فى صيف عام 1976 أنحرفت حافلة محملة بالركاب عن طريقها و سقطت في بحيرة يريفان في دولة أرمينيا التي كانت وقتها إحدي دول الإتحاد السوفيتي و بينما كان الناس في المكان يتابعون المشهد في رعب قفز من بينهم شاب يبلغ من العمر 23 عاما في الماء و لديه هدف واحد ألا و هو إنقاذ أكبر عدد ممكن من الركاب العالقين و غاص إلي الحافلة المغمورة و تمكن من كسر إحدي النوافذ بقدميه ثم بدأ في سحب عدد من الركاب اليائسين واحدا تلو الأخر إلى بر الأمان في عملية إنقاذ أستمرت لنحو 20 دقيقة بدون توقف و بعد نجاحه في إتمام مهمته بذلك العمل الإنساني تم التعرف عليه بأنه شافارش كارابيتيان أحد أبطال أرمينيا في رياضة السباحة و الذي عرف عنه لاحقا أن ذلك الحادث لم يكن هو الأول و لا الأخير الذي يعرض فيه حياته للخطر من أجل إنقاذ غرباء .
و كانت حياة ” شافارش كارابيتيان ” حافلة بالبطولات الرياضية و الإنسانية حيث ولد في 19 مايو عام 1953 بأرمينيا و خلال طفولته تنبأ له الجميع بأنه سيكون رياضي ناجح و بتشجيع من والده بدأ “شافارش كارابيتيان” حياته الرياضية لأول مرة في لعبة الجمباز لكن مدربه قال له بأنه بدأ متأخرا جدا ليصبح بطلا فيها و هو ما دفعه إلي تركها و الإنتقال لممارسة السباحة و نتيجة إفتقاره إلى المرونة اللازمة أستقر أخيرًا على لعبة سباحة الزعانف و ذلك بسبب إمتلاكه لبنية قوية و طاقة غير محدودة و هي ميزة كبيرة لمثل ذلك النوع من السباحات التي تشترط من السباحين ربط الزعانف بأقدامهم أثناء ممارستهم لذلك النشاط بالإضافة إلي قطعهم لمسافات طويلة قد يكون بعضها أسفل المياه مما يتطلب الإعتماد علي خزانات للأكسجين أما في حالة كانت المسافة بسيطة فيكتفي بحبس الأنفاس .
و عقد ” شافارش كارابيتيان ” العزم علي تشريف والده لذلك تدرب بجد و كان يركض لمسافات تصل إلى 30 كيلومتر في اليوم بحقيبة ظهر مليئة بالرمال و أعتاد أن يهرول بألواح مربوطة علي قدميه كما تدرب على حبس أنفاسه لأوقات طويلة و مع مرور الوقت بدأ عمله الشاق في جني الثمار بمشاركته و فوزه بالعديد من البطولات أبرزها بطولة أوروبا التي أقيمت بمدينة ” موسكو ” عام 1972 و حصل فيها علي الميدالية الذهبية في سباقي 50 و 100 متر و أظهر براعة كبيرة خلال سباحته لدرجة أن مجلة سوفيتية قالت عنه بأنه في القريب سيكون هذا الرياضي الشاب القادم من “أرمينيا” بطلا عالميا في تلك اللعبة و سيحصد العديد من البطولات الكبرى لصالح الإتحاد السوفيتي .
و خلال ذلك الوقت تقريبا أثبت ” شافارش كارابيتيان ” أنه ليس بطلا رياضيا فحسب لكنه أظهر شجاعة كبيرة في مواجهة الخطر بعد أن كان عام 1974 على متن حافلة متجهة إلى مركز رياضي و أثناء تحركها تعرضت لأعطال و عندما نزل السائق لإلقاء نظرة على المحرك كان قد نسي استخدام فرملة اليد بشكل جعل الحافلة تندفع إلي الخلف تجاه ممر ضيق و لكن لحسن الحظ أندفع ” كارابيتيان ” بسرعة إلي مكان السائق و تولي زمام الأمور بتشغيله فرملة اليد متجنبًا وقوع كارثة حقيقية ثم بعد عامين إتخذت حياته منعطفا مفاجئًا و مؤلمًا بعد أن تم إستبعاده من المنتخب السوفيتي دون إبداء أي أسباب ربما لأنه كان قد مرض مؤخرا أو لأنه كان أرمينيًا و لكن ذلك لم يمنع من أن يواجه كارثة أخري و يثبت للمرة الثانية أنه شخص يتسم بالشجاعة و أنه بطل حقيقي من الطراز الأول .
وقع ذلك الحادث يوم 16 سبتمبر عام 1976 حين كان ” شافارش كارابيتيان ” يقوم بالجري حول البحيرة الإصطناعية في وسط عاصمة البلاد ” يريفان ” بغرض التخلص من إحباطه و كان برفقته شقيقه و مدربه و أثناء ركضه لمسافة 20 كيلومتر و هو يضع كيس من الرمل يزن 20 كيلوجراما على ظهره سمع فجأة صوت ضوضاء عالية و نظر ليجد حافلة قد أنحرفت عن الطريق و تسقط مباشرة في البحيرة حيث أدلى شهود في وقت لاحق بأقوال متضاربة حول كيفية حدوث ذلك قائلين أن السائق قد تشاجر مع أحد الركاب حول التوقف أو أنه كان قد أصيب في رأسه من قبل أحد النشالين و لكن أي كان السبب الحقيقي لكن في تلك اللحظة ركض “شافارش كارابيتيان” إلى البحيرة ثم أخذ نفسا عميقا و قفز في المياه و غاص أسفلها علي عمق 4.5 متر تقريبا متجها نحو الحافلة الغارقة و و بعد تمكنه من كسر إحدي النوافذ الخلفية بقدمه دلف إلي الداخل و أمسك بأحد الركاب .
