قبل أن يصبح ستيفن سبيلبرج علامة بارزة فى عالم الإخراج و الإنتاج فى هوليوود كان فى بداياته مجرد مخرج شاب طموح يبحث عن فرصة للتميز مثل باقي مخرجي جيله و خلال فترة السبعينيات كان يعمل على تصوير فيلم أصبح حاليا واحدا من أيقونات السينما العالمية وهو الفك المفترس الذي يتحدث عن سمكة قرش شرسة و عملاقة تقوم بمهاجمة البشر و تسبب لهم مشاكل ضخمة و لكن يبدو أن تلك السمكة أيضا كانت تسبب مشكلات له فى مسيرته الفنية و عند لحظة معينة كاد ذلك الفيلم أن ينهيها تماما و تخسر السينما العالمية أحد أهم مبدعيها الذين قاموا بإخراج عدد من الأفلام السينمائية الشهيرة مثل إنقاذ الجندي رايان و قائمة شندلر و حديقة الديناصورات و إنديانا جونز .
بدأت قصة فيلم ” الفك المفترس ” عندما أصطاد صياد من “لونج آيلاند” سمكة بيضاء كبيرة تزن أكثر من 2 طن عام 1964 و حينها سأل المؤلف “بيتر بينشلي” عن ماذا سيحدث إذا ظهر أحد هذه الأشياء و بدأ فى الهجوم على الناس و بعد مرور عشر سنوات تحولت فكرته إلى رواية “الفك المفترس ” و كانت الأكثر مبيعًا فى ذلك الوقت و بسببها حدثت حرب طاحنة بين أستوديوهات هوليوود للحصول على حقوق تلك الرواية و تجسيدها فى عمل سينمائي و فازت بتلك الحقوق شركة ” يونيفرسال ” و كان إختيارها الأول لإخراج ذلك العمل هو المخرج “ديك ريتشاردز” الذى ظل طوال الوقت يشير إلى “الفك المفترس” الموجود في القصة على أنه “حوت” لذلك فقد المنتجين صبرهم و أستبدلوه بالمخرج الشاب الطموح “ستيفن سبيلبرج ” الذى تضمنت سيرته الذاتية إخراج عدد من الأفلام التلفزيونية و حلقات للمفتش كولومبو و رغم قلة إخراجه الأفلام الروائية و التى كان أبرزها The Sugarland Express و أحرز فشل ذريعا الا أنهم راهنوا عليه لأن رؤيته لفيلم الفك المتفرس كانت على شكل مغامرة مثيرة مقترنة بالرعب .
و رغم سعادة ” ستيفن سبيلبرج ” الذى كان يبلغ من العمر وقتها 27 عاما بذلك الإختيار إلا أنه كان لديه شكوكه الخاصة حول نجاح ذلك المشروع فبصفته مخرجًا جديدًا كانت لديه تطلعات و يحلم بإنتاج أفلام تنال إستحسان النقاد لأنه كان يعلم أن فشلًا جديدا من شأنه أن يفسد مسيرته المهنية لذلك كان لزاما عليه أن يجعل فيلم الفك المفترس رائجًا و بقوة و من أجل القيام بذلك كان هناك حاجة إلى سمكة قرش مرعبة حقًا و أراد المنتجين منه أن يوظف شخصًا ما لتدريب سمكة قرش بيضاء عملاقة و هو أمر كان من المستحيل تنفيذه لذلك حاول فى البداية إستخدام الدمي المطاطية قبل أن يقرر أن حل تلك المعضلة هو بناء سمكة قرش ضخمة يتم التحكم فيها عن بعد يبلغ طولها 7.5 متر و يمكنها السباحة و القفز في الهواء و قضم الفريسة البشرية و هو أمر أعتبرته كبريات شركات المؤثرات الخاصة فى هوليوود أمر من الصعب تنفيذه فى ذلك العصر لذلك لم يتوانى “سبيلبرج” عن إستدعاء خبير المؤثرات المخضرم “بوب ماتي” من التقاعد و هو الذى أشتهر بتصميم الحبار العملاق في فيلم 20000 فرسخ تحت الماء عام 1954 حيث أكد “ماتي” للمخرج أنه يمكنه بناء ذلك الوحش المثالي .
و بحلول يوليو عام 1974 كان “ستيفن سبيلبرج” في جزيرة ” مارثا فينارد ” موقع تصوير فيلم “الفك المفترس” في إنتظار وصول النجم المتأخر ” كيرك دوجلاس ” لتصوير مشاهده و بينما كان يتابع التجهيزات الأولية و يشاهد بروفات بطل العمل الرئيسي و هو سمكة القرش التى تم تصنيعها بجانب نسختين أخرتين أطلق عليهم جميعا إسم ” بروس ” نسبة إلي محامي ” سبيلبيرج ” و بلغت تكاليف إنتاجهم 250 ألف دولار أمريكي و الذى كان بمثابة مبلغ ضخم بمقاييس تلك الفترة شعر بكثير من القلق لأنه لم يكن وحشا مخيفا و مهددًا للحياة بأي شكل من الأشكال حيث كانت عيناه عادية و أسنانه بيضاء للغاية و لم ينغلق فكه بشكل صحيح حتى أنه كان لديه غمازة كبيرة جعلته يبدو مثل بطل الفيلم “كيرك دوجلاس” لكنه أمتثل الى الأمر الواقع فى النهاية .
