في ذروة الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة و الإتحاد السوفيتي علي حافة صراع نووي شامل و نظرا لإنعدام الثقة بين الطرفين قاموا بإتباع إستراتيجية الدمار المتبادل كمبدأ ردع يحول دون إندلاع حرب نووية خاصة من الجانب السوفيتي الذي سعي إلي ضمان بقائه كقوة لا تُقهر حتى في أصعب اللحظات لذلك قاموا بتطوير نظامًا أليا يُعد من أكثر أنظمة الردع النووي غموضا و إثارة للجدل في التاريخ العسكري و أطلقوا عليه إسم اليد الميتة أو بيريمتر الذي يضمن توجيه ضربة نووية إنتقامية للولايات المتحدة حال تعرض القيادات السياسية و العسكرية السوفيتية العليا للتدمير خلال أي هجوم نووي مباغت و يقال أنه حتي اللحظة لا تزال روسيا تعتمد علي تلك المنظومة .
و يرجع تاريخ منظومة ” اليد الميتة ” إلي سبعينيات القرن الماضي حيث تم تطويرها من قبل الإتحاد السوفيتي كجزء من إستراتيجيتهم الدفاعية ضد أي هجوم نووي مفاجئ بهدف الحفاظ علي قدرة البلاد في توجيه ضربة نووية إنتقامية حتى في حال دُمرت كافة القيادات العليا و كل مراكز التحكم التي ستجعل من المستحيل إتخاذ قرارات سريعة بشأن الردع أي أن الفكرة الأساسية هي أنه حتى إذا دُمِّرت القيادة فإن النظام سيعمل بشكل تلقائي علي تنفيذ هجوم نووي إنتقامي علي الخصم و بالتالي يضمن توازن القوى و يمنع العدو من التفكير في إستغلال ضربته الأولي و المفاجئة .
و اليد الميتة هو نظام ألي بالكامل يعتمد علي مجموعة من أجهزة الإستشعار التي ترصد الأجواء و المحيط و كافة الأحداث الجيولوجية و البيئية مثل الزلازل و الإشعاع و الضغط الجوي و الضوء و هي عوامل تساعد بشكل كبير في الكشف عن أي إشارة تدل علي حدوث هجوم نووي علي الأراضي السوفيتية أو الروسية لاحقا حيث تعمل المنظومة كوسيلة إحتياطية لإطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بشكل ألي في حال تم تدمير مراكز القيادة حيث يتولي النظام إرسال أوامر إطلاق الصواريخ الباليستية إلي منصات الإطلاق و القواعد النووية دون الحاجة إلي تدخل بشري مباشر .
و نظرا لخطورة منظومة اليد الميتة و ما تستطيع فعله من دمار محقق فقد تم برمجة عملها علي عدة مستويات من المراقبة و التحقق قبل أن يتم تفعيل إطلاق الصواريخ كالتالي :
- تفعيل النظام يدويًا : و هو المستوي الأول و فيه يبدأ النظام عمله فقط بعد تفعيله يدويًا من قبل مسؤول عسكري رفيع في حالة وقوع أزمة كبيرة .
- رصد الإشارات النووية : و فيه يبدأ النظام بمراقبة مجموعة من أجهزة الإستشعار التي ترصد الإنفجارات النووية و الإشعاع و الزلازل الناجمة عن الضربات النووية.
- تحديد وضع القيادة: إذا كانت جميع روابط الإتصال بالقيادة العليا سليمة يتم تعليق أي قرار إنتقامي من قبل المنظومة لكن في حال إنقطعت الإتصالات لفترة زمنية محددة يستنتج النظام أن القيادة قد دُمِّرت .
- إرسال أوامر الإطلاق: إذا لم تتم إستعادة الإتصالات يتم إرسال أوامر تلقائية لإطلاق الصواريخ النووية من مختلف القواعد إلي أهداف معدة مسبقا .
