شهد العالم فى منتصف القرن الماضى مأساة الحرب العالمية الثانية التى امتدت نيرانها لتأكل الأخضر و اليابس فى كل مكان من بقاع كوكب الأرض و خلفت ورائها خسائر مادية و بشرية ضخمة من المدنيين و العسكريين الذين كانوا قواما للعديد من الجيوش المتحاربة و رغم ما تخللته تلك الحرب من معارك ضارية فى ميادين القتال الا أنها احتوت على صراعات أخرى لا تقل شراسة عنها فى الكواليس بين الأجهزة الإستخبارية التابعة للدول المشاركة اضافة الى انخراط العديد من المنظمات الإجرامية مثل المافيا في أحداثها و يصبح لها هى الأخرى دورا لا يمكن إنكاره بعد أن قررت الولايات المتحدة الإستعانة بخدماتهم فى العديد من المهمات أبرزها عمليتي العالم السفلي و هاسكي لترجيح كفة الحرب الى صالحهم .
فمع إعلان الولايات المتحدة دخولها الحرب رسميا كانت قلقة بشأن العدد الكبير من المواطنين الأمريكيين ذوي الأصول التى تنحدر من اليابان و إيطاليا و ألمانيا حيث كانوا يخشون من أنهم قد يكونوا متعاطفين مع قضية المحور و هو ما يمكن أن يشكل تهديدا للأمن القومي و مع حلول عام 1942 بدأت الشكوك في التركيز على الموانئ البحرية الشرقية بعد أن اشتعلت النيران فجأة في سفينة حربية أمريكية أثناء وجودها في ميناء “مانهاتن ” و كان من الواضح لدى السلطات أنه عمل تخريبي حيث تبدأ التحقيقات مع العديد من عمال الموانئ الأمريكيين الذين ينحدرون من أصول إيطالية و يعيشون في تلك المنطقة و عندما فشلوا فى الوصول الى أى شئ طلبت الحكومة المساعدة من مصدر غير متوقع و هو تنظيم المافيا الاجرامى حيث تواصلت القوات البحرية التي كانت مسؤولة عن العملية مع زعيم المافيا “سالفاتور سي لوكانيا” و المعروف باسم “لاكي لوتشيانو” في ذلك الوقت و الذى كان يقضى عقوبة بالسجن لمدة تراوحت ما بين 30 الى 50 عاما بتهمة الدعارة القسرية حيث عرضت عليه صفقة يحصل بموجبها على عقوبة مخففه مقابل مدهم ببعض من المعلومات و مساعدتهم فى عملهم و وافق “لوتشيانو ” على العرض .
و بموجب الصفقة التى عقدت أمر ” لوتشيانو ” رجاله بإبلاغ السلطات عن أي نشاط مشبوه على طول الأرصفة و الواجهات البحرية كما ضمن للسلطات عدم حدوث أى إضرابات بين عمال الميناء و بالفعل كان من الملاحظ أنه من بعد عام 1942 لم يتم تدمير أي سفن أخرى و لم تكن هناك أى إضرابات بين عمال الرصيف في مدينة “نيويورك ” و لم يتوقف الإستعانة بتنظيم المافيا عند ذلك الحد فمع احتدام الحرب بدأ الحلفاء في صياغة خططهم لغزو “إيطاليا” و أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في العملية و قررت بسرعة أن جزيرة “صقلية” يجب أن تؤخذ أولاً و للمساعدة في الاستعداد لذلك الغزو دعت الحكومة الأمريكية شركائها القدامى و هم “لوتشيانو” و باقى رجاله للتعاون معهم مجددا لعدة أسباب منها أن “المافيا” ليسوا من محبي الديكتاتور الإيطالي “بينيتو موسوليني” و الذى قام بقمع تنظيمهم بوحشية كبيرة و دفعهم إلى الاختباء و الأهم من ذلك أن “لوتشيانو” و رفاقه كان لديهم اتصالات مع أفراد يعيشون فى “صقلية” و القادرين على تزويد الأمريكيين بالمعلومات الأساسية و الدعم اللوجستي اللازم للغزو حيث وفقا لتقرير صادر عن هيئة الأركان المشتركة فقد تمت التوصية بذلك تمهيدًا للغزو مع النصح بإقامة اتصالات مع القادة الانفصاليين و العمال الساخطين و الجماعات الراديكالية السرية مثل المافيا و غيرها و تقديم كل مساعدة ممكنة لهم .
