تحدثنا كتب التاريخ بأن الحرب العالمية الثانية قد انتهت رسميا عام 1945 و لكن من الواضح أن الأمر كان يختلف لدى بعض ممن شاركوا بمعاركها فى المناطق النائية و الذين ظنوا أنها لا تزال مستمرة حيث كان واحدا منهم هو أحد الجنود التابعين للجيش الأمبراطورى اليابانى و يدعى شويتشي يوكوي الذى كان آخر ناجٍ من حامية يابانية قوامها 20 ألف رجل يتمركزون فى جزيرة جوام بالمحيط الهادئ و تمكن الجيش الأمريكى من القضاء علي معظمها خلال معارك شرسة و لكنه تمكن من الفرار الى المناطق الداخلية الوعرة بها و يستقر لما يقرب من 28 عامًا يختبأ فيها نهارًا داخل نفق رطب كان قد حفره بنفسه بإحدى قذائف المدفعية و عند حلول الليل يخرج من مخبأه للبحث عن الطعام و كل ذلك و هو لا يعرف أن بلاده قد أستسلمت أمام الولايات المتحدة الى أن عثر عليه بمحض الصدفة .
بدأت القصة فى يناير عام 1972 حين عثر اثنان من الصيادين المحليين في جزيرة “جوام” على رجل محنى الظهر و يرتدي ملابس قذرة في وقت متأخر بينما كان يضع أفخاخا مصنوعة يدويا لصيد الجمبرى و عند مشاهدته لهم حاول الهرب الا انهم تمكنوا منه و قيدوه خلف ظهره و اقتادوه إلى سلطات الجزيرة التي صدمت عند رؤيته و من القصة التي رواها اليهم فى أنه رجل يابانى يحمل اسم ” شويتشي يوكوي ” ولد عام 1915 فى محافظة “أيتشي” في “اليابان” و عاش طفولته وحيدا مع امه ثم عمل خياطًا متدربًا و نظرا الى فقره فقد كان يمتلك جسدا نحيلا لدرجة انه عند استدعائه للخدمة العسكرية فى منتصف الثلاثينيات لم يتم قبوله لعدم لياقته البدنية ثم طلب مجددا لحاجة البلاد الى مقاتلين جدد و تم تجنيده عام 1941 ليخدم فى فرقة المشاة التاسعة و العشرين في منطقة “مانشوكو” و في عام 1943 تم نقله إلى الفوج 38 بجزر ماريانا و وصل إلى “جوام” في فبراير عام 1943 و عندما استولت القوات الأمريكية على الجزيرة في “معركة جوام” عام 1944 قامت بالقضاء على على 90% من تلك الحامية خلال المعارك الشرسة ثم بدأت فى تتبع الفارين منهم حيث اختبأ هو مع تسعة جنود يابانيين آخرين فى احد المناطق و بعدها رحل سبعة منهم و في النهاية بقي ثلاثة منهم فقط ثم أنفصلوا لاحقا داخل أدغال الجزيرة الا أنهم كانوا يتزاورون بشكل دوري حتى عام 1964 الى ان ماتا صديقيه خلال احدى الفيضانات و البعض يقول انه كان نتيجة تسممهم .
و على مدار السنوات الثماني اللاحقة عاش ” شويتشي يوكوي ” بمفرده و استطاع البقاء فى مكانه ما يقارب نصف عمره تقريبا فى ذلك الوقت من خلال قيامه بالصيد الذى كان يقوم به ليلا و بعد أن تحلل زيه العسكرى بسبب الحرارة و الرطوبة الاستوائية اكتشف كيفية استخلاص الألياف من لحاء الشجر و تدويرها في خيوط و نسج هذا الخيط في قطعة قماش من الخيش و صمم هذا في قمصان و سراويل مناسبة بشكل مدهش حيث كانت تلك الملابس تحميه من الشمس الاستوائية و لدغات البعوض حيث كانت عملية صنعها و حياكتها التي استغرقت عدة أشهر عاملا مساعدا لحماية عقله حيث قال لاحقًا: “ربما كان من الجيد في الواقع لحالتي العقلية أن أبقي نفسي مشغولًا تمامًا بالأعمال اليومية حيث استمديت البهجة و الرضا فى كل لحظة من هذه الأنشطة ” كما لم تتوقف ابتكاراته في البقاء عند هذا الحد بل تعلم كيفية حفر الأنفاق بأدوات بدائية و حمايتها من الفيضانات أو الانهيارات و أبتكر أيضا مرشحًا من قشر جوز الهند لتقليل الدخان المنبّعث من حرائق الطبخ تحت الأرض لعدم لفت الانتباه كما تعلم أيضًا كيفية استئصال الغدد السامة لضفادع القصب التي زودته بالبروتين الذي يحتاجه بشدة و بدأ لاحقًا في تربية البرمائيات العملاقة في نفقه من أجل السيطرة على الصراصير و الحصول على الرفقة و قام ببناء مصائد للقريدس و فئران الحقول و تمكن من تمويه مدخل نفقه بالخيزران ليكون غير مرئي للعين غير المدربة .
