فى وقتنا الحالي يتم السماح للمرأة بالإنضمام الى الجيوش حتى أن بعض منهم أجاز لها الإلتحاق بالأفرع القتالية و مجاورة الرجال فى ساحات المعارك و الحروب و تم تكريم العديد منهم لقيامهم بأعمال بطولية و لبسالتهم فى القتال الا أن ذلك الوضع كان مختلفا فى الماضى حين كانت الجيوش تقتصر أنشطتها فقط على الرجال و يحظر تماما على المرأة و بشكل صارم الأنضمام إليه لعدم تناسب قدراتها الجسمانية مع طبيعته القاسية لذلك لم يكن أمام بعضهم سوى التحايل على ذلك الحظر و التنكر على هيئة رجال على أمل أن ذلك قد يفتح أمامهم جميع الأبواب المغلقة و من أبرز الأمثلة على ذلك هى قصة الجراح جيمس باري أو مارجريت بولكلي التى أستطاعت لسنوات طويلة خداع كل من حولها بعد تنكرها على هيئة رجل و انضمامها للجيش و العمل فيه لسنوات طويلة كطبيبة و جراحة من دون أن يستطيع أحد أن يكشف ذلك السر .
ولد “جيمس ميراندا ستيوارت باري” في “أيرلندا” باسم “مارجريت آن بولكلي” عام 1789 و كانت والدتها “ماري آن بولكلي” أخت الرسام الأيرلندي الشهير “جيمس باري” حيث لم يكن التشابه فى الأسماء مصادفة بل تم إقتباس ذلك الإسم منه من قبل ” مارجريت ” عندما اختارت العيش باقى حياتها كرجل و التسجيل بتلك الهوية الجديدة في كلية الطب حيث كانت الأدلة المتعلقة بحياتها المبكرة و قرارها بتحديد هويته كرجل ضئيلة للغاية حتى بعد قيام الصحف و حتى الكاتب الشهير “تشارلز ديكنز” بفحص وقائع القضية للحصول على معلومات اضافية الا أن جميعهم فشلوا فى ذلك المسعي و يبدو أن الدليل الوحيد كان رسالة كتبها إلى أحد المحامين و كتب على ظهر الظرف “الآنسة بولكلي – 14 ديسمبر” حيث تشير تلك الرسالة للمؤرخين إلى أن ” جيمس باري ” و “مارجريت بولكلي” كانا نفس الشخص بشكل قاطع .
و يرجح بعض المؤرخين أن قرار ” مارجريت بولكلي ” بالتظاهر بأنها رجل ربما كان بمعرفة والدتها و بعض من أصدقاء العائلة المؤثرين و عندما أراد ” جيمس باري ” دراسة الطب كان من غير الواضح عما إذا كانت هذه الرغبة لأنه كان يحب ذلك المجال أو لأنه لم يتمكن من الحصول على عمل لأنه لم يكن فى ذلك الوقت لدى عائلة “باري” دخل يُعتمد عليه لذا لا شك أن راتب الجراح بدا جذابًا للغاية و لكن على أى حال تمكنت “مارجريت بولكلي ” من الالتحاق بجامعة “إدنبرة” عام 1809 تحت إسم ” جيمس باري ” و تم تفسير وضع قصر قامته و بشرته الناعمة و وصوته القريب من الإناث الى سنه الصغير الذى كان قد سيتسبب فى إبعاده عن الجامعة بعد محاولة من مجلس إدارتها بمنعه من دخول الإمتحان النهائي لظنهم من أنه كان لا يزال طفلا و لم يصل الى سن البلوغ بعد لكن “إيرل بوشان” و الذى كان صديقا للعائلة تدخل بنفوذه ليتأهل “جيمس باري” للعمل كطبيب عام 1812 .
و ذهب ” جيمس باري ” لتسجيل إسمه كمساعد جراح في الجيش و احتاج إلى مساعدة “بوشان” مجددا لأن ضابطه القائد الأول اعتقد أنه مجرد صبي صغير جدًا على أن يكون في الجيش و بالفعل بعد تدخل صديق العائلة التحق به و كان أول عمل له بمدينة “كيب تاون” فى ” جنوب أفريقيا ” عام 1816 و أثبت تواجده و أصبح صديقا حميما للحاكم الفريق اللورد “تشارلز هنري سومرست” و طبيبه الشخصي بعد أن نجح في علاج أحد أطفاله المرضى و تم تعيينه كمفتش طبي للمستعمرات و التى أعطته صلاحيات للقيام بعدد من الإسهامات المؤثرة من موقعه حين قام بإجراء تحسينات على أنظمة الصرف الصحي و المياه و كذلك على الظروف المعيشية للعبيد و السجناء و المرضى العقليين و أنشأ أيضا ملاذاً لمرضى الجذام و كان دائما ينتقد أفعال المسئولين المحليين مما أدخله فى صدامات كثيرة معهم الا أنه و نتيجة صداقته الوثيقة مع “سومرست” فقد كانت تنقذه من التداعيات .
