في أوائل السبعينيات بدا الأمر و كأن الولايات المتحدة قد عثرت على سلاح غير متوقع في صراعها مع الإتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة و هو مراهق يدعي بوبي فيشر الذي أصبح لسنوات طويلة أحد أساطير لعبة الشطرنج التي كانت علي مدار عقود حكرا للاعبين السوفيت دون غيرهم و كانوا يستغلون تلك النقطة تحديدا في أنشطتهم الدعائية كدليل على التفوق الفكري السوفيتي على الغرب إلا أن ذلك قد تبدل بشكل دراماتيكي بداية من عام 1972 حين أطاح بوبي فيشر بأكبر أستاذ في تلك اللعبة بذلك الوقت و هو بطل العالم السوفيتي بوريس سباسكي و يصبح بعدها ذلك الشاب محط أنظار و إهتمام العالم و قال عنه المهتمين باللعبة أنه لا يوجد لاعب شطرنج عظيم مثله و يعد جهاز كمبيوتر لا يحتوي على أي نقاط ضعف ملحوظة كما قال عنه أحد الأساتذة الروس بأنه منيع مثل أخيل بلا كعب أخيل و إلي الأن لا تزال تدرس خططه و أساليبه في اللعب و لكن رغم مكانته الأسطورية إلا أن حياة ذلك الشاب الخاصة كانت مضطربة جدا و بدا الأمر كما لو أن عقله كان هشًا بقدر ما كان رائعًا .
ولد ” بوبي فيشر ” عام 1943 و كان من نسل شخصين ذكيين بشكل لا يصدق حيث كانت والدته “ريجينا فيشر” يهودية الديانة و تتحدث ست لغات بطلاقة و حصلت على درجة الدكتوراة في الطب و يُعتقد أنه كان نتاج علاقة غرامية جمعت بين والدته التي كانت متزوجة من “هانز جيرهاردت فيشر” وقت ولادته و عالم مجري يهودي بارز يدعى “بول نيميني” الذي ألف كتابًا دراسيًا عن الميكانيكا و عمل لبعض الوقت مع ” هانز ” إبن العالم “ألبرت أينشتاين” في مختبر الهيدرولوجيا الخاص به في جامعة أيوا و رغم العبقرية التي كانت في ذلك العالم إلا أنه كان يعاني من مشاكل في الصحة العقلية تحقيقا للمثل القائل بأن الفارق بين العبقرية و الجنون ما هي إلا مجرد شعرة و في عام 1945 أنفصلت ” ريجينا ” عن زوجها ” فيشر ” و أضطرت إلى تربية إبنها حديث الولادة و إبنتها “جوان” فيشر بمفردها .
و أثناء نشأته في “بروكلين” بدأ ” بوبي فيشر ” بممارسة لعبة الشطرنج عندما كان في السادسة من عمره و ساعدته قدراته الطبيعية و تركيزه الذي لا يتزعزع في النهاية على المشاركة في أول بطولة له و هو في التاسعة من عمره فقط و كان لاعبًا منتظمًا في نوادي الشطرنج في “نيويورك” عندما كان في الحادية عشرة من عمره و أصبحت تلك اللعبة هي حياته و كان لديه تصميم بأن يصبح بطل العالم في لعبة الشطرنج حتي أن صديق طفولته “ألين كوفمان” قد وصفه بأنه كان بمثابة إسفنجة شطرنج حيث كان يدخل إلى غرفة بها لاعبين و يتجول فيها و يبحث عن أي كتب أو مجلات لتلك اللعبة ثم يجلس و يقرأها و يبدء بإمتصاص محتواها واحدًا تلو الآخر .
و بدء ” بوبي فيشر ” في السيطرة بسرعة على لعبة الشطرنج الأمريكية فحين بلغ سن الثالثة عشرة من عمره أصبح بطل “الولايات المتحدة” في بطولات الناشئين كما تغلب علي أفضل لاعبي الشطرنج في البلاد ببطولة الولايات المتحدة المفتوحة في نفس العام و أقيمت مباراة مذهلة بينه و بين الأستاذ الدولي “دونالد بيرن” و التي ميزت ” بوبي فيشر ” لأول مرة كواحد من العظماء بعد أن فاز بالمباراة من خلال التضحية بوزيره لشن هجوم على “بيرن” و هو فوز تم الإشادة به بإعتباره واحدًا من أفضل الانتصارات المسجلة في تاريخ معجزات الشطرنج و مع مرور الوقت أستمر صعود نجمه ففي سن الرابعة عشرة أصبح أصغر بطل للولايات المتحدة في التاريخ و في سن الخامسة عشرة عزز مكانته بإعتباره أعظم معجزة في عالم الشطرنج و ذلك بعد أن أصبح أصغر لاعب شطرنج كبير في التاريخ و الآن كان عليه مواجهة أفضل العقول التي يمكن أن تقدمها البلدان الأخرى و خاصة “الاتحاد السوفييتي” .
