فى خلال الساعة الثانية ظهر يوم السادس من أكتوبر عام 1973 قامت القوات المصرية بالهجوم على القوات الإسرائيلية الموجودة فى سيناء و عبور قناة السويس متجهة الي الضفة الشرقيه لمهاجمة تحصينات خط بارليف و إستعادة جزءا عزيزا من تراب الوطن فى الوقت الذى بدأت فيه القوات السورية بهجوم عسكري لمحاولة إستعادة مرتفعات هضبة الجولان فى مشاهد أصابت القيادة الاسرائيلية بالذهول و الإرتباك بعد أن كانت جميع التقارير الأمنية و الإستخبارية تستبعد تماما أى هجوم مصري او سوري وشيك و هو ما أشارت إليه الوثائق الإستخبارية الأمريكية التي تم الإفراج عنها مؤخرا .
كان الهجوم المصري مفاجئا و غير متوقعا للعدو حيث كان نتاج مجهود مضني قامت به المؤسسات المصرية سواء كانت أمنية أو عسكرية من خلال القيام بواحدة من أكبر خطط الخداع الإستراتيجي و التى تدرس حتي اللحظة في العديد من المعاهد العسكرية حول العالم و التي لم تقتصر علي خداع الأجهزة الأمنية الاسرائيلية فقط و لكن إلي تضليل ” الولايات المتحدة ” نفسها كقوة عظمى بجميع مؤسساتها و علي رأسها وكالة المخابرات المركزية الامريكيه CIA و التي كانت تقول عن نفسها بأنه لا يحدث شئ في العالم إلا و عرفته حيث صدر مؤخرا وثيقتين هامتين من أرشيفهم السري خلال فترة الحرب و التي تعتبر إعتراف ضمني منهم إلي أى مدي إستطاعت ” مصر ” التلاعب بهم بشكل وصفه ” راي كلاين ” رئيس القسم الإستخبارى في وزارة الخارجية الأمريكية بأنهم فى تلك الحرب تعرضوا لفخ يشبه غسيل الدماغ من قبل الإسرائيليين الذين وقعوا فيه قبلهم .
ففى عام 2016 نشرت وكالة المخابرات المركزية أكثر من 2500 وثيقة تم رفع السرية عنها ترجع إلي الفترة ما بين أعوام 1969 و 1977 و أشتمل بعضها علي وثائق خاصة بحرب أكتوبر تحتوي علي مجموعة من التحليلات و تقديرات للموقف التي أظهرت كيف يمكن لأكبر جهاز أمني و إستخباري أن يكون غافلا تمامًا عن نقطة تحول وشيكة في التاريخ العالمي .
الوثيقة الأستخبارية الأولي كانت إفادة يوميه تقوم الوكالة بكتابتها و إرسالها إلي البيت الأبيض و مؤرخة بيوم 5 أكتوبر عام 1973 أي قبل يوم واحد من إندلاع الحرب حيث كانت الأمور فى المنطقة ملتهبة بعض الشئ بعد أن قامت كل من مصر و سوريا بتعبئة قواتهم لما بدا أنه تدريبات عسكرية واسعة النطاق و رغم تلك الشواهد إلا أن المخابرات الأمريكية أعتقدت أن حدوث أمر كارثي كان بعيد المنال و أشارت تقديراتهم أن المصريين و السوريين ليس لديهم أي نية معينة لبدء الحرب و قالت الوثيقة نصا : ” يبدو أن التدريبات العسكرية الجارية في مصر تتم علي نطاق أوسع و يتم إجراؤها بشكل أكثر واقعية من التدريبات السابقة لكن لا يبدو أنها إستعدادات لشن هجوم علي إسرائيل ” و ليس ذلك فقط و لكن و للمفاجأه فأن التقديرات الأمريكية تشير إلي أن ما تقوم به ” مصر ” من تكثيف إجرائاتها الدفاعية و العسكرية كانت لمجرد مواجهة أي رد فعل عسكري إسرائيلي محتمل جراء تلك التدريبات حيث قالت : ” ربما تكون القاهرة قد وضعت دفاعها الجوي و قواتها الجوية في حالة تأهب كإجراء احترازي ضد رد فعل إسرائيلي علي المرحلة الأولى من التدريبات ” .
و لم يقتصر الأمر علي تلك التحليلات الخاطئة فقط بل قامت أيضا وكالة المخابرات المركزية فى تلك الوثيقه بتقديم معلومات خاطئة إستطاع المصريين ببراعة إخفائها عن أعينهم تفيد بإنه لا يوجد أي دليل علي أن الاتحاد السوفيتي قد سلم صواريخ سكود للمصريين و لكن كان ذلك غير صحيح حين أطلق المصريين تلك الصواريخ علي المواقع الإسرائيلية خلال نهاية الحرب و تحت إشراف المستشارين العسكريين السوفييت .