و كان يشتهر ” جيمس باري ” بسهولة استثارته و غضبه حيث كان يصرخ فى المرضي و أحيانا يلقي بزجاجات الدواء فى الحائط و لكن رغم ذلك فلا أحد يمكنه إنكار مهارته كجراح فأثناء وجوده في “كيب تاون” أجرى أول عملية قيصرية في قارة أفريقيا و نجت كل من الأم و الطفل الذى تم تسميته “جيمس باري مونيك” تكريما له و فى نوفمبر عام 1827 تم تعيينه جراحا للقوات و انتقل بعد عام للعمل فى “موريشيوس” و هناك وصلت له أخبار بأن الحاكم “سومرست” قد مرض و يحتضر ليسافر ” جيمس باري ” على الفور لانجلترا بدون إذن من الجيش للاعتناء به حتى وفاته عام 1831 حيث أدت صداقته الوثيقة مع الحاكم إلى تكهنات بأنهم ربما كانوا أكثر من مجرد أصدقاء حتى أن بعض المؤرخين يقولون أنه تم الهمس عام 1824 بوجود علاقة مثلية بين الرجلين الا انه لم يخرج ذلك الأمر للعلن نظرًا لأن المثلية الجنسية كانت جريمة في تلك الحقبة و كانت ستجرى تحقيقات و محاكمات .
و بعد ذلك تم إرسال ” جيمس باري ” في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية من “جامايكا” إلى “مالطا” إالى ” سانت هيلانة ” و لكن أينما ذهب كان هناك شيئان مؤكدان أولهم أنه يضمن إعطاء الأولوية لتحسين مستويات الصحة و المعيشة للأقليات و ثانيهم أنه سيصطدم مع رؤسائه بشأن مثل هذه الأمور و التى أدت فى بعض الأحيان الى اعتقاله و محاكمته عسكريا و تخفيض رتبته بسبب سلوكه و في عام 1857 أصبح ” جيمس باري ” المفتش العام للمستشفيات في “كندا” مكّنه هذا الموقف من إحراز مزيد من التقدم في نهجه الثوري في الرعاية الصحية ليس فقط للجنود و عائلاتهم و لكن أيضًا للسجناء و المصابين بالجذام أيضًا .
و فى يوليو عام 1859 أحيل ” جيمس باري ” إلى التقاعد بالقوة من قبل الجيش على أساس اعتلال صحته الى توفى عام 1865 بسبب إصابته بمرض الزحار و تم الكشف عن حقيقته كإمرأة التى نجح فى اخفاءها لعقود عديدة حين اكتشفت المرأة المسؤولة عن تحضير جسده للدفن كما أبلغت أيضا هذه المرأة الصحافة أن ” جيمس باري ” كان يعاني من علامات تمدد على بطنه مما يشير إلى أنه كان لديه طفل في وقت ما حيث أدى ذلك إلى تكهنات بأن أختها “جوليانا بولكلي” كانت في الواقع ابنتها و كانت قد أنجبتها بعد اعتداء جنسي تعرضت له خلال مرحلة الطفولة الا انه لا يوجد أدلة تؤكد ذلك و بدء العديد فى تزكر مواقفه و تصرفاته حيث كان اثناء عمله معروفا بأنه لا يسمح بتواجد اى شخص معه اثناء استبدال ملابسه بالاضافه الى وضعه وصية بانه فى حالة وفاته لا يسمح لاحد بفحص جسده بل يتم تغطيته و دفنه و كأنه اراد ان يكون سره معه فى حياته و حتى موته .
أقرأ أيضا : فرديناند والدو ديمارا … المحتال العظيم الذى نجح فى خداع كثير من الضحايا أبرزهم الجيش الكندي
و من ناحيته و لتجنب الفضيحة قام الجيش البريطاني و نظرا لحساسية منصب “جيمس باري ” السابق بإصدار شهادة وفاة لها على انها ذكر و إغلاق ملفاته فى الخدمة العسكرية لمدة 100 عام الا انه تم فتحها مرة أخرى فقط في الخمسينيات من القرن الماضي عندما قرر المؤرخ “إيزوبيل راي” النظر في الأمر لكتابة أول سيرة ذاتية لهذا الجراح الرائع حيث تمكن من الوصول إلى ملفاته و الذى وصل لكثير من المعلومات عنه و عن حياته المذهلة و مع ذلك لا يزال الكثير عن حياة باري و مهنته لغزا حيث يقول ” أيزوبيل ” أنه عندما كان في الثامنة عشرة من عمره و كان لا يزال يعيش مثل “مارجريت” صرخ ذات مرة لأخيه قائلا “لو لم أكن فتاة كنت سأكون جنديً ” و هو ما حدث بالفعل حيث أصبح رجلا و واحدا من المؤثرين فى الجيش البريطاني .