و نتيجة الاتفاق دعت حكومة “الولايات المتحدة” شركائها من رجال المافيا إلى المساعدة فى “العملية هاسكي” من خلال تقديم رسومات و صور لساحل “صقلية” و مرافئها و هو ما حدث بالفعل حيث تلقوا كميات كبيرة من المعلومات و الصور التى تم استخدامها لتخطيط الإنزال البرمائي للحلفاء الذي بدأ في يوليو من عام 1943 حتى أن بعض من هؤلاء الرجال قد قاموا بالقتال جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية ضد الألمان و الإيطاليين و وفقًا لمعظم الروايات فقد كان “لوتشيانو” جزءًا لا يتجزأ من تسهيل هذه العملية حتى أنه عرض الذهاب شخصيًا إلى “صقلية” للمساعدة في المجهود الحربي و بعد ثمانية و ثلاثين يومًا من الغزو نجح الحلفاء في طرد القوات الألمانية و الإيطالية من صقلية و تنتهى المعارك بها رسميا .
و حتى يومنا هذا لا يزال مدى المساعدة التي قدمها “لوتشيانو” و المافيا في عمليتي العالم السفلي و هاسكي محل نقاش ساخن حيث قال الكاتب الصحفى ” والتر وينشل ” أن مساهمات “لوتشيانو” في المجهود الحربي كانت واسعة جدًا لدرجة أنه كان يُنظر إليه للحصول على وسام الشرف بينما يعارض ذلك كتاب أخرين مثل ” سلوين راب ” الذى أشار إلى أن “لوتشيانو” كان يفتقر إلى الاتصالات الصقلية فى العملية الأخيرة لإحداث فرق جوهري فى تلك الحرب و لكن المراقبين المحايدين يقولون ان الحقيقة تكمن على الأرجح بمكان ما في الوسط فوفقًا لمحامي “لوتشيانو” قد قام بتحديد أماكن العديد من الإيطاليين المولودين في صقلية و الذين قدموا بالفعل معلومات ذات قيمة عسكرية عن الظروف في “صقلية” و أنه ساعد السلطات العسكرية لمدة عامين في التمهيدات التي أدت إلى غزو الجزيرة .
أقرأ أيضا : عملية البلوط .. تفاصيل تحرير الديكتاتور الإيطالي موسولينى من الأسر علي يد القوات الخاصة الألمانية
و بعد انتهاء الحرب في صيف عام 1945 قدم “لوتشيانو” الذي كان لا يزال يقضي عقوبة السجن التماسًا من ولاية “نيويورك” للحصول على الرأفة التنفيذية و أصر على أن تعاونه في كل من عمليتي العالم السفلي و هاسكي تضمن حريته الفورية و في يناير عام 1946 منحه حاكم الولاية “توماس ديوي” الرأفة التى طلبها شريطة أنه لا يمكنه البقاء في “الولايات المتحدة” وكان لزاما عليه الرحيل إلى “إيطاليا ” حيث ولد و كان يبدو أن “لوتشيانو” كان مستاءً للغاية لأنه اضطر إلى مغادرة “أمريكا” و في يوم 9 من فبراير تم وضعه على متن سفينة متجهة إلى “إيطاليا” و لم يعد أبدًا إلى “الولايات المتحدة” الا أنه و على الرغم من نفيه هناك ظل شخصية قوية لديها نفوذ داخل المافيا في كل من إيطاليا و الولايات المتحدة حتى وفاته عام 1962 .