و كان ” شويتشي يوكوي ” بصحة جيدة نسبيا عند العثور عليه حيث كان يبلغ من العمر وقتها 56 عاما و يزن 41 كيلوجرام لكنه كان يعاني من فقر للدم بشكل طفيف بسبب نقص الملح في نظامه الغذائي و كان قد فقد سبعة أسنان و عانى من مرض بري خفيف كما أدى انخفاض السعرات الحرارية إلى محو أي اهتمام لديه بالجنس و نادرًا ما كان يأكل اللحوم الحمراء و هو ما جعل مستويات البروتين في دمه منخفضة كما انه اعتاد على ممارسة التمارين الرياضية بإنتظام و يقوم بغلى مياه الشرب بعناية و يستحم ليلا في مجرى الصيد و كل هذا كان يعني أن قلبه كان بصحة جيدة و أن جسده خالي من الطفيليات و وفقًا للأطباء في مستشفى “جوام” فقد كان نظامه الغذائي يشمل المكسرات البرية و المانجو و البابايا و الجمبري و القواقع و الضفادع و حتى الجرذان و كان معتادا على مشاهدة الطائرات فى السماء من مكانه و يلاحظ أنهم جميعا لا يحملون أى علامات يابانية حيث سمع في سنواته الأولى في الغابة مكبرات الصوت تزعم أن الحرب مع اليابان قد انتهت و لكنه لم يصدق نظرا لأنه نشأ في دولة عسكرية و قومية متطرفة لذلك كان يتوقع أن يقاتل أفراد الجيش الإمبراطوري الياباني حتى الموت الا انه قد تفاجئ بحدوث الكثير من المتغيرات العالمية خلال اختفائه فهو لم يشاهد التلفاز من قبل و لم يكن يعرف أن الرجال قد ساروا على القمر و لم يسمع قط عن القنبلة الذرية و لا يعرف ماذا يفعل بالعبوات الورقية الصغيرة التي وجدها في صينية الإفطار الخاصة به في مستشفى “جوام” و التى كانت عبارة عن ملح و فلفل و قد سأل المراسلين في أول مؤتمر صحفي له عما إذا كان فرانكلين روزفلت لا يزال رئيسًا للولايات المتحدة و لكنهم اجابوه بأنه قد مات منذ أكثر من 26 عامًا .
و عاد ” شويتشي يوكوي ” الى اليابان فى مارس عام 1972 و كان فى استقباله أكثر من 5000 رجل و امرأة و تلميذ يلوحون له بالأعلام في ظهيرة شتاء ملبد بالغيوم لتشجيعه و الشد من أزره اضافة الى ملايين المشاهدين الذين تابعوا وصوله الى ” طوكيو ” خلال شاشات التلفزيون ليعلق أمامهم و يقول للحشود “أعود مع إحراج كبير” لتصبح هذه المقولة من الإقتباسات الشهيرة فى البلاد حيث قال أنه كان يعلم منذ عام 1952 بأن الحرب العالمية الثانية قد انتهت لكنه كان يخشى الخروج من مخبأه موضحًا بأنه قيل لهم ” نحن الجنود اليابانيين نفضل الموت على أن يتم أسرنا أحياء ” لذلك فقد فضل البقاء على العار الذى سيلحق به لعدم موته فى أرض المعركة , كما أثارت مجموعة أدوات النجاة الخاصة به اهتمامًا شديدًا لدرجة أن عشرات الآلاف من سكان طوكيو اصطفوا لساعات لرؤيتها معروضة في متجر متعدد الأقسام بوسط المدينة و بعد أن قام بجولة إعلامية سريعة في البلاد تزوج واستقر في مسقط رأسه و أصبح شخصية تلفزيونية مشهورة و داعية للحياة البسيطة و على الرغم من أنه لم يقابل الإمبراطور “هيروهيتو” أبدًا أثناء زيارته لأرض القصر الإمبراطوري الا انه صرح خلال تلك الزيارة قائلا “أصحاب الجلالة لقد عدت إلى الوطن و أشعر بالأسف الشديد لأنني لم أتمكن من خدمتك بشكل جيد و رغم تغير العالم بالتأكيد الا أن إصراري على خدمتك لن يتغير أبدًا ” و ذلك وفيا على ذلك العهد الى أن توفي عام 1997 بنوبة قلبية عن عمر يناهز 82 عامًا .
و لم يكن ” شويتشي يوكوي ” آخر جنود الإمبراطور الذين عادوا الى بلادهم بعد فترة طويله حيث ظهر اثنان آخران أحدهما ضابط ياباني بعد عامين من العثور على ” يوكوي ” و الآخر من أصل تايواني تم تجنيده في الجيش الياباني و عُثر عليه يزرع في “إندونيسيا” الا أن بطلنا كان أول من برز بعد 12 عاما من الهدوء و هي الفترة التي نجحت فيها اليابان إلى حد كبير في وضع الحرب العالمية الثانية وراءها و تصبح ديمقراطية نابضة بالحياة .