صباح يوم عيد الهالوين عام 1938 استيقظ الفنان الشهير أورسون ويلز و الذى كان يبلغ من العمر فى ذلك الوقت 23 عاما من نومه ليفاجئ بأن اسمه و صوره تتصدر الصفحات الأولى من الصحف و المجلات الامريكيه بعد ان كان حديث الولايات المتحدة بأكملها نتيجة الفوضى التى تسبب بها بعد قيامه فى الليلة السابقه بتقديم اذاعى لرواية حرب العوالم الشهيره للكاتب الكبير هربرت جورج ويلز عبر أثير محطة CBS و ظهور بعض من احداثها على هيئة نشرات اخباريه تنقل وصف تفصيلى لغزو كائنات فضائية قادمة من كوكب المريخ لمدينة نيوجيرسي الأمر الذى جعل بعضا من المستمعين يفهمون تلك النشرة بشكل خاطئ و ظنوا أنها حقيقيه بشكل أصاب البلاد جميعها بحالة من الهلع و الهيستيريا الجماعيه .
و بالكاد كان لدى “ويلز” الوقت الكافي لإلقاء نظرة على ما تقوله الصحف التى تناقلت تقارير عن حدوث تدافع جماعي بين الناس و حالات انتحار و انتشار للفوضى بالشوارع بشكل ادى الى توعد الناس له بالقتل فور رؤيته لما تسبب فيه و أصبحت مسيرته المهنية و حتى حريته على المحك حتى أنه قال للعديد من الناس في ذلك الوقت: “إذا كنت يوما قد خططت لتدمير مسيرتي المهنية فلن استطيع أن أفعل شئ أفضل مما حدث ” و ذهب “ويلز” أمام العشرات من المراسلين والمصورين في مؤتمر صحفي تم الترتيب له على عجل في مبنى المحطة ليقدم اعتذاره عما حدث حيث كان السؤال المشترك لجميع الصحفيين هل أنت تعمدت ذلك ام أنه كان أمرا عفويا ؟ .
كانت الاجابة المتوقعة بالطبع وقتها هى نفى التعمد من أجل الهروب من المسئولية و عدم المحاسبه و لكن بعد مرور سنوات و نسيان ذلك الحادث و بالعودة الى مسودات النصوص لتلك الحلقة وذكريات المتعاونين مع ” ويلز ” فستظهر الحقيقة جلية انه بالفعل لم يتوقع اى شخص مشارك فيها ان تحدث كل تلك الضجه و تقديراتهم ان المشاهدين كانوا من الصعب ان ينخدعوا بها خاصة و ان طاقم العمل بالاساس كان يشعر قبل تنفيذها ان تلك القصة سخيفة للغاية و من غير الطبيعى أن تؤخذ على محمل الجد الا أنهم و لمحاولة انجاحها قرروا ان تكون بشكل مثير عن طريق بدء العرض من منتصف الروايه و بداية الغزو من دون التمهيد لها .
بدأت تلك القصة بحلول نهاية أكتوبر عام 1938 حين كان الممثل و المخرج ” أورسون ويلز ” و فرقته متعاقدين مع محطة CBS لتقديم برنامجا اذاعيا يقدم عروضا مسرحيه مقتبسة من الأدب العالمى لمدة 17 أسبوعًا و كان ذلك البرنامج منخفض الميزانية و بدون أى رعاه نظرا لأن نسبة متابعيه ليست بالكثيفه و مع دخول عيد الهالوين أراد “ويلز ” تقديم شيئًا مختلفًا تمامًا عن العروض السابقه حيث وقع الاختيار على رواية ” حرب العوالم ” التى تحكى غزو المريخ لبريطانيا في مطلع القرن العشرين و يقوم الغزاة بهزيمة الجيش البريطاني بسهولة بفضل أسلحتهم المتطورة سواء كانت “الأشعة الحرارية” او “الدخان الأسود” السام و تنتهى القصة بتساقط الغزاة صرعى بفعل الأمراض و الجراثيم التى تمتلئ بها الأرض لعدم امتلاكهم مناعة ضدها و قام ” ويلز ” ببعض من التعديلات عليها لجعلها تخرج بشكل واقعى مع تغيير اماكن الغزو من بريطانيا الى مدن فى الولايات المتحدة و تم تكليف الكاتب ” هيوارد كوخ ” بتنفيذ تلك التعديلات و تحويل الرواية الى دراما اذاعيه و الذى كان يشعر بالضيق منها و عبثا حاول اقناع ” اورسون ويلز ” بتغييرها الى رواية اخرى و لكنه فشل فى اقناعه .
