فور انتهاء الحرب العالمية الثانية و هزيمة ألمانيا بدأ العالم فى الاستعداد لمرحلة جديدة و مختلفة من الصراع أطلق عليها الحرب الباردة حيث تلاشت التحالفات القديمة ليحل محلها تحالفات أخرى بين معسكرين أحدهما شرقى و الأخر غربى و ذلك بعد أن طور الاتحاد السوفيتي او روسيا حاليا قنبلتها الذرية و انخراط الولايات المتحدة و كوريا الشمالية و الصين في مأزق دموي في شبه الجزيرة الكورية ناهيك عن الخلافات و الصدامات فى القارة الأوربية التى كان أغلبها مخابراتى و كان مركز عمليات التجسس للطرفين هى مدينة “برلين” المقسمة بين الحلفاء السابقين و الخصوم الحاليين حيث حاول كل طرف منهم فرض نفوذه عليها و في عام 1954 بدأت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA عملية بالغة الخطورة اطلق عليها اسم كودى العملية جولد و التى كانت بمثابة خطة جريئة للاستفادة من خطوط الاتصالات الممتدة من غرب فرنسا إلى قلب الاتحاد السوفيتي و أوروبا الشرقية في أوائل فترة الحرب الباردة .
بدأت مقدمات “العملية جولد” أو الذهب عام 1948 في العاصمة النمساوية “فيينا” و كانت مثل “برلين” مرتعًا للتجسس في السنوات التي تلت الحرب مباشرة حيث شهدت هى الأخرى تقسيم إلى أربع مناطق عسكرية تديرها بريطانيا العظمى و الولايات المتحدة و فرنسا و الاتحاد السوفيتي و كان لدى البريطانيين اهتمام كبير بمعرفة أكبر قدر ممكن عن فحوى الاتصالات السوفيتية في “فيينا” و أرسلوا أحد كبار عملائهم و هو “بيتر لون” للتحقيق فى الأمر حيث اكتشف أن السوفييت كانوا يستخدمون خطوط الهاتف الأرضية النمساوية لربط المقرات العسكرية السوفيتية في “فيينا” بموسكو كما اكتشف أيضًا أن جميع الاتصالات من “موسكو” و إلى مركزها العسكري في “النمسا” كانت تأتى عبر فندق “إمبريال” و عليه قامت المخابرات البريطانية MI6 بشراء مبنى بالقرب من الموقع و حفر نفقًا من داخله بطول أكثر من 20 متر من الطابق السفلي للمبنى للوصول الى كابلات الاتصالات الرئيسية لذلك المكان فى عملية أطلق عليها اسم ” العملية سيلفر ” أو الفضة و من أجل عدم جذب الانتباه السوفيتي غير المرغوب فيه لما يحدث فتحت MI6 شركة استيراد فى المبنى كنوع من انواع التغطية لإخفاء هدفها الحقيقي تحت الأرض حيث حققت تلك الشركة نجاحا كبيرا و هو ما سمح للجواسيس البريطانيين بالقيام بعملهم السري دون أن يتم اكتشافهم و خلال احد الاجتماعات مع قيادات المخابرات الامريكية أطلعوهم بتلك العملية و يعمل الجانبان معا في مشاركة ثروة المعلومات التى حصلوا عليها حيث تمكنت المخابرات البريطانية خلال تصنتها من تعلم استراتيجية السوفييت و معرفة خططهم بشكل يجعلهم مواكبين لكل الأفعال السوفيتية و تطوراتها و كان نجاح “العملية سيلفر” التي امتدت من عام 1948 و حتى عام 1952 بمثابة النموذج الذي استخدمته المخابرات الأمريكية بعد بضع سنوات في مشروعها الجريء و هو ” العملية جولد ” .