و نتيجة المصاعب التى أحاطت بالقرش ” بروس ” أعتبر المخرج ” ستيفن سبيلبرج ” أن فيلم “الفك المفترس” هو أحد نكساته كما شهدت كواليسه أيضا عدد من التحديات الأخري فقبل تصوير فيلم الفك المفترس لم يتم إنتاج أى فيلم في المحيط حيث كانت كل ما تفعله هوليوود حول ذلك الشأن هو ببساطة رمي قاربا في خزان للمياه مع وجود خلفية متحركة و الإيحاء بأنه بحر أو محيط لكن “سبيلبرج” أراد الواقعية و قد دفع ثمنها حيث شهدت كواليس التصوير عدد من الحوادث للقوارب أسفرت عن غرق بعضها و مقتل عدد من أفراد الطاقم بالإضافة الى صعوبة الأجواء من أمواج صاخبة و عمليات المد و الجزر جعلت التصوير يتم فى شكل فوضوي معظم الأيام كما أنه مع قيام الطاقم بتثبيت 12 طنًا من المعدات في مكانها و التجهيز للتصوير تظهر قوارب غير مرغوب فيها في الأفق و كان الوقت يتأكل سريعا حيث لم يكن بعد كل تلك التجهيزات يتبقى من ضوء الظهيرة سوى ساعتين فقط للتصوير و بينما كان “سبيلبرج” يواجه تلك المتاعب مع ميزانية ضئيلة تبلغ 4 ملايين دولار و جدول تصوير محدود لا يتجاوز 55 يومًا حدث تمرد من قبل طاقم العمل و ترك السكان المحليين الغاضبين أسماك القرش الميتة على شرفة مكتب الإنتاج و أعرب المنتجين عن قلقهم من أن فيلم الفك المفترس لن ينجح و عاش “سبيلبرج ” في أوقات عصيبة و خوف دائم من عدم إكمال الفيلم و هو ما سوف يؤدي إلي إنهاء حياته المهنية لكنه أصر أن يمضي قدما حتي النهاية و يكمل فيلمه مهما كانت الظروف .
و خلال العمل على فيلم ” الفك المفترس ” ركز المخرج ” ستيفن سبيلبيرج ” على السيناريو الذي مر على أربعة كتاب و صدرت منه خمس مسودات و كان النص لا يزال غير مكتمل رغم بدء التصوير لذلك استأجر صديقه “كارل جوتليب” للقيام بالتنفيذ النهائي للسيناريو رغم من شعور المنتجين بالقلق نظرا لأنه كاتب مسرحيات هزلي الا أنه لاحقا أثبت أن إختيار ” ستيفن سبيلبرج ” كان فى محله حيث أعتاد ” كارل جوتليب ” كل ليلة الجلوس مع النجوم “روي شيدر و ريتشارد دريفوس و روبرت شو” لتدوين الملاحظات و إرتجال مشاهد غير مكتملة الى أن أنتهى السيناريو الذى كان متكاملا و خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الإنتاج أهتم المخرج بتصوير المشاهد على الشاطئ التى تحتوي على مئات من ممثلي الكومبارس و هم يمثلون أنهم فى حالة ذعر و ظل المخرج هادئًا و واثقًا طوال تلك الفترة و بينما كان يستعد لأخذ كاميراته إلى أعالي البحار كان قلقا و لديه فقط سؤال واحد: هل سيستطيع إنجاز ذلك العمل ؟ و كانت الإجابة بأنه لم يكن أمرا سهلا فمع بدأ العمل في اليوم الأول تم إنزال القرش المصنوع فى المياه و في غضون أسبوع تسببت المياه المالحة في تآكل محركه الكهربائي و كان لا بد من إعادة تجهيزه بنظام من الخراطيم الهوائية و كل ليلة كان يجب تجفيف “بروس” و تنظيفه و إعادة طلائه حيث كان في حالة صيانة مرتفعة .