و يرجع الدافع الرئيسي لإنشاء منظومة ” اليد الميتة ” إلي قلق القيادة السوفيتية المتزايد خلال سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي بشأن تطور قدرات ” الولايات المتحدة ” و حلفائها في مجال الصواريخ الباليستية الدقيقة حيث كان قبل تلك الفترة يمتلكون صواريخ تطلق من الغواصات مثل “بولاريس” و “بوسيدون” و كانت تُعتبر غير دقيقة بالشكل الكافي لتدمير الأهداف العسكرية الحيوية و لكن مع ظهور صواريخ أكثر دقة مثل “ترايدنت D5″ تغير هذا الوضع بعد قدرتها علي إستهداف منشآت القيادة و مراكز التحكم في غضون دقائق إضافة إلي قدرتها علي حمل رؤوس نووية لذلك كانت فكرة الضربة المفاجئة أو القاضية أمرًا محتملاً و لهذا السبب كان السوفييت بحاجة إلي نظام يضمن بقاء قدرته علي الردع النووي حتى في حال تدمير القيادة العليا لذلك كان الحل في منظومة ” اليد الميتة “.
و تعتبر أحد الجوانب المثيرة للإهتمام في نظام ” اليد الميتة ” هو قدرتها علي التحكم في أي ردود فعل متسرعة أو خاطئة علي هجوم نووي محتمل لأنه في حالة حدوث تحذيرات من أي هجوم نووي وشيك يمكن للقيادة العليا تفعيل النظام بشكل يمنحهم وقتًا لتقييم الوضع دون الحاجة إلي إتخاذ قرارات سريعة قد تؤدي إلي تصعيد خاطئ و وفقا لـ ” فاليري يارينيش ” أحد مطوري النظام فإن ” اليد الميتة ” تحتوي علي شبكة أمان تقلل من إحتمالية الرد الانتقامي بناءً علي معلومات غير دقيقة و لكن إذا تم تدمير القيادة بالفعل فإن النظام يضمن توجيه ضربة نووية إنتقامية بشكل ألي يحافظ علي قدرة الردع في حالة الهجوم المفاجئ .
و يتضمن نظام ” اليد الميتة ” عدة مكونات تقنية معقدة أبرزها إطلاق صواريخ أوتوماتيكية مسئولة عن إعطاء أوامر إطلاق للصواريخ الباليستية العابرة للقارات حيث تعتمد تلك الصواريخ علي أنظمة إتصالات متقدمة و مقاومة لأي تدخلات خارجية لضمان وصول أوامر الإطلاق إلي جميع القواعد النووية السوفيتية كما أن الجزء الرئيسي المعروف من تلك المنظومة هو الصاروخ القيادي الذي يحمل رأساً حربياً للإشارات الراديوية يقوم بإرسال أوامر الإطلاق إلي جميع منصات الإطلاق النووية و تم تطوير هذا الصاروخ ليكون مقاومًا للتشويش الإلكتروني و الإنفجارات النووية في الأجواء المحيطة .
و منذ الكشف عن منظومة ” اليد الميتة ” في التسعينيات ظهرت العديد من النظريات حول عملها حيث تم وصفها بأنها نظام ألي بالكامل إلا أن بعض المصادر الحديثة تشير إلي أنه نظام نصف ألي بمعنى أن القرار النهائي بشأن إطلاق الصواريخ ما زال في أيدي بعض المسؤولين داخل مراكز قيادة محصنة كما طرح العديد من التساؤلات حول عما إذا كانت تلك المنظومة لا تزال تعمل في حالة وقوع أزمة كبري و أتت الإجابة عام 2011 حين صرح قائد قوات الصواريخ الإستراتيجية الروسية أن ذلك النظام لا يزال يعمل بكفاءة و أنه يُعتبر جزءًا أساسيًا من الإستراتيجية الدفاعية الروسية و هو أمر منطقي لأنه حتي اللحظة و رغم تغير الأوضاع الجيوسياسية إلا أن التوترات الدولية في السنوات الأخيرة أصبحت تفرض علي ” روسيا ” ضرورة إستمرار ضمان أمنها من خلال الردع النووي السريع و الحاسم لأي تهديدات قد تطالها لن يتحقق ذلك إلا بإستخدام منظومة مثل ” اليد الميتة ” .