لا تقتصر أنشطة الجاسوسية على الرجال فقط بل تشارك فيه النساء أيضا الذين قد يكونوا فى بعض من الأحيان أخطر من الرجال و يقدمون معلومات لا تقدر بثمن قد يكون لها بالغ الأثر على الساحة السياسية أو العسكرية و فى تاريخ الجاسوسية تبرز قائمة تضم العديد من النساء الذين أنخرطن فى ذلك العالم الغامض و بدون أدني شك ستتصدر تلك القائمة الجاسوسة الهولندية ماتا هاري التى عملت راقصة و زعم أنها تجسست على فرنسا لصالح ألمانيا ثم تحولت لاحقا إلي عميلة مزدوجة و تجسست علي الألمان لصالح الفرنسيين خلال فترة صعبة من تاريخ العالم و هى الحرب العالمية الاولي و رغم نشر العديد من الكتب و السير الذاتية حولها إلا أن الكثير عن أنشطتها كان غامضا و قليل من الناس هم من يعرفون أي أجزاء من قصة حياة ماتا هاري هي حقائق و أي أجزاء أخري تعتبر خيالية .
و بالنظر الى قصة حياة الجاسوسة “ماتا هاري ” فسنجد أنها كانت بائسة فى بداية حياتها حيث ولدت تحت إسم “مارجريتا جيرترويدا زيل” في 7 أغسطس عام 1876 بمنطقة “ليوفاردن” فى “هولندا” و أشتهرت بشعرها و عينيها الداكنين و هو أمر غير مألوف بين أقرانها الهولنديين و كانت معروفة أيضًا بكونها إنسانة إجتماعية و كان والدها يملك متجرًا للقبعات و ثريًا نسبيًا و محبا لأبنته ثم تغير الحال بعد إشهار إفلاسه و أنفصل عن والدتها التى توفيت عندما كانت في سن المراهقة أما والدها فتزوج و أرسلها مع إخوتها للعيش مع أقارب آخرين و خلال دراستها فى المدرسة الثانوية تم طردها منها بسبب علاقة جمعتها مع مدير المدرسة و بعدها هربت ” ماتا هاري ” لتعيش مع عمها في مدينة “لاهاي” و في سن 18 وقعت فى حب جندي هولندي يدعي “رودولف ماكليود” يبلغ من العمر 39 عامًا و تزوج الاثنان عام 1895 و أصبح إسمها الرسمي ” مارجريتا جيرترويدا ماكلويد” و أنتقل الزوجان إلى جزيرة جاوة في “إندونيسيا” و مع مرور الوقت بدا أن ذلك الزواج لم يكن موفقا حيث كان زوجها مدمنا على شرب الكحوليات و لديه عشيقة و هو أمر لم يرضي زوجته الجديدة التى بدأت في الإنغماس بالثقافة الإندونيسية و هو الأمر الذي أفادها لاحقا .
و خلال زواج ” ماتا هاري ” مع ” ردوولف ماكليود ” أنجب الإثنان طفلين أصيب كلاهما بمرض شديد عام 1899 نتج عنه وفاة إبنهما عن عمر يناهز عامين أما إبنتهما فقد كتبت لها النجاة و يُعتقد على نطاق واسع أن سبب وفاة الصبي الصغير هو مرض الزهري الذي أصيب به من والديه و مع ذلك تزعم مصادر أخرى أنه مات بعد أن سممت مربية ساخطة كلا الطفلين و لكن على أى حال بعد الموت المأساوي لطفلهم ترك “ماكلويد ” الجيش و عاد الزوجان إلى “هولندا” حيث افترقا و أنفصلا رسميا عام 1902 و فى بادئ الأمر بقيت الابنة مع والدتها لكن “ماتا هاري” واجهت صعوبة في العثور على عمل نظرًا لقلة الوظائف المتاحة للنساء و نظرا لعدم وجود أى وسيلة إعالة إتخذت قرارًا صعبًا و هو تسليم الإبنة الى زوجها السابق لتعيش معه و أنتقلت هى إلي ” فرنسا ” و أستقرت فى مدينة ” باريس ” .
