في النصف الأول من القرن العشرين كانت شركة الفواكه المتحدة و هي مؤسسة متعددة الجنسيات تسيطر علي مساحات شاسعة من الأراضي في جواتيمالا و علي مدي عقود من الإستغلال الإقتصادي لم تتلقي سوي القليل من المقاومة نتيجة مساعدة الحكم الإستبدادي الفاسد الذي كان موجود بها تلك الفترة لكن مع حلول الأربعينيات بدأت تواجه العديد من المخاطر الحقيقية عقب قيام ثورة إجتاحت البلاد و كان من أهم أهدافها بأن تكون خيراتها لمواطنيها و هو ما هدد بتقويض الشركة و أنشطتها و نظرا لوجود علاقات قوية لها داخل البيت الأبيض في الولايات المتحدة فقد قامت بتصوير الحكومة الجواتيمالية الجديدة علي أنها إدارة شيوعية تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة و نتيجة لذلك أطلقت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA عملية الإنقلاب الكاسح PBSuccess التي دمرت الديمقراطية الوليدة في تلك البلد و أشعلت شرارة حرب أهلية أستمرت لعقود من الزمن و ساهمت في إبادات جماعية لشعوب المايا الأصليين .
كان يتحكم في إقتصاد ” جواتيمالا ” في النصف الأول من القرن العشرين منتج واحد فقط و هو الموز لذلك أُطلق علي البلد لقب “جمهورية الموز” و هو مصطلح مهين ينطبق غالباً على البلدان الفقيرة التي تعتمد إقتصادياتها علي محصول واحد مثل الموز في تلك الحالة و عادة ما كان يحكم هذه البلدان سياسيين فاسدين و في تلك الأثناء هيمنت شركة الفواكه المتحدة على صناعة الموز في البلاد و وصلت سيطرتها إلي 42% من أراضي ” جواتيمالا ” و أكثر من ثلثي صادراتها و التحكم في أنظمة الهاتف و التلغراف و بفضل حمايتها من قبل الرئيس الجواتيمالي “خورخي أوبيكو” لم تواجه الشركة أي مقاومة تُذكَر بسبب الرشاوى التي كانت تدفعها بإنتظام للمسئولين لغض الطرف عن الأجور الضئيلة التي يتلقاها العمال و الإنتهاكات التي كانت تحدث لهم .
و مع حلول يونيو عام 1944 بدا أن الأمور في طريقها للتغير بعد أن أجبرت الثورة الجواتيمالية الرئيس ” أوبيكو ” علي الإستقالة بعد أكثر من عقد من الزمان قضاها في السلطة و أجرت البلاد أول إنتخابات شرعية في التاريخ و التي أوصلت الإصلاحيين الليبراليين إلي السلطة و الذين وعدوا بإدخال حد أدنى للأجور و بناء 6000 مدرسة و بحلول عام 1951 و مع إنتخاب العقيد السابق ” جاكوبو أربينز ” بدأت ” جواتيمالا ” في التطلع إلي هدف أكبر و هو إستعادة السيطرة علي اقتصادها و طوال تلك الفترة كانت شركة الفواكه المتحدة تراقب الثورة الديمقراطية بقلق بالغ لإدراكها بمدي التهديد الواضح الذي سيقع عليها بسبب ممارساتها التجارية الإستغلالية .
و تحولت مخاوف شركة الفواكه المتحدة إلي أمر واقع حين أصدرت إدارة أربينز “المرسوم رقم 900” و الذي بموجبه يتم إعادة توزيع الأراضي الغير مستغلة و يملكها كبار أصحاب الملاك على أكثر من 100 ألف أسرة جواتيمالية من المزارعين الذين لا يمتلكون أراضي و بطبيعة الحال كانت تشمل الكثير من الأراضي التابعة لشركة الفواكه المتحدة حيث قامت الحكومة بتسعير كل فدان إستولت عليه بإستخدام التقييمات التي أدرجها أصحاب العقارات في إقراراتهم الضريبية السابقة و دفعت الثمن و هو ما سبب ضرر كبير للشركة التي كانت تقلل من قيمة ممتلكاتها بشكل متسلسل لتجنب الضرائب و على هذا النحو بحلول نهاية عام 1952 كانت إدارة أربينز قد إستصلحت نحو 40% من أراضي الشركة بتكلفة قليلة .
و بطبيعة الحال أمام تلك الخسائر الضخمة لم تستطيع شركة الفواكه المتحدة من الجلوس و تقبل الأمر لذلك كانت بحاجة إلى دعم الحكومة الأمريكية لوقف سياسات ” أربينز ” و نظرا أن تلك الفترة كانت في السنوات الأولي للحرب الباردة بدأت الشركة بوضع إستراتيجية صورت ” جواتيمالا ” كعدو شيوعي في الصحافة الأمريكية و قد ساعدت إتصالات الشركة مع المسئولين في مهمتهم حيث كان وزير الخارجية ” جون فوستر دالاس ” محاميًا سابقًا لديها و كان شقيقه ” ألين دالاس ” مدير وكالة المخابرات المركزية CIA عضوًا سابقًا في مجلس إدارتها و كان مدير العلاقات العامة في الشركة ” إد ويتمان ” متزوجًا من السكرتيرة الشخصية للرئيس “دوايت أيزنهاور ” لذلك لم تكن الشركة بحاجة إلى الضغط بقوة حيث كان الرئيس الأمريكي ” أيزنهاور ” حريصًا على أن يُظهر للعالم أوراق إعتماده المناهضة للشيوعية لذلك بموجب أوامره بدأت وكالة المخابرات المركزية في صياغة عملية الإنقلاب الكاسح PBSuccess في أغسطس من عام 1953.
