عندما يمر العالم بأزمات اقتصادية شديدة دائما ما يتم ربطها و مقارنتها بفترة الكساد العظيم التى استمرت لعقد كامل من السنوات خلال ثلاثينيات القرن الماضى و هى فترة شهد فيها العالم أسوأ انكماش اقتصادي في تاريخه نتيجة انهيار مفاجئ لسوق الاسهم في أكتوبر عام 1929 و الذي أصاب بورصة وول ستريت بحالة من الارتباك أدت الى القضاء على الكثير من المستثمرين و محدثا انخفاضا كبيرا فى نسب الاستهلاك ادى بالتبعيه الى تراكم السلع و انخفاض حاد في الإنتاج بداخل المصانع و هو الامر الذى دعى المصانع و الشركات الفاشله الى تسريح عمالتها وموظفيها الذين قدرت اعدادهم بالملايين و أفلس ما يقرب من نصف بنوك البلاد .
فمع بداية عشرينيات القرن الماضى بدء الاقتصاد الامريكى فى تحقيق قفزات ضخمة تضاعف فيها إجمالي الناتج القومى للبلاد ما بين عامي 1920 و 1929 وهي الفترة التي أطلق عليها اسم “العشرينيات الصاعدة” الامر الذى دعا الكثير من أصحاب الملايين و حتى الطبقات الأدنى الى تحويل مدخراتهم على هيئة أسهم ونتيجة لذلك شهدت أسواق الأوراق المالية فى ” وول ستريت ” بمدينة “نيويورك” توسعًا سريعًا وصل إلى ذروته في أغسطس عام 1929 و نتيجة لذلك الاقبال الشديد أصبحت أسعار الأسهم اعلى بكثير من قيمتها الفعليه فى نفس الوقت الذى كانت تتكاثر فيه الديون نتيجة اقتراض الكثير من المواطنين لمبالغ كبيرة من البنوك من اجل شراء تلك الاسهم بالتزامن مع معاناة القطاع الزراعي بسبب الجفاف كما ان البنوك قامت بعمليات اقراض كبيرة بشكل لا يمكن تصفيته بسهوله و هى عوامل كافيه أدت الى اصابة السوق الامريكى بحالة من الركود حيث تباطأت عملية شراء السلع التى بدأت في التراكم بشكل ادى الى تقليل انتاجها فى المصانع و رغم كل تلك الظواهر السلبيه الا ان اسعار الاسهم استمرت في الارتفاع و بحلول خريف ذلك العام وصلت إلى مستويات كان من المستحيل ان تحصد الارباح التى كانت متوقعة منها .
الانهيار
و نظرا لصعوبه تحقيق ارباح من تلك الأسهم و فقدانها لقيمتها بدء المستثمرين المذعورين في بيع الأسهم بشكل جماعي للتخلص منها و في 24 أكتوبر عام 1929 حدث ما كان يخشاه خبراء الاقتصاد فى ذلك الوقت بانهيار كبير فى سوق الأسهم حيث تم تداول 12.9 مليون سهم في ذلك اليوم والمعروف باسم “الخميس الأسود” و بعد مرور خمسة أيام و في 29 أكتوبر و هو اليوم الذى عرف ايضا باسم “الثلاثاء الأسود” تم تداول حوالي 16 مليون سهم بعد موجة جديدة من الذعر اجتاحت مستثمرى “وول ستريت” لينتهى الأمر بالملايين من الأسهم بلا قيمة و أصبح هؤلاء المستثمرين الذين اشتروا الأسهم فى عداد المفلسين و نتيجة لذلك الانهيار الاقتصادى حدث تراجع في الإنفاق و الاستثمار بشكل أدى إلى إبطاء المصانع فى الإنتاج و بدأت فى تسريح عمالها و بالنسبة لأولئك الذين حالفهم الحظ بالبقاء في عملهم انخفضت أجورهم بشكل كبير و سقط العديد من الأمريكيين في براثن الديون و اصبح الكساد العظيم واحدا من اشد المحن التى مرت على الامريكيين منذ الحرب الأهليه و نتيجة لارتباط الاقتصاد العالمى بشكل او بأخر بالاقتصاد الامريكى فقد انتقلت تلك الازمة الى باقى دول العالم خاصة أوروبا .
وقع الازمة فى عهد الرئيس الامريكى هيربرت هوفر
و مع بداية ذلك الانهيار الاقتصادى حاولت ادارة الرئيس الامريكى ” هيربرت هوفر ” التخفيف من وقعها عبر التأكيد على أنها ستأخذ بعض من الوقت و ستنتهى على الفور الا ان الواقع كان عكس ما يقال حيث حدث تدهورا فى اول ثلاثة اعوام من بدايتها و طالت البطالة 6 مليون مواطن امريكى عام 1931 و انخفض الإنتاج الصناعي للبلاد بمقدار النصف و أنتشر المشردين في البلدات و المدن الأمريكية و لم يكن باستطاعة المزارعين تحمل جني محاصيلهم فاضطروا إلى تركها تتعفن في الحقول بينما كان الناس فى اماكن اخرى يتضورون جوعاً و في عام 1930 جلب الجفاف الشديد في السهول الجنوبية رياحًا شديدة و غبارًا انتقل من ولاية تكساس إلى نبراسكا مما أسفر عن مقتل العديد من الناس و الماشية و فساد كبير فى المحاصيل و هو الامر الذى اجبر العديد من ساكنى الريف على النزوح و القيام بهجرة جماعيه من الأراضي الزراعية إلى المدن بحثًا عن فرص عمل لتزداد الازمة فى التفاقم .