و حين أصبح المسرح جاهزًا من أجل مواجهة السوفييت الذين كانوا في ذلك الوقت من أفضل لاعبي الشطرنج في العالم كتبت والدته التي كانت دائمًا تدعم جهود ابنها عام 1958 رسالة إلى الزعيم السوفييتي “نيكيتا خروشوف” تحثه فيها علي إستضافة إبنها و أمتثل لطلبها و وجه دعوة إلي ” بوبي فيشر ” للمنافسة في المهرجان العالمي للشباب و الطلاب إلا أنها وصلت متأخرة للغاية و لم تتمكن والدته من شراء تذاكر السفر و مع ذلك تحققت رغبته في اللعب هناك في العام التالي عندما منحه منتجي أحد البرامج تذكرتين ذهابًا و إيابًا إلى “روسيا” و في “موسكو” طالب بنقله إلى نادي الشطرنج المركزي حيث واجه اثنين من أساتذة “الإتحاد السوفييتي” الشباب و هزمهم في كل مباراة و مع ذلك لم يكن ” بوبي فيشر ” راضيًا عن مجرد التغلب على من هم في مثل عمره لأنه كان يضع نصب عينيه جائزة أكبر و هي مواجهة بطل العالم “ميخائيل بوتفينيك” و هو ما رفضه السوفييت الأمر الذي أثار غضبه و كانت هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها علنا شخصا ما بسبب رفضه مطالبه و أعلن أمام مضيفيه باللغة الإنجليزية أنه سئم “من هؤلاء الخنازير الروسية” ثم توتر الأمر بشكل أكبر بعد أن أعترض السوفييت بطاقة بريدية كان قد أرسلها إلي نيويورك و كتب فيها أنه لا يحب الضيافة الروسية و لا الناس أنفسهم لذلك صدر قرار برُفض منحه أي تأشيرة دخول مستقبلية إلى البلاد .
بعد ذلك ترك “بوبي فيشر” مدرسة “إيراسموس” الثانوية و هو في سن السادسة عشرة للتركيز على لعبة الشطرنج بدوام كامل و كان أي شيء آخر بمثابة إلهاء له و عندما إنتقلت والدته من شقتها لمتابعة التدريب الطبي في واشنطن العاصمة أوضح لها “فيشر” أنه أصبح أكثر سعادة بدونها و قال في مقابلة بعد ذلك بعامين: “أنا و هي لا نتفق معاً إنها تتدخل في شئوني و أنا لا أحب الأشخاص الذين يتدخلون في شئوني لذا كان علي أن أتخلص منها” و بذلك أصبح ” بوبي فيشر ” معزولاً أكثر فأكثر و علي الرغم من أن براعته في الشطرنج كانت تزداد قوة لكن في الوقت نفسه كانت صحته العقلية تتدهور ببطء حتي أنه بدء فى مهاجمة اليهود حيث قال في مقابلة أجريت عام 1962 أنه يوجد عدد كبير من اليهود في لعبة الشطرنج و أنهم سلبوا مستوي اللعبة و لا يبدو أنهم يرتدون ملابس جميلة و هذا ما لا يحبه كما أضاف أنه لا ينبغي السماح للنساء بدخول أندية الشطرنج لأنهن عندما يفعلن ذلك يتحول النادي إلى مصحة مجانين كما أن كلهن ضعفاء و أغبياء مقارنة بالرجال و لا ينبغي عليهم أن يلعبوا الشطرنج فهم مثل المبتدئين و يخسرون كل مباراة ضد أي رجل .