و يقول سبيلبرج أنه بعد رؤية تصميم سمكة القرش التى لم ترعبه بدأ فى الشعور بالإحباط و فكر للحظات أن يكون الفيلم بدون سمكة قرش عملا بمبدء ” ما لا نراه هو المخيف حقًا ” الا أنه سرعان ما غير فكرة العدو غير المرئي بل و جعله يظهر فى المشهد الإفتتاحي حين تذهب فتاة للسباحة في منتصف الليل و تصبح هى الضحية الأولى للفك المفترس و التى نشاهدها و هي تنحرف و تسحب بعنف عبر البحر حيث حقق الطاقم هذا التأثير المرعب من خلال ربط الحبال حول الممثلة “سوزان باكليني” ثم قام بشئ شبيه بلعبة شد الحبل المائية و خلال الفيلم قام بالإستغلال الإبداعي للمحيط بعد أن جعل الماء يتدفق على العدسة بشكل يشعر الجمهور و كأنهم ليسوا في قلب المحيط فحسب بل على وشك الغرق حيث أخترع المصور “بيل بتلر” صندوق للماء بنوافذ زجاجية تسمح بغمر الكاميرات كما عمّق كاتب السيناريو “جوتليب” حالة القلق المستمرة بإثارة الفكاهة مع الرعب حيث يأتي الفك المفترس تقريبًا مباشرة في أعقاب نكتة و يكون المشهد تنظيم دقيق للصراخ و الضحك و الصمت المنذر و هو ما يجعل الجمهور غير متوازن عاطفياً.
و أنتهى التصوير و عاد “ستيفن سبيلبرج” المنهك أخيرًا إلى هوليوود بعد 159 يومًا لكن عمله لم ينته بعد حيث كان لزاما عليه البدء فى تحريره بمساعدة المحررة المخضرمة ” فيرنا فيلدز ” حيث قاما بتجميع الفيلم معًا و كان طوال تلك العملية يواجه المتاعب حيث كان الطقس في “نيو إنجلاند” يطارده بشكل كبير نتيجة السماء المتغيرة التى كانت تؤثر على تطابق اللقطات كما أنه لإضافة المزيد من الرعب أعاد تصوير جزء من مشهد واحد في بركة الفناء الخلفي لمنزل ” فيرنا ” و بعد الإنتهاء تماما من صناعة الفيلم كان لا يزال متشككا من النتائج و بقى أمامه سؤال هل سيخيف فيلم الفك المفترس الجماهير أم أنه سيكون فيلما مضحكا و كان عليه الإنتظار حيث كان هناك عدد من التأخيرات لاصداره لأسباب مختلفة حيث كان من المرجح أن يتم عرضه في قلب موسم الكريسماس المربح عام 1974 و لكن بدلاً من ذلك أطلقت شركة “يونيفرسال ” دعوة جريئة لإبقاء الفيلم حتى الصيف و هو موسم كان تقليديًا لإلقاء الأفكار السينمائية اللاحقة.
و خلال الربيع أثارت عروض الإختبار ردود فعل إيجابية أدت إلى ارتفاع سعر سهم شركة ” يونيفرسال ” و هو ما معناه ان ذلك الفيلم حقق نجاحا مبدأيا كبيرا و أستغلت الشركة حالة الزخم تلك و قامت بحملة تسويقية خاطفة فرغم إبتعاد الأستوديوهات عن إستخدام إعلانات تلفزيونية باهظة الثمن لتسويق الأفلام إلا أن ” يونيفرسال ” دفعت ما يقارب 700 ألف دولار للدعاية و عرض مقطع دعائي للفيلم مدته 30 ثانية أثناء عرض برامج شهيرة وقت الذروة كما أن الإستراتيجية الإفتتاحية للفيلم كانت عنيفة بنفس القدر حيث كان من المعروف أنه يتم إفتتاح عرض الأفلام الشهيرة في مدينة “نيويورك” أو “لوس أنجلوس” قبل أن تنتشر ببطء إلى مدن أخرى ثم تتدفق إلى المدن الصغيرة بعد أشهر الا أن ذلك الفيلم أنطلق فى شبكة واسعة لزيادة مبيعات التذاكر إلى أقصى حد قبل أن تقتل الكلمات الشفهية السلبية الفيلم حيث عرض فيلم الفك المفترس في 465 دار عرض في 20 يونيو عام 1975 و آتت تلك المقامرة ثمارها حيث حقق الفيلم 60 مليون دولار في شهره الأول و أستمر ليصبح أول فيلم يصل إلى 100 مليون دولار ثم حقق في النهاية 260 مليون دولار أمريكي كما كان النقاد متحمسين له أيضا بنفس قدر الجمهور حيث وصفته “بولين كايل” في نيويوركر بأنه “أكثر أفلام الرعب بهجة على الإطلاق” و ترشح لجائزة الأوسكار أفضل فيلم و فاز بثلاث جوائز أوسكار أخرى .
و لاحقا بعد ذلك النجاح الكبير قال المخرج ” ستيفن سبيلبرج ” “ما كان يجب صنع الفك المفترس أبدًا … لقد كان جهدًا مستحيلًا.” و لكن رغم تصريحه الا أننا نستطيع القول بأنه رغم كل تلك الأيام المحبطة في البحر إلا أنها جعلت المخرج الشاب يحصل على ما كان يريده حيث أصبح واحدا من أشهر مخرجي جيله و أخرج أفلاما شهيرة كانت ذات ميزانية مفتوحة نظرا لأن المنتجين يعلمون الى أى مدى سوف تربحهم عبقرية ذلك الرجل .