و عاشت ” ماتا هاري ” فى العاضمة الفرنسية بداية من عام 1903 و بينما كانت تأمل فى بداية جديدة كانت تفتقد إبنتها و ما زالت تكافح من أجل كسب المال من خلال إعطاء دروس عزف على البيانو إلى تعليم اللغة الألمانية و حاولت تغطية نفقاتها كيفما أمكنها ذلك و بحلول عام 1904 أعترفت في رسالة شخصية بأنها لجأت إلى الدعارة من أجل إعالة نفسها كما عملت أيضًا كعارضة للرسامين و بعد ذلك أقترحت صديقة لها العمل كراقصة و أستمعت لها و بدأت الدخول فى ذلك المجال الذى كان من شأنه أن يغير حياتها ففى عام 1905 لم تنجح ” ماتا هاري ” في تحقيق النجاح بمهنتها الجديدة كراقصة فحسب بل قامت أيضًا بصياغة شخصيتين جديدتين لها حيث أدعت تارة أنها فنانة هندوسية و ابنة راقص معبد هندي و تارة أخري أنها أوروبية ولدت في “جاوة” و أتخذت إسم للشهرة و هو ” ماتا هاري ” الذي يعني “عين اليوم” في لغة الملايو و بفنها إجتذبت الحشود بسبب رقصتها المقدسة التي كانت في الأساس مجرد تعري .
و بعد ظهورها الفني الأول في “باريس” أصبح إسم ” ماتا هاري ” معروفًا في جميع أنحاء أوروبا فعلاوة على أدائها المغري كانت لديها أيضًا ميزة نادرة تتمثل في تثقيف جمهورها حول ثقافة مختلفة و أسلوب حياة مختلف و بهذه الطريقة كان يمكن لجمهورها الحضور لمشاهدة عروضها لسبب وجيه و هو التعرف على ثقافات الغير و نظرا لفنون الإغراء الذى تفننت فيه طمع بها الرجال في جميع أنحاء العالم لكن “ماتا هاري” كانت تركز في الغالب على الضباط العسكريين و هو التفضيل الذي من شأنه أن وضعها لاحقًا في مشكلة خطيرة بعد أن سقطت أوروبا في الحرب العالمية الأولى فمع إندلاعها و نظرًا لموقف “هولندا” المحايد فلم تواجه “ماتا هاري” أي مشكلة في عبور الحدود الوطنية لدول أوروبا المتحاربة و فعلت ذلك كثيرًا و هذا هو سبب ظهورها على قائمة المراقبة لكل من المخابرات الفرنسية و البريطانية أما ما حدث بعد ذلك فى دخولها عالم الجاسوسية فيعتمد بشكل كبير على من يروي القصة لأنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت “ماتا هاري” جاسوسة للألمان أو للفرنسيين أو أي دولة وافقت على مساعدتها أولاً و لأي سبب .
و تقول الرواية الاولي أنه فى عام 1914 تمت مصادرة ممتلكات ” ماتا هاري ” الشخصية (بما في ذلك الفراء) في “ألمانيا” و كما تقول القصة عادت إلى “هولندا” بعد ذلك بوقت قصير و في عام 1915 أو 1916 أقترب منها الألمان و تفاهموا معها بشأن العودة إلى “فرنسا” للعمل كجاسوسة و عرضوا عليها 50000 فرنك للقيام بذلك حيث كان من الواضح إعتقادهم بأنها ستكون ذات قيمة كبيرة بالنسبة لهم بسبب علاقاتها الرومانسية العديدة مع الجنود و الظباط الفرنسيين و بينما يُزعم أنها قبلت ذلك مقابل المال أدعت لاحقًا أنها فعلت ذلك فقط لإستعادة ما أخذه منها الألمان و لم تكن تنوي بجدية التجسس و مع ذلك قامت برحلتين إلى “فرنسا ” عامي 1915 و 1916 و وقعت خلالها في حب ضابط روسي و في عام 1916 ورد أنها قبلت عرضًا من رئيس المخابرات الفرنسية المضادة للتجسس لصالح بلاده مقابل مليون فرنك و أدعت لاحقًا أن هذا كان فقط حتى تتمكن من التقاعد من حياتها السابقة و الإستقرار مع الرجل الذي أحبته حقًا لكن كان من الواضح أن هذا القرار أدي في النهاية إلى هلاكها حيث سرعان ما تم القبض عليها و هي تعمل كعميل مزدوج.
أما الرواية الأخري فتقول أن ” ماتا هاري ” قبلت عرضًا مربحًا من الفرنسيين للتجسس أولاً ثم تم تصنيفها زورًا على أنها جاسوسة ألمانية بعد محاولة فاشلة لإستخراج معلومات من ملحق ألماني و كان من الواضح أنها فى كلا الروايتين قبلت المال من أي من الجانبين أو كلاهما لمجرد إعالة نفسها و حبيبها و لكن حتى لو لم تتولى مهمة تجسس واحدة فإن هذا الارتباط المشبوه ببرامج إستخبارات مختلفة كان من الطبيعي أن يؤدي إلى سقوطها حيث بدأت التضييقات الأمنية عليها بداية من عام 1916 حين دخلت السفينة التى كانت على متنها ميناء “فالماوث” الإنجليزي و ألقت الشرطة القبض عليها معتقدة أنها جاسوسة و على الرغم من إطلاق سراحها في النهاية إلا أن الأمور سرعان ما بدأت في الانحدار من هناك ففى يناير عام 1917 أرسل ضابط في السفارة الألمانية بمدريد رسالة مشفرة إلى “برلين” تحدد أنشطة جاسوس ألماني يدعى H-21 و اعترض الفرنسيين هذه الرسالة و حددوا هوية ذلك العميل H-21 بأنه “ماتا هاري” و مع ذلك يعتقد الكثيرين أن المخابرات الألمانية كانت تعلم أن هذه الشفرة قد تم إختراقها بالفعل أى بعبارة أخرى قاموا بتسليمها للفرنسيين و في فبراير تم إعتقالها من غرفة فندق في “باريس” و ألقيت على الفور في زنزانة موبوءة بالفئران .