و خلال الفترة ما بين عامي 1957 إلى عام 1967 فاز ” بوبي فيشر ” بثماني بطولات أمريكية و حصل في هذه العملية على النتيجة المثالية الوحيدة في تاريخ البطولة (11-0) خلال عام 1963-1964 و لكن مع تزايد نجاحه إزداد غروره و نفوره من الروس و اليهود علي الرغم من أن السوفييت قد أشادوا به حيث أقر الأستاذ الكبير الروسي “ألكسندر كوتوف” بمهارة فيشر قائلاً أن أسلوبه في ممارسة تلك اللعبة الذي لا تشوبه شائبة و هو في التاسعة عشرة من عمره لهو أمر نادر لكن في المقابل كتب “بوبي فيشر” مقالاً عام 1962 أتهم فيه ثلاثة من كبار اللاعبين السوفييت بالموافقة على تعادل مبارياتهم ضد بعضهم البعض قبل إحدي البطولات للتلاعب فى النتائج و هو إتهام كان مثيراً للجدل في ذلك الوقت إلا أنه يعتقد الآن بشكل عام أنه صحيح لذلك كان عازمًا على الانتقام منهم و بعد ثماني سنوات تغلب على أحد هؤلاء الأساتذة السوفييت و هو “تيجران بيتروسيان” و غيره من اللاعبين السوفييت في بطولة الاتحاد السوفييتي ضد بقية العالم في عام 1970 ثم في غضون أسابيع قليلة فعلها ” بوبي فيشر ” مرة أخرى في بطولة العالم غير الرسمية في “يوغوسلافيا” .
و على مدار العام التالي قضى ” بوبي فيشر ” على منافسيه الأجانب بما في ذلك الأستاذ السوفييتي الكبير “مارك تيمانوف” الذي كان واثقاً من قدرته على التغلب على “فيشر” بعد دراسة ملف روسي تم تجميعه عن إستراتيجيته للشطرنج لكن حتى “تيمانوف” خسر أمام فيشر 6-0 و كانت هذه الخسارة هي الأكثر تدميراً في المنافسة منذ عام 1876 أما بالنسبة للخسارة الكبيرة و الوحيدة التي تعرض لها “فيشر” في هذا الوقت كانت أمام بطل العالم البالغ من العمر 36 عامًا “بوريس سباسكي” خلال أولمبياد الشطرنج التاسع عشر بمدينة “سيحن” في “ألمانيا” و لكن مع سلسلة إنتصاراته التي لا مثيل لها في العام الماضي حصل على فرصة ثانية ليحل محل “سباسكي” و عندما فشل “بيتروسيان” مرتين في هزيمة ” بوبي فيشر ” خشي “الإتحاد السوفيتي” من تعرض سمعته في لعبة الشطرنج للخطر و مع ذلك ظلوا واثقين من أن بطلهم العالمي “سباسكي” يمكنه الإنتصار على المعجزة الأمريكية لتصبح لعبة الشطرنج بين الثنائي تمثل الحرب الباردة نفسها حيث كانت اللعبة عبارة عن حرب ذكاء تمثل من نواحٍ عديدة نوع القتال في تلك الحرب حيث حلت الألعاب الذهنية محل القوة العسكرية لذلك كانت أعظم العقول في البلاد مستعدة للقتال في بطولة العالم للشطرنج عام 1972 في “ريكيافيك” بأيسلندا حيث تتقاتل الشيوعية و الديمقراطية من أجل التفوق على رقعة الشطرنج .
و بقدر ما أراد “بوبي فيشر” إذلال السوفييت إلا أنه كان أكثر قلقاً من عدم تلبية منظمي البطولة لمطالبه التي كاد ينسحب منها بسبب ضعف قيمتها المالية لكنه أستمر فيها بعد أن تم رفع قيمة الجائزة إلى 250 ألف دولار أمريكي (1.4 مليون دولار اليوم) و كانت تعتبر هي أكبر جائزة يتم تقديمها على الإطلاق حتى تلك اللحظة بالإضافة إلي تلقيه مكالمة من وزير الخارجية “هنري كيسنجر” أقنعه فيها بالمشاركة و أستمر ” فيشر ” في وضع شروطه حيث طالب من المنظمين إزالة الصفوف الأولى من الكراسي في المسابقة و أن يحصل على رقعة شطرنج جديدة و أن يقوموا بتغيير إضاءة المكان و أعطاه المنظمين كل ما طلبه ثم بدأت المباراة الأولى في 11 يوليو عام 1972 لكن بداية فيشر كانت محبطة لأنه قام بحركة خاطئة تسببت في فوز ” سباسكي ” .
