للأسفل لإنشاء مدينة متكاملة أسفل الأرض كما قاموا بالتصويت علي إطلاق إسم لذلك المكان و أستقروا علي ” كوبر بيدي ” المشتق من كلمة ” كوبا بيتي ” و هو مصطلح يرجع إلي السكان الأصليين و يعني حرفياً “ثقب الرجل الأبيض” .
و اليوم يعيش سكان مدينة “كوبر بيدي” في مخابئ مريحة تحت الأرض حيث تم بناء هذه المنازل المنحوتة في الأرض بنفس تكلفة الهياكل الموجودة فوق سطح الأرض لكنها تتميز بأنها ليست عرضة للعواصف الرملية و لا تتطلب تكييفًا للهواء حيث يتمتع سكان الكهوف في كوبر بيدي بدرجة حرارة ثابتة و باردة تبلغ حوالي 23 درجة مئوية داخل منازلهم مما يجعل الحياة تحت الأرض معيارًا للراحة الصحراوية كما ينحت السكان ما يحتاجون إليه من الحجر الرملي لمنازلهم التي تضم أرفف كتب و طاولات كما تتميز بوجود حوض سباحة و ملعب كرة قدم تحت الأرض و لم يكتفوا بذلك فقط بل قاموا أيضًا بمعالجة مشكلة ندرة الغطاء النباتي بعد أن قاموا بغرس عدد من الأشجار في الداخل و هو ما أضاف للمكان مناظر طبيعية خلابة .
أقرأ أيضا : فندق الجليد .. مكان بديع قد تزوره و لكن تحتاج لشجاعة الإقامة فيه
و في داخل مدينة ” كوبر بيدي ” أيضا توجد كنائس و مدرسة و مكتبات و فنادق تخدم عددًا كبيرا من السياح الذين يأتون لرؤية المدينة الغريبة و زيارة المعارض الفنية و محلات المجوهرات المجهزة جيدًا بأوبال المدينة الشهيرة و الإستمتاع بملعب الجولف الخالي من العشب حيث يستخدم جميع اللاعبين كرات الجولف المتوهجة في الظلام كما تخدم الفنادق أيضا القادمين للبحث عن أحجار الأوبال الثمينة المدفونة في التراب و رغم تفرد ذلك المكان إلا أنه يجب علي زائريها السير بحذر حيث تتواجد العديد من اللافتات التي توضح ضرورة الإنتباه من عدم دخول مداخل المناجم و البالغ عددها 250 ألف بمفردهم حتي لا يضلون الطريق و يكون البحث عنهم أمر ليس بالبسيط كما أنه بجانب أن تلك المدينة معقل لأنشطة التعدين إلا أنها نجحت أيضا في جذب صناع السينما و الذين قاموا فيها بتصوير العديد من الأفلام أبرزها Mad Max و Priscilla Queen of the Desert .