أما الوثيقة الثانية من الوثائق الإستخبارية الأمريكية فكانت بتاريخ 6 أكتوبر و التى أشارت إلي أنه لا يبدو أن أيًا من الجانبين كان عازمًا علي بدء الأعمال العسكرية و لكن تضيف إلي أن محللي المخابرات كان لديهم شك مزعج في أن شيئًا آخر قد يحدث حيث أشارت الوثيقة إلي أن أى صراع محتمل قد يحدث سوف تكون ” اسرائيل ” هى البادئه نظرا إلي أن بدء الهجوم بالنسبة إلي المصريين و السوريين لن يكون له أى معني كما أن إستمرار الوضع علي ذلك الشكل من الممكن أن يثير قلق الإسرائيليين و تحفيزهم علي القيام بأى شئ قد يزيد من مخاطر الإشتباكات العسكرية التي لا يريدها أي من الطرفين في الأصل و تضيف بأن السوفييت كانوا يقومون بعمليات إجلاء لأفرادهم من ” دمشق ” و ” القاهرة ” بسبب التوترات المتزايدة في المنطقة حيث قالت : “ربما يستخدم السوفييت ذريعة التوترات المتزايدة لتقليل وجودهم دون إزعاج المصريين” إلا أن الأمر كان علي أرض الواقع يقر بأن السوفييت كانوا يعرفون بالفعل النوايا المصرية و السورية و أرادوا إجلاء موظفيهم إلي بر الأمان قبل بدء الحرب و هو ما لم يفهمه الأمريكيين كما تشير إحدي الوثائق الإستخبارية الأمريكية إلي أنه توجد معلومات من مصدر جيد تفيد بأن المصريين و السوريين سوف يهجمون قبل غروب ذلك اليوم و أن ” اسرائيل ” قد قامت بتعبئة جزئيه لذلك إلا أنه لا توجد معلومات متاحه تشير إلي أي هجوم وشيك خاصة و أن رئيسة الوزراء الاسرائيلية ” جولدا مائير ” قللت من أهمية تلك المناورات بإعتبار أن التحركات المصرية كانت عاديه بينما السوريه كانت دفاعية .
و رغم كل تلك المؤشرات التى تقول أنه لن يحدث أى شئ فى الأفق بحسب الوثائق الإستخبارية الأمريكية الا أن الرؤية الأمريكية قد تبدلت بعد أن أرسل ” هنرى كيسنجر ” وزير الخارجية الأمريكي فى تمام الساعة السادسة صباحا بالتوقيت الأمريكى و الواحدة ظهرا بتوقيت تل أبيب رسالة إلي الرئيس الامريكى “نيكسون” عبر غرفة العمليات بالبيت الأبيض يحذر فيها من هجوم مصري و سوري وشيك بعد إخطاره من قبل الاسرائيليين بأن لديهم ما يعتبرونه معلومات مؤكدة بأن المصريين و السوريين يخططون لإطلاق هجوم منسق في غضون ست ساعات أي على الغروب و هو ما لم يحدث حيث بدء فى الظهيرة و لم يكن أمام ” كيسنجر ” سوى الإتصال بالسفير السوفيتى لدى الولايات المتحدة ” أناتولى دوبرنين ” ليعلمه بأنه تقع علي عاتق ” الولايات المتحدة ” و ” الاتحاد السوفيتي ” مسؤولية ضخمه لكبح جماح أصدقائهما و إيقاف تلك الحرب الوشيكه مضيفا إلي أنهم يتواصلون مع الاسرائيليين و يحذروهم من إتخاذ اى موقف لتجنب الصراع العسكري .
أقرأ أيضا : تحسبا لأى ردود أفعال إسرائيلية يائسة و متهورة .. هل كان بحوزة مصر أسلحة نوويه خلال حرب أكتوبر
و بعد عددا من الإتصالات و بحسب الوثائق الإستخبارية الأمريكية أرسل ” كيسنجر ” إلي الرئيس رسالة يعلمه فيها أن ” دوبرينين ” وافق علي الإتصال بموسكو و يطلب منهم محاولة منع المصريين و السوريين من الهجوم ثم اتصل ” كيسنجر ” بمدير مكتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي و رئيسة الوزراء “جولدا مائير” و أتفق معها علي محاولة تجنب الحرب قدر الإمكان ثم إتصل بالعاهل الأردني الملك ” حسين ” و الملك السعودي ” فيصل ” ليطلب منه التدخل لدى ” سوريا ” و ” مصر ” لإيقاف تلك الحرب إلا أن كل تلك المجهودات لم تحرز أى تقدم نظرا إلي أن الحسابات الأمريكية مهما كانت تختلف تماما عن الحسابات المصرية و السورية التى بنيت من أجل رد إعتبار جيش و أمه و إسترداد أرضا محتلة من قبل عدو بدون أى وجه حق .
تسلم يا غالى ربنا يبارك فيك