و بدأ العرض يوم الأحد 30 أكتوبر على محطة CBS الساعة 8 مساءً بتقديم تتر الروايه حيث كان ذلك الوقت يمثل الذروة في العصر الذهبي للإذاعة و الذى يجلس فيه ملايين الامريكيين ليستمعون لها الا أن معظمهم فى ذلك الوقت كانوا يستمعون الى احد المسلسلات الكوميديه و التى تعد الاكثر شعبيه و يعرض على محطة NBC و لم ينتبهوا الى حلقة ” ويلز ” على CBS إلا في الساعة 8:12 مساءً بعد انتهاء العرض الكوميدي حيث كان الغزو المريخى و احداثه قد بدأوا على قدم وساق .
كان اخراج ” ويلز ” للحلقة مرعبا حقا حيث بدأ بمقدمة منطوقة تلاها احد المذيعين و هو يقرأ تقرير عن حالة الطقس لينتقل بعدها بالمستمعين إلى غرفة “ميريديان” في فندق “بارك بلازا” وسط مدينة “نيويورك” حيث يتم الاستماع الى موسيقى هادئه ثم يبدأ الذعر بقطع الموسيقى و اقتحام احد المذيعين للمحطة للإبلاغ عن أن البروفيسور “فاريل” قد اكتشف انفجارات على كوكب المريخ ثم تعاود الموسيقى للعزف مرة اخرى تلاها قطع آخر تم فيه إبلاغ المستمعين أن نيزكًا كبيرًا قد اصطدم بحقل احد المزارعين فى “نيو جيرسي” ثم يأتى صوت احد المراسلين فى المكان يصف ما يحدث بأن أحد المريخيين يخرج من اسطوانة معدنية كبيرة من النيزك قائلا : “يا إلهي هناك شيء يتلوى من الظل مثل ثعبان رمادي … الآن انا أرى آخرون … إنها تبدو وكأنها مخالب بالنسبة لي … أستطيع أن أرى جسد ذلك الشيء الآن إنه كبير مثل الدب و يلمع … لكن هذا الوجه … إنه … سيداتي وسادتي إنه امر لا يوصف … لا أستطيع أن أجبر نفسي على الاستمرار في النظر إليه إنه أمر مروع للغاية … العيون سوداء و تلمع مثل الثعبان … الفم على شكل حرف V حيث يقطر اللعاب من شفاهه “ثم يتم الاستطراد بأن المريخيين قاموا بركوب آلاتهم الحربية المتحركه و أطلقوا منها أسلحة بهيئة “أشعة حرارية” على البشر الضعفاء المتجمعين حول موقع التحطم و نجحوا فى القضاء على قوة قوامها 7000 من الحرس الوطني و بعد تعرضهم لهجوم بالمدفعية و القاذفات أطلق المريخيين غازًا سامًا في الهواء فى الوقت الذى تهبط فيه مركبات مريخية اخرى في مدينتى “شيكاغو” و “سانت لويس” .
كانت المسرحية الإذاعية واقعية للغاية حيث استخدم ” ويلز ” مؤثرات صوتية متطورة و قام ممثلوه بعمل ممتاز في تجسيد المذيعين و المراسلين المذعورين خاصة افادة احد المراسلين منهم ووصفه لحالة الذعر التى انطلقت على نطاق واسع في محيط مواقع الإنزال حين حاول الاف اليائسين الفرار.