و على جانب اخر و في خريف عام 1930 فقد عدد كبير من المستثمرين الثقة في بنوكهم وطالبوا باسترداد ودائعهم النقدية مما اضطر البنوك إلى تصفية القروض من أجل استكمال احتياطياتها النقدية غير الكافية و انتهى بهم الى اغلاق الالاف منها و في مواجهة هذا الوضع العصيب حاولت إدارة الرئيس “هوفر” دعم البنوك المتعثرة و المؤسسات الأخرى بقروض حكومية على أمل أن تقوم البنوك بدورها باقراض الشركات و التي ستكون بذلك قادرة على إعادة توظيف موظفيها حيث كان الرئيس الجمهورى ” هيربرت هوفر ” الذى عمل سابقًا كوزير للتجارة الأمريكية يؤمن بأن الحكومة لا ينبغي أن تتدخل بشكل مباشر في الاقتصاد و أنها ليست مسؤولة عن خلق فرص عمل أو توفير الإغاثة الاقتصادية لمواطنيها .
الازمة فى عهد الرئيس روزفلت
و انتهت ولاية الرئيس الامريكى ” هوفر ” ليحل محله الرئيس الديموقراطى ” فرانكلين روزفلت ” و الذى تولى منصبه فى مارس عام 1933 وسط ظروف شديدة التعقيد حيث كانت البلاد غارقة في أعماق “الكساد الكبير” و بها 15 مليون شخص عاطلا عن العمل اى ما يقارب أكثر من 20 في المائة من سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت مع اغلاق الاف البنوك حتى أن وزارة الخزانة الأمريكية لم يكن لديها ما يكفي من النقود لدفع رواتب جميع موظفي الحكومة و مع ذلك أظهر “روزفلت” طاقة ايجابية هادئة وتفاؤلًا معلنا بأن “الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه “.
و بدأ “روزفلت” فى اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة المشاكل الاقتصادية في البلاد حيث أعلن أولاً عن “عطلة مصرفية” مدتها أربعة أيام تغلق خلالها جميع البنوك التى لا تزال تعمل حتى يتمكن الكونجرس من تمرير تشريع إصلاحي لاعادة فتحها على اسس اقتصادية سليمه كما بدأ في مخاطبة الجمهور مباشرة عبر الراديو في سلسلة من اللقائات و التى قطعت شوطًا طويلاً نحو استعادة ثقة الجمهور و فى خلال اول 100 يوم من توليه منصبه أصدرت إدارته تشريعات تهدف إلى استقرار الإنتاج الصناعي و الزراعي وخلق فرص العمل بالإضافة إلى ذلك سعى “روزفلت” إلى إصلاح النظام المالي و إنشاء المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) لحماية حسابات المودعين و انشاء لجنة الأوراق المالية و البورصات (SEC) لتنظيم سوق الأوراق المالية و لمنع الاخطاء التى حدثت عام 1929 و ادت الى انهيار سوق الاسهم .
و بجانب التشريعات الاصلاحيه فى الاقتصاد اصدر فى عهده تشريعات اصلاحيه اجتماعيه حيث اعتمد الكونجرس قانون الضمان الاجتماعي عام 1935 و الذي قدم لأول مرة للأمريكيين اعانات البطالة و العجز و المعاشات التقاعدية لكبار السن حيث كانت “الولايات المتحدة” الدولة الصناعية الوحيدة في العالم التي لم يكن لديها شكل من أشكال التأمين ضد البطالة أو الضمان الاجتماعي .
و اتت إصلاحات ” روزفلت ” اكلها حيث بدأت الانتعاشه الاقتصاديه فى الظهور في ربيع عام 1933 و استمر الاقتصاد في التحسن طوال السنوات الثلاث التالية و نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمعدل 9 في المائة سنويًا و رغم حدوث انتكاسة حادة عام 1937 الا انه تم تجاوزها سريعا بعد مرور عام .
تداعيات الكساد العظيم
غذت مصاعب حقبة الكساد العظيم صعود الحركات السياسية المتطرفة في مختلف البلدان الأوروبية و أبرزها نظام “أدولف هتلر” النازي في ألمانيا و الذى ادت سياساته الى أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانيه في أوروبا عام 1939 و التى منها بدأت “الولايات المتحدة” فى تعزيز البنية التحتية العسكرية حتى مع الحفاظ على حيادها و مع قرار “روزفلت” بدعم بريطانيا و فرنسا في النضال ضد ألمانيا ودول المحور الأخرى تم الاهتمام بانشاء المصانع الحربيه مما أدى إلى توفير المزيد والمزيد من فرص العمل في القطاع الخاص و بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور عام 1941 و دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية رسميا بدأت مصانع الأمة فى وضع الإنتاج الكامل حيث ادى التوسع فى الانتاج الصناعى و التجنيد الذي بدأ عام 1942 إلى خفض معدل البطالة إلى ما دون مستوى ما قبل الكساد و لينتهى الكساد العظيم أخيرًا و توجه الولايات المتحدة انتباهها إلى الصراع العالمي في الحرب العالمية الثانية .