نتيجة تلك الخسارة ألقى ” بوبي فيشر ” اللوم على الكاميرات حيث كان يعتقد أنه يستطيع سماعهم و أن هذا الأمر يكسر تركيزه لكن المنظمين رفضوا إزالة الكاميرات و إحتجاجًا على ذلك لم يحضر للمباراة الثانية و أصبح “سباسكي” متقدما بنتيجة 2-0 علي “فيشر” الذي ظل علي موقفه في رفض اللعب ما لم تتم إزالة الكاميرات كما أراد أيضًا نقل اللعبة من قاعة البطولة إلى غرفة صغيرة في الخلف تُستخدم عادةً لتنس الطاولة و أخيرا أستجاب منظمو البطولة لمطالبه و منذ المباراة الثالثة فصاعدًا سيطر ” بوبي فيشر ” على “سباسكي” و فاز في النهاية بستة و نصف من مبارياته الثماني التالية و كان ذلك تحولًا مذهلاً لدرجة أن السوفييت بدأوا يتساءلون عما إذا كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تسمم “سباسكي” لذلك تم تحليل عينات من عصير البرتقال الخاص به و فحص الكراسي و الأضواء كما قاموا بقياس جميع أنواع العوارض و الأشعة التي يمكن أن تدخل الغرفة و كانت النتيجة لا شئ و بعد ذلك سرعان ما أستعاد “سباسكي” بعض من السيطرة في المباراة 11 و التي كانت آخر مباراة يخسرها “فيشر” حيث تعادل في المباريات السبع التالية و أخيرًا أنتصر “بوبي فيشر” للولايات المتحدة لأول مرة منذ 24 عامًا و تمكن شخص من التغلب على “الاتحاد السوفيتي” في بطولة العالم للشطرنج.
و أنتهي الأمر بقيام ” بوبي فيشر ” بتدمير صورة السوفييت بإعتبارهم متفوقين فكريًا في تلك المباراة التي تابعها ملايين الأمريكيين من خلال التلفزيون في منازلهم أو علي واجهات المتاجر كما تم بث المباراة على التلفاز في “تايمز سكوير” مع متابعة كل التفاصيل الدقيقة منها لكن مجد “بوبي فيشر” لم يدوم طويلاً فبمجرد إنتهاء المباراة أستقل الطائرة إلى منزله و لم يلقي أي خطابات و لم يوقع أي أوتوجرافات و رفض عروض رعاية بملايين الدولارات و أغلق على نفسه بعيدًا عن أعين الجمهور و عاش منعزلاً و حتي عندما ظهر ألقى بتعليقات عبر موجات الأثير في برامج إذاعية من “المجر” و “الفلبين” أعرب فيها عن كراهيته لليهود و القيم الأمريكية و على مدار العشرين عامًا التالية لم يلعب “بوبي فيشر” أي لعبة شطرنج تنافسية و عندما طُلب منه الدفاع عن لقبه العالمي عام 1975 رد بقائمة تضم 179 طلبًا و عندما لم يتم تلبية أي واحد منهم رفض اللعب لذلك تم تجريده من لقبه و خسر بطولة العالم دون أن يحرك قطعة واحدة.
أقرأ أيضا : قصة اللاعبة جوديت بولجار أعظم لاعبة شطرنج عبر كل العصور
و مع حلول عام 1992 أستعاد ” بوبي فيشر ” بعضًا من مجده السابق مؤقتًا بعد هزيمته لـ “سباسكي” في “يوغوسلافيا” و لهذا السبب تم إتهامه بإنتهاك العقوبات الاقتصادية المفروضة على “يوغوسلافيا” و أُجبر على العيش في الخارج أو مواجهة الإعتقال عند عودته إلى “الولايات المتحدة” و أثناء وجوده في المنفى توفيت والدته و شقيقته و لم يتمكن من العودة إلى وطنه لحضور جنازاتهم و عندما حدثت هجمات 11 سبتمبر عام 2001 أشاد بما حدث و قال “أريد أن أرى الولايات المتحدة يتم محوها” ثم تم القبض عليه في عام 2004 بتهمة السفر إلى “اليابان” بجواز سفر أمريكي تم إبطاله و في عام 2005 تقدم بطلب للحصول على الجنسية الأيسلندية الكاملة و حصل عليها و عاش السنوات الأخيرة من حياته في “أيسلندا” في غموض و يقترب أكثر فأكثر من الجنون التام و أعتقد البعض أنه مصاب بمتلازمة أسبرجر و أعتقد آخرون أنه يعاني من إضطراب في الشخصية و ربما ورث الجنون من جينات والده البيولوجي و لكن علي أي حال مهما كان سبب إضطرابه فقد توفي “بوبي فيشر” في نهاية المطاف بسبب الفشل الكلوي عام 2008 عن عمر يناهز 64 عاما و هو رقم من سخرية القدر يمثل عدد المربعات الموجودة على رقعة الشطرنج .