نتيجة لكل ذلك حدث حالة كبيرة من الذعر بين اوساط المستمعين الذين سمعوا جزءأ من العرض و ظنوا انه حقيقى حيث اندفع الكثير منهم الى التواصل مع الاخرين لابلاغهم بالخبر و تزداد حالة الذعر انتشارا و اتصل الكثيرون منهم بالشرطة و محطة CBS و الصحف للتأكد من ذلك الخبر و طلب المشورة بشأن الإجراءات الوقائية ضد ذلك الغزو و قالت جريدة “النيويورك تايمز” حينها ان الكثير من الناس كانوا بحاجة الى العلاج من الصدمة بعد الهيستيريا التى اصابتهم حيث تسبب البث فى اختناقات مروريه لمحاولات البعض الفرار من منازلهم و مغادرة “نيويورك” و حدوث شلل فى وسائل الاتصالات نتيجة الضغط عليها و هرعت اكثر من 20 أسرة للخروج من منازلها و على وجههم مناديل مبلله و مناشف للفرار مما اعتقدوا أنه غارة بالغاز و قالت جريدة “بروفيدنس” ان الكثير من النساء اتصلن بالجريدة للحصول على المزيد من التفاصيل حول تلك المجزرة اما وكالة “الاسوشيتدبرس” فقد أفادت بأن رجلاً عاد إلى منزله في منتصف البث و وجد زوجته تحمل زجاجة من السم في يدها قائلة له بأنها تفضل الموت بذلك الشكل على ان تموت من المريخيين .
و نتيجة لتلك الهيستيريا و خلال عرض الحلقة على الهواء تلقى مشرف شبكة CBS ” ديفيدسون تايلور ” مكالمة هاتفية في غرفة التحكم ليعود اليهم شاحبًا كالموتى حيث أُمر بمقاطعة بث الحلقة على الفور و الاعلان بأن محتوى ذلك البرنامج خيالى و ليس حقيقى و بدأ لاحقا دخول رجال الشرطة الى المحطة و بعد انتهاء الحلقه بدأوا فى اخراج الممثلين من الاستوديو و التحفظ عليهم و جائت الصحافة لتحيط بالمبنى و يطلق سراح الممثلين و يخرجون من الابواب الخلفيه و على مدار ثلاثة أسابيع نشرت الصحف ما لا يقل عن 12500 مقالة حول البث وتأثيره حتى ان “أدولف هتلر” شخصيا قد أشار الى ذلك البث في خطاب ألقاه في ميونيخ في نوفمبر عام 1938 كدليل على الحالة الفاسدة و المتدهورة للديمقراطية.
و نتيجة للضجة التى حدثت حققت لجنة الاتصالات الفيدرالية في ذلك العرض لكنها وجدت أنه لم يتم انتهاك أي قانون الا انه تم اصدار توصية بأن تكون المحطات أكثر حذراً في عرض برامجها مستقبلا و رغم ان الحادث كان قد اضر بـ ” اورسون ويلز ” فى البدايه الا انه لاحقا ساعده في الحصول على عقد مع استوديوهات هوليوود و في عام 1941 أخرج وكتب وأنتج ومثل دور البطولة في فيلم ” المواطن كين ” و هو الفيلم الذى وصفه الكثيرون بأنه أعظم فيلم أمريكي على الإطلاق.
أقرأ أيضا : مشاهير من هوليوود تم وضعهم فى القائمة السوداء بدعوى تعاطفهم مع الشيوعيه
و رغم ما كتبته الصحف حول وصف حالة الذعر تلك الا ان البعض يشكك فى مدى ردود الفعل الهيستيريه و يعتبرها مبالغ فيها نظرا الى عدم وجود أدلة على امتلاء المستشفيات بشكل جماعى نتيجة تلك الحلقة بالاضافة الى ان البعض يقول ان سبب تضخيم ذلك الحادث فى الصحف هو محاولتها الانتقام من الاذاعه التى بدأت فى خطف الاضواء من الصحف عبر اظهار انها وسيلة تبث اخبارا كاذبه و تنشر الرعب بين الناس .