بعد أن تصنع فيلمًا لا يمكنك أبدًا التنبؤ بكيفية تقبل المشاهدين له و لكنك بالتأكيد تأمل وقت صدوره فى أن يستمتع الجمهور العادي بالقصة و اللقطات التى تم تصويرها و عرضها على شاشات السينما لكن ماذا عن تأثيره الدائم و تأتى الأجابة بأنه من الصعب تحديدها سوى على المدى البعيد و من أبرز الأمثلة لذلك هو المخرج الشهير جورج لوكاس الذى لم يكن يتوقع يوما أن أفلام حرب النجوم التى قام بإخراجها ستكون سلسلة خالدة حتى وقتنا الحالى كما أن القائمين على شركة بيكسار لأفلام الأنيميشن لم يتخيلوا يوما أنهم سيسهمون بشكل فعال في القضاء على أسلوب أفلام الرسوم المتحركة المرسومة باليد التى كانت تقوم استوديوهات هوليوود بإنتاجها و لكن الأمر يختلف كثيرا مع فيلم سينمائي صدر عام 1941 حمل اسم الصقر المالطي و الذى ترك أثرا كبيرا ليس على التاريخ السينمائي فحسب و لكن التاريخ البشري كله بعد أقتبس القائمين على إنتاج القنبلة الذرية داخل مشروع ترينتي اسم لشخصية فيه و أطلقوها على احدى القنابل التى تم إسقاطها على مدينتي هيروشيما و ناجازاكي و وضعت نهاية لفترة عصيبة عاشها العالم و هى الحرب العالمية الثانية .
و “الصقر المالطي” هو فيلم جريمة و غموض قام ببطولته الفنان الشهير “همفرى بوجارت” و الفنانة “ماري أستور” و تدور أحداثه حول محقق خاص يعيش في مدينة “سان فرانسيسكو” يتولي قضية تتعلق بثلاثة مجرمين غريبى الأطوار و الذين يسعون للحصول على تمثال صغير لا يقدر بثمن و كان الفيلم من إخراج ” جون هيوستون ” الذى كان من المؤكد من أن الشيء الوحيد الذي يدور بذهنه فى ذلك الوقت هو أمله ألا يفشل فيلمه الأول فى مسيرته الإخراجية بسبب ميزانيته الصغيرة و بطله ” همفرى بوجارت ” الذى لم يكن نجما شهيرا فى ذلك الوقت و لكن مع طرحه كان العكس هو ما حدث حيث أصبح “الصقر المالطي” على المستوي الفني ملهما لعدد لا يحصي من صانعي الأفلام الذين قاموا بإنتاج عدد كبير متخذين نفس مساره و الأهم من ذلك أنه ترك إنطباعا و تأثيرا كبيرا على بعض الرجال الذين كان لهم الفضل فى إنهاء الحرب العالمية الثانية .
و ظهرت حقيقة التأثر بفيلم “الصقر المالطي” من خلال كتاب صدر تحت عنوان “السلام و الحرب : ذكريات الحياة على حدود العلم” و هى مذكرات للعالم “روبرت سيربر” الذى كان أحد أعضاء فريق “مشروع مانهاتن” و عمل جنباً إلى جنب مع “روبرت أوبنهايمر” المسئول الأول عن تطوير القنبلة الذرية حيث سرد فى كتابه الوقت الذي قضاه في العمل في “تينيان” إحدى جزر “ماريانا الشمالية” و وصف كيف تسبب ذلك الفيلم مع فيلم أخر فى تسمية القنبلتين الذان جري تطويرهما و صنعهما تحت إشرافه حيث يقول :
في معسكرنا جلسنا فى مختبراتنا بلوس ألاموس حيث كان من المقرر تجميع القنابل و كان أحدهما هى ” الولد الصغير ” و الأخرى “الرجل السمين” و كنت فى البداية قد أعطيت لتلك القنابل أسماء حركية نسبة لأشكالها حيث كانت القنبلة الأولي فى البداية تحمل لقب “الرجل النحيف ” و كان مقتبس من عنوان رواية بوليسية تحمل نفس الإسم للكاتب “داشيل هاميت” و تم تحويلها مؤخرًا إلى فيلم سينمائي بنفس الإسم أيضا اما القنبلة الثانية فأخترت لها لقب “الرجل السمين” بعد دور ” سيدني جرينستريت ” في فيلم “الصقر المالطي” و خلال التجارب كانت قنبلة “الرجل النحيف” الأصلية طويلة جدًا لدرجة أنها شغلت حيز كبيرا داخل القاذفة من طراز B-29 كما أنه في اختبارات السقوط واجهت القوات الجوية مشكلة في جعل الخطافين يطلقان في وقت واحد لذلك تم استبدالها بنسخة أقصر بكثير و أطلق عليها أسم ” الولد الصغير ” .
و لعل السبب فى اختيار إسم ” الرجل السمين ” الذى أقتبس من فيلم الصقر المالطي هو براعة الممثل ” سيدني جرينستريت ” فى تجسيد تلك الشخصية التى ترشح عنها لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد و الذى بفضل أدائه أعطى لقبا لطيفا لسلاح من شأنه ان يدمر مدن كاملة و يقضى على الألاف من الأرواح أما بالنسبة للقنبلة الأخرى و التى كانت تسمي فى البداية ” الرجل النحيف ” فإن فيلمها كان عن رواية مبهجة تحمل نفس الإسم صدرت عام 1934 و صدر فيلم يجسدها فى نفس العام أيضا و تدور أحداثها حول محققين متزوجين و مدمنين على الكحول يحققان فى احدى جرائم القتل و يؤمنون بأن الحياة يجب ان تكون من أجل الشرب و المزاح و المزيد من الشرب .
أقرأ أيضا : مزرعة الحيوانات .. فيلم الرسوم المتحركة الذى قامت المخابرات الأمريكية بإنتاجه لمحاربة الشيوعية
و بكل تأكيد لا شيء يغير حقيقة أن فيلم “الصقر المالطي” لا يزال أحد الإنجازات العظيمة التى قامت بها ” هوليوود ” على المستوى الفنى فهو لا يزال فيلمًا رائعًا و حقق نجاحًا كبيرًا جعل “همفري بوجارت” في مرتبة متقدمة خلال نجوميته مما سمح له أخيرًا ببطولة فيلم رومانسي أخر فى العام التالي و هو ” كازابلانكا ” و بمشاركة الممثل ” سيدني جرينستريت ” أيضا الذى لا نعتقد ان المواطنين فى “اليابان” يكنون له الود رغم ان ذلك الامر كان خارجا عن إرادته .