و كان الهدف المعلن من عملية الإنقلاب الكاسح PBSuccess هو إزالة خطر حكومة ” جواتيمالا ” الحالية التي يسيطر عليها الشيوعيين سرًا و لتحقيق هذا الهدف قامت وكالة المخابرات المركزية بتجنيد ضابط عسكري سابق ساخط من ” أربينز ” يدعى ” كارلوس كاستيلو أرماس ” و الذي كان يكن مشاعر مناهضة للحكومة لذلك قام بتجميع جيش من بضع مئات من الرجال تم تزويدهم و دعمهم بالمعدات و الأسلحة و المعلومات الإستخبارية و في 18 يونيو عام 1954 هاجم مع رجاله بدعم لوجستي من ” الولايات المتحدة” التي قامت بإطلاق حملة دعائية لتحذير الجمهور الجواتيمالي و ” أربينز ” من حدوث غزو كبير و أنشئت محطة إذاعية سرية قامت بالتشويش على الإشارات الجواتيمالية و أغرقت موجات الأثير برسائل مبالغ فيها إلى حد كبير حول طبيعة ذلك الهجوم و تم إستئجار طيارين أمريكيين ماهرين لقصف الحصون و النقاط الإستراتيجية في ” جواتيمالا ” كما إعتمدت المخابرات الأمريكية علي جواسيس داخل الجيش و الحكومة الجواتيمالية لتقويض سلطة الرئيس ” أربينز ” و إحباط معنويات مؤيديه و عرقلة أي جهود لمواجهة ” أرماس ” و نجحت الحرب النفسية بعد أن سيطر الذعر على العاصمة و بدأ أنصار ” أربينز ” يفقدون ثقتهم في أنفسهم و ظهر ذلك جليا حين حاول الرئيس إنشاء ميليشيا خاصة به و لم يحضر سوى بضع مئات من المدنيين و في 27 يونيو عام 1954 أي بعد تسعة أيام فقط من بدء العملية إستقال ” أربينز ” و طلب اللجوء في السفارة المكسيكية ثم فر من البلاد بعد ذلك .
و رغم أن السلطات الأميركية كانت سعيدة بالإنقلاب الذي نفذته وكالة الإستخبارات المركزية إلا أن بلداناً أخرى لم تتردد في التعبير عن إشمئزازها بشكل واضح فحين وصف ” ألين دالاس ” الإنقلاب بأنه انتصار “للديمقراطية” على الشيوعية شبه مسؤول بريطاني تصريحه بـ “تحدث هتلر عن النمسا” كما أدانت الصحف في جميع أنحاء العالم الإنقلاب في “جواتيمالا ” و وصفته بـ “الإستعمار الاقتصادي” و من ناحية أخرى تبين أن وصف الإنقلاب في ” جواتيمالا ” بإعتباره إنتصار للديمقراطية كان أمراً مبالغاً فيه لأنه سرعان ما ألقي ” أرماس ” القبض علي آلاف من المعارضة و وصفهم بالشيوعيين و ألغي الدستور الديمقراطي و تم تفكيك الإصلاحات التقدمية في البلاد مثل النقابات العمالية و بطبيعة الحال تم الترحيب بعودة شركة الفواكه المتحدة .
و كان لهذا النظام الجديد آثار عميقة على ” جواتيمالا ” على مدار الثلاثين عامًا التالية فبداية من عام 1960 و حتي عام 1996 إجتاحت البلاد حرب أهلية قاتل فيها المتمردين اليساريين الذين يتمتعون بدرجة كبيرة من الدعم الشعبي ضد القوات الحكومية المزودة بالأسلحة الأمريكية و كانت أكبر هذه الجماعات المتمردة هي “جيش الفقراء ” و هي قوة من المتمردين ضمت ما يصل إلى 270 ألف عضو معظمهم كان من عرقية المايا و في محاولة للقضاء على المعارضة بدأ النظام إتباع سياسة “الأرض المحروقة” ضد معارضيه حيث قام بسجن و إبادة عرقية المايا بشكل منهجي و خلصت لجنة التوضيح التاريخي التي ترعاها الأمم المتحدة عام 1999 إلى أن تدريب ” الولايات المتحدة ” للضباط على تقنيات مكافحة التمرد كان له تأثير كبير على إنتهاكات حقوق الإنسان أثناء المواجهة المسلحة حيث اليوم تُعرف هذه الفترة من التطهير العرقي بإسم “الإبادة الجماعية في جواتيمالا” أو “المحرقة الصامتة” التي قُتل فيها حوالي 200 ألف شخص معظمهم من سكان المايا الأصليين .
أقرأ أيضا : دليل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التدريبي لتصبح جاسوسا ماهرا
و لعقود من الزمن تم إخفاء الوثائق المتعلقة بعملية الإنقلاب الكاسح PBSuccess و لكن تم رفع السرية عنها في السنوات الأخيرة و التي بعد نشرها خلقت إنطباع إلي أن تاريخ ” الولايات المتحدة ” الطويل و البغيض في التدخل بالبلدان النامية كان واضحاً على نحو متزايد خلال تلك الفترة و في حين إنتهت الحرب الأهلية في “جواتيمالا” بإتفاق سلام بين الحكومة و المقاتلين المتمردين لا تزال البلاد تكافح من أجل التأقلم مع آثار تلك الحقبة الوحشية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من السكان الأصليين أما بالنسبة لشركة الفواكه المتحدة فقد تم تغيير علامتها التجارية عام 1984 و لا تزال تبيع الموز في جميع أنحاء العالم و تعتبر حتي اللحظة الموزع الرائد للموز في ” الولايات المتحدة ” .