و يقول “شافارش كارابيتيان” أن أصعب لحظة مرت عليه أثناء محاولة إنقاذه للركاب هي كسر نافذة الحافلة حيث تسبب الزجاج المكسور في إصابة ساقه و كان الألم حينها لا يطاق و لكن لم يفكر في الأمر لأنه لم يكن هناك أي وقت كافٍ لذلك كان يتنقل مرارًا و تكرارًا لنحو أربعين مرة و نجح في إنتزاع أكبر عدد ممكن من الناس حيث كان يسحبهم إلي أعلي ثم يقوم بعد ذلك بتسلميهم لأخيه الذي كان هو أيضًا بطلًا في السباحة لكنه ظل على السطح لنقل الأشخاص إلى الشاطئ و ظل “شافارش كارابيتيان” يمارس عمله حتى توسل إليه عمال الإنقاذ بالتوقف لكنه أستمر في الغوص حتى ظهر مع وسادة فقط و حينها أدرك أنه بدأ يشعر بالتشوش و عدم التركيز بسبب نقص الأكسجين في جسده حتي أنه قال أن الكوابيس راودته كثيرا حول تلك الوسادة لفترة طويلة لأنه كان يريد أن ينقذ حياة شخص أخر .
و في النهاية تمكن “شافارش كارابيتيان” من إخراج 37 شخصًا من البحيرة نجا 20 منهم نتيجة إنقاذه المباشر و نجح تسعة أخرون من الخروج بمفردهم عبر النافذة المكسورة و بعد إنتهاءه من مهامه تم تضميد جروح ساقه و عاد إلى منزله لكن في ذلك المساء أرتفعت درجة حرارته و بدأ يعاني من بعض التشنجات و نتيجة تدهور الحالة قام طبيب الأسرة بنقله إلي المستشفي حيث أمضى عدة أيام في العناية المركزة بعد إصابته بإلتهاب رئوي و تسمم في الدم نتيجة الماء البارد و الملوث و جروح ساقيه و رغم نجاته إلا أنه أصبح من حكم المؤكد أن مسيرته الرياضية قد أنتهت حيث مرت ثلاثة أسابيع قبل أن يتمكن من المشي مرة أخرى و الغريب أنه رغم بطولته لم يعرف مواطني الإتحاد السوفيتي بتلك القصة إلا بعد سنوات لأنه بعد الحادث مباشرة أراد بعض من الصحفيين تغطيته في الصحف لكن ذلك لم يكن مسموحًا به لأنه في “الإتحاد السوفيتي” لم يكن من المفترض أن تسقط الحافلات في الماء .
و رغم محاولات ” شافارش كارابيتيان ” في العودة مجددا لممارسة السباحة إلا أنه بسبب الحادث أدي إلي الإضرار بجهازه التنفسي بشكل دائم بالإضافة إلي شعوره بنفور غريب من التواجد في الماء و مع ذلك شارك مرات قليلة أخرى و تمكن من تسجيل رقما قياسيا عالميا في سباق 400 متر في بطولة إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية ثم فاز لاحقا بميداليات ذهبية و برونزية في بطولة أوروبا بالمجر و بعد ذلك تقاعد ” شافارش كارابيتيان ” عن عمر يناهز 24 عامًا تاركا ورائه سجلا حافلا بالأرقام و البطولات من بينها 11 رقماً قياسياً عالمياً و 17 لقبًا لبطولة العالم و 13 لقبًا لأوروبا و سبعة ألقاب للبطولات السوفيتية لكن في واقع الأمر تعتبر بطولته الحقيقية هي حادث الحافلة و التي ظلت مجهولة حتى عام 1982 حين سمع أحد الصحفيين عنها أثناء تغطيته لمسابقة في السباحة و كتب عنها في صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” في “موسكو” و على الرغم من أن المقالة لم تذكر عدد القتلى في الحادث إلا أنها سلطت الضوء على بطولة ذلك السباح .
أقرأ أيضا : جينا ديفيس الممثلة الأمريكية التي أصبحت بطلة رياضية عالمية
و بعد نشر المقالة أصبح ” شافارش كارابيتيان ” بطلاً سوفيتيا و منحته السلطات وسام الشرف و تم تسمية كويكبًا بإسمه و كتب له عشرات الآلاف من المواطنين السوفييت رسائل يعبرون فيها عن تقديرهم لما فعله و كان بإمكانه أن ينال قسط من الراحة إعتمادا علي أمجاده السابقة و لكن في عام 1985 عندما اشتعلت النيران في مجمع الرياضة و الحفلات الموسيقية في “يريفان” و إستكمالا لبطولاته أخترق ألسنة اللهب لإنقاذ العالقين في الداخل كما كان يفعل في السابق أثناء غوصه في البحيرة و بعد ذلك أمضى بقية حياته بهدوء حيث أنتقل إلى “موسكو” و أفتتح شركة أحذية و لم ينساه مواطنيه أبدًا ففي عام 2014 تم تكريمه بنقل الشعلة الأولمبية إلى الكرملين قبل دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في “سوتشي” حيث قال بفخر إنه كان يحمل الشعلة لكل من “روسيا” و “أرمينيا” معا .