و تقرر عقد محاكمة لـ “ماتا هاري” أمام محكمة عسكرية في يوليو و شملت التهم التجسس لصالح الألمان بشكل أدى إلى مقتل نحو 50 ألف جندي و على المنصة أعترفت “ماتا هاري” بقبول أموال ألمانية للتجسس على “فرنسا” لكنها أدعت أنها لم تفعل الأعمال التي طلبت منها و قالت أنها قدمت فقط معلومات تافهة لا معنى لها لإثبات ولائها النهائي لبلدها بالتبني “فرنسا” و أضافت أنها أعتبرت أن المبلغ المالي كان مقابل ممتلكاتها المصادرة سابقًا لكن الفرنسيين لم يصدقوا أنها بريئة و تداولت المحكمة العسكرية لمدة 45 دقيقة فقط قبل إعلان إدانتها و الحكم عليها بالإعدام و لم تستطع “ماتا هاري” إلا أن تدافع عن براءتها للسفير الهولندي في باريس حيث قالت له : “علاقاتي الدولية ترجع إلى عملي كراقصة و لا شيء آخر لأنني في الحقيقة لم أتجسس و إنه لأمر فظيع أنني لا أستطيع الدفاع عن نفسي “.
و بغض النظر عما إذا كانت “ماتا هاري” مذنبة أو بريئة فقد تم تحديد مصيرها و إعدامها رميا بالرصاص في 15 أكتوبر عام 1917 و كانت تفاصيل وفاتها مثل حياتها غارقة في الغموض و الأساطير حيث يقول البعض إنها أرسلت قبلة لفرقة الإعدام قبل أن يبدأوا في إطلاق النار و يقول آخرون إنها رفضت عصب عينيها و نظرت بشجاعة في عيون جلاديها و لعل أكثر الشهادات التي يمكن تصديقها هي شهادة شاهد عيان قال : “لقد أظهرت شجاعة غير مسبوقة و إبتسامة صغيرة على شفتيها تمامًا كما في أيام إنتصاراتها العظيمة على خشبة المسرح” و بعد وفاتها لم يصل أحد ليطالب بجثتها .
أقرأ أيضا : كيم فيلبي الجاسوس السوفيتي الذى أستطاع تقلد منصب مدير مكافحة الأنشطة السوفيتية
و لما يقرب من 100 عام بعد إعدامها تم تصوير “ماتا هاري” على أنها أنثى كانت تفترس الجنود المطمئنين و أصبحت أيضًا عنصرًا أساسيًا في فى الفن خاصة بعد أن جسدتها الممثلة الشهيرة “جريتا جاربو” في فيلم بعنوان “ماتا هاري” عام 1931 و لكن بعيدا عن أسطورة التجسس سيئة السمعة فتحاول الوثائق التي صدرت مؤخرًا عن “ماتا هاري ” رسم صورة أكثر اكتمالاً عن حياتها و هي صورة حزينة بالفعل حيث لم تكن قد تعرضت للإساءة و التخلي عن العديد من الناس فحسب بل من الوارد أن يكون قد تم إستخدامها ككبش فداء أو بيدق أثناء محاكمتها ربما بسبب مهنتها و سمعتها المثيرة للجدل أو بسبب أن “فرنسا” أو “ألمانيا” (أو كليهما) كانوا غاضبين منها لفشلها في تقديم معلومات مفيدة بالإضافة الى أنه من الممكن أن تكون “فرنسا” أرادت شخصا ما يتم لومه على المشكلات التي واجهوها أثناء الحرب لكن لسوء الحظ ربما ماتت الحقيقة الكاملة ورائها .
و حتى يومنا هذا لا يزال المؤرخين يتجادلون حول ما إذا كانت “ماتا هاري” بالفعل عميلًا مزدوجًا أو حتى جاسوسة الا أنه و بعد كل شيء فهى فى كل الاحوال لم تكن امرأة عفيفة تضحى بنفسها لذلك فلا عجب أنها لم تكن محل ثقة من قبل الجميع .