خلال فترة العصور الوسطي لم تكن إيطاليا التي نعرفها اليوم دولة بالمعني المفهوم حيث لم يتم توحيدها بالكامل حتي عام 1871م بعد أن كانت قبل ذلك مقسمة إلي دويلات و دوقيات و ممالك مختلفة تحكم جميعها بشكل مستقل و كان لكل واحدة منها قوانينها و تقاليدها الخاصة بالإضافة إلي لغات و ثقافات و سياسات مختلفة عن الأخري و رغم كل تلك التباينات إلا أنه لم يكن من غير المعتاد أن تدخل تلك المقاطعات في صراعات مع بعضها البعض و مع ذلك في عام 1325م دارت واحدة من أغرب المعارك في التاريخ بعد أن إنخرطت مدينتا بولونيا و مودينا في معارك شعواء عرفت بإسم حرب الجردل التي إندلعت لمجرد سرقة جنود مودينا دلوًا خشبيًا من بولونيا .
كانت لحرب الجردل خلفية تاريخية ترجع إلي عام 1154م حين قرر الإمبراطور ” فريدريك بربروسا ” ملك ” ألمانيا ” أنه يجب أن يصبح ملكًا لإيطاليا و أعلن نفسه ممثل الله المختار علي الأرض و هو ما وضعه في خلاف كبير مع الإيطاليين الذين زعموا أن البابا هو من توج ” بربروسا ” كإمبراطور مقدس و هو ما معناه أن البابا هو ممثل الله نظرا لأنه في تلك المرحلة كان البابا هو من يمنح الإعتراف الروحي للحكام المسيحيين الأوروبيين و مع ذلك لم يلتفت ” بربروسا ” لتلك الأراء و قام بغزو مدن ” ميلانو ” و ” تورتونا ” و ” بافيا ” و ” بولونيا ” و ” توسكانا ” و بعد فشل المحادثات مع البابا ” ألكسندر الثالث ” واصل ” بربروسا ” فرض حصار علي المدن الإيطالية حتي هزم في معركة ” ليجنانو ” علي يد الرابطة اللومباردية الموالية للبابوية عام 1176م مما أدي إلي إنسحابه عائداً إلي ” ألمانيا ” لكنه ترك وراءه صدع سياسي كبير بعد أن جعل تلك المدن عقب رحيله في صراع مع بعضها البعض لعدة قرون و كان هذا الصدع هو الذي أشعل فتيل حرب الجردل الغريبة عام 1325م .
و رغم إنتهاء حصار الإمبراطور ” بربروسا ” للمدن الإيطالية إلا أن الصراع بين مدنها كان حيًا حيث نشأ من تلك الحرب فصيلان و هم الجيبلينيون الذين دعموا الإمبراطور والجويلفيين الذين فضلوا البابا و قد أدى هذا الإنقسام السياسي إلي الإستياء و التنافس بين دول المدن الإيطالية من خلال مناوشات و نزاعات كانت تحدث بينهم بشكل منتظم في القرون التي تلت حكم ” بربروسا ” و من بينهم كانت مدينتي ” بولونيا ” و ” مودينا ” المتجاورتين اللذان كانا علي طرفي نقيض من الطيف السياسي حيث كانت ” بولونيا ” داعمة للبابا بينما ” مودينا ” داعمة للإمبراطور و قد تسبب هذا في تنافس كبير بين الإثنين أدي إلي العديد من الغارات علي مر السنين و لكن في عام 1325م وصلت التوترات أخيرًا إلي حد الغليان .
و بدأت شرارة حرب الجردل في إحدى ليالي عام 1325م حين تسلل عدد من جنود ” مودينا ” إلي أسوار مدينة ” بولونيا “و خلال تسللهم لمحوا جردلا عند أحد الأبار و قاموا بالإستيلاء عليه و إصطحابه معهم و هم سعداء بإنتصارهم و حين تم إكتشاف أمر الجردل المفقود غضب سكان ” بولونيا ” و طالبوا المودينيين بإعادته و لكن لم يتم الإستجابة لطلبهم و عليه أعلن البولونيين الغاضبين الذين شعروا بالإذلال حربًا شاملة علي ” مودينا ” و بهذا بدأت حرب الجردل بين المدينتين و التي كانت فيها ” مودينا ” نظريا هي الأضعف بالمقارنة مع ” بولونيا ” لإمتلاكها موارد و جنود أقل بعد أن جمعت لتلك الحرب 7000 جندي فقط في مقابل حشد البولونيين لأكثر من 32000 جندي و جلبهم قوات من شمال إيطاليا للدعم حتى أنهم تمكنوا من إقناع البابا بالوقوف إلي جانبهم و بحسب ما ورد أعلن البابا ” يوحنا الثاني و العشرون ” أن رئيس قضاة ” مودينا ” مهرطق و صعد بنفسه لقيادة جيش من جنود المشاة ضد ” مودينا ” .
و نظرا لتفاوت القوتين إستعدادا لحرب الجردل بدا الأمر كما لو كان محسوما للبولونيين و حلفائهم و لكن كانت ” مودينا ” تتمتع بميزة واضحة عنهم تتمثل في وجود جنود ألمان مدربين تدريبًا إحترافيًا في جيشها نظرًا لوضع سكان تلك المدينة بإعتبارهم جيبلينيين قاموا بدعم الإمبراطور الألماني لذلك علي الرغم من أن جيش ” بولونيا ” أكبر من الناحية الفنية إلا أن قواته كانت تتألف من ميليشيا غير مدربة مقارنة بالمودينيين الأكثر خبرة و بدأت المعركة حين تلاقي الطرفين خارج بلدة ” زابولينو ” و بسبب الفوضي و عدم التنظيم في قوات ” بولونيا ” سرعان ما تغلب عليهم المودينيين و أجبروهم علي الإنسحاب و تشير التقديرات إلي أن حرب الجردل قد خلفت ورائها ما يقرب من 2000 ضحية و نظرا لهزيمتهم المنكرة لم يكن أمام أهل ” بولونيا ” الذين تعرضوا للإذلال خيار سوى إلغاء الهجوم و البقاء داخل أسوار مدينتهم بأمان في الوقت الذي قام فيه المودينيين بالإستهزاء منهم عبر تنظيم مسابقة عشاري وهمية خارج المدينة مباشرةً و يقال إنهم سرقوا جردلا ثانيًا للإمعان في الإستهزاء .
أقرأ أيضا : حرب الخنزير .. قصة حرب كادت تشتعل بين الأمريكيين و البريطانيين بسبب خنزير
و إنتهت حرب الجردل في نهاية المطاف و في يناير عام 1326م تم التوقيع علي هدنة بين الطرفين علي الرغم من إستمرار الصراع بين الجويلفيين والجيبلينيين لمدة قرنين آخرين إلي أن تم غزو ” إيطاليا ” من قبل ” تشارلز الأول ” ملك ” إسبانيا ” عام 1529م و رغم إنتهاء حرب الجردل رسميا لم تسترد ” بولونيا ” جردلها قط حيث عرضه سكان ” مودينا ” بفخر في برج الجرس في كاتدرائيتهم لمواصلة إستفزاز ” بولونيا ” و تذكيرهم بهزيمتهم و لا تزال ” مودينا ” تملك الجردل حتى يومنا هذا و هناك نسخة طبق الأصل معلقة الآن في برج الجرس و يُقال إن الدلو الأصلي معروض في ” بلازو كومينالي ” و حتى الآن و رغم مرور 700 عام لا يزال ذلك الجردل مصدرًا للخلاف بين المدينتين .