و بالعودة الى برلين و بعد تقسيمها نقلت الولايات المتحدة مقرها العسكري إلى المدينة التي تعرضت للقصف في يوليو 1945 و كان القسم الأمريكي متاخمًا لمنطقة السيطرة السوفيتية في منطقة “برلين” المعروفة باسم “زيليندورف” و التى كانت مترامية الأطراف هناك و كانت أنشطة وكالة المخابرات المركزية فى ” برلين ” تحت اسم كودى كغطاء هو ” بوب ” BOB و أوكلت وكالة المخابرات المركزية اثنين من أهم فرقها في ” بوب ” و هم فرع المخابرات السرية و مكافحة التجسس لمواجهة أنشطة السوفييت في برلين و التى كانت هدف رئيسي لعمليات المخابرات السوفيتية هى الاخرى حيث حكم الروس منطقتهم بقبضة من حديد و استهدفوا مصالح الولايات المتحدة على وجه الخصوص و قاموا بعملية جمع معلومات استخباراتية واسعة النطاق عن الأمريكيين شملت مخبرين و عملاء وأشخاص مهمين في المدينة و هو الامر الذى جعل عملاء المخابرات الامريكية يقومون بمجهود ضخم لم يرتكز على المعلومات العسكرية فقط بل توسع ليشمل الأحداث الاقتصادية الجارية في القطاعات الشاسعة التي يسيطر عليها السوفييت في المدينة من خلال استخدام عملائهم هم أيضا و الذين تمكنوا من اختراق مقر المخابرات السوفيتية في “برلين” الذي كان يقع في منطقة “كارلسهورست” و أستطاعوا تتبع تطوير القنبلة الذرية الروسية في أواخر الأربعينيات و كل ذلك بمساعدة الجيش الأمريكي الذى كان له دورًا كبيرًا في عمليات ” بوب ” بعد ان كان يقدم لهم مساعدات لوجيستية و بمرور الوقت أصبحت ” بوب ” هى أكبر وكالة جمع معلومات استخبارية في أوروبا وكان لها دور فعال في إبقاء “واشنطن” على اطلاع دائم بالوضع أثناء حصار “برلين” عام 1948 و حققت أنشطتها نجاحات باهرة أهلتها لتقديم خبراتها عندما بدأت ” العملية جولد ” .
و بالاعتماد على نجاح عملية “فيينا” بدأت المستويات العليا في وكالة المخابرات المركزية بدراسة مفصلة حول كيفية تكرار الإنجاز البريطاني و هذه المرة تحت أنوف الروس و حلفائهم الألمان الشرقيين في برلين و بعد دراسة مستفيضة من قبل أفضل العقول العلمية في الوكالة تقرر أن الطريقة الأفضل هي تركيز الجهود على الكابلات الموجودة تحت الأرض و المدفونة تحت المدينة و ذلك بعد أدرك الأمريكيين أن الكابلات لا يمكن مراقبتها عن طريق الاستماع فوق الأرض و لكن إذا تم وضع اجهزة التصنت تحت الأرض فإن فرص اكتشافها تكون ضئيلة و للتأكد من ذلك الاقتراح قام عميل مزدوج لوكالة المخابرات المركزية عام 1953 بوضع جهاز تصنت على احد الكابلات في برلين الشرقية و ربطها بخطوط الهاتف المحلية إلى برلين الغربية و أثبتت تلك التجربة نجاحًا كبيرًا خاصة و انه لم يتم اكتشافها أبدًا و عليه قررت السى اى ايه المضي قدمًا في ” العملية جولد ” .
و طوال عام 1953 تم بذل جهد علمي كامل في جميع جوانب الخطة مع تنفيذ كل سيناريو محتمل و عندما تم التخطيط لها تم إرسال خطوطها العريضة إلى مدير الوكالة أنذاك ” آلان دالاس” للحصول على الموافقة النهائية و التى أعجبته و قرر أن الخطة تستحق المتابعة و أعطاها الضوء الأخضر للبدء فى أكبر عملية سرية للوكالة في الحرب الباردة و بعد دراسة متأنية من قبل وكلاء ” بوب ” تقرر أن أفضل مكان لبدء الحفر هو منطقة ” التجلينيك ” في “برلين” و بدأ العمل رسميا في فبراير عام 1954 حيث استخدمت الوكالة كغطاء لها فى عملية الحفر أحد المواقع التى تستخدم كرادار للقوات الجوية و رغم مراقبة السوفييت دائمًا لأنشطة المخابرات الأمريكية في برلين الا انهم لم ينتبهوا عندما بدأ الأمريكيين في تشييد مبنى فى ذلك المكان حيث اعتقدوا أنها مجرد منشأة عسكرية أخرى.
و خلال التخطيط لتلك العملية قررت وكالة المخابرات المركزية إطلاع البريطانيين على تفاصيل ” العملية جولد ” حيث كان أحد ضباط المخابرات البريطانية الذين شاركوا في الإحاطة هو “جورج بليك” الذى كان جاسوسًا سوفييتيًا و قام بتدوين ملاحظات مستفيضة حول ذلك الموضوع و بعد الاجتماع مباشرة أبلغ تلك المعلومات للظابط السوفيتى المسئول عنه “سيرجي كوندراشيف” و الذى أبلغه على الفور لرؤسائه الذين عقدوا اجتماعا لمناقشة ذلك الأمر .
و بالنسبة الى الأمريكيين فقد وقع اختيارهم على احد الظباط الأكفاء لادارة ” العملية جولد ” و يُدعى “ويليام كينج هارفي” و هو ظابط كان يعمل سابقا لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالي و لكن بعد مشادة مع مديرها “إدجار هوفر” غادر المكتب ليعمل فى وكالة المخابرات المركزية بقسم مكافحة التجسس و كانت إحدى مهماته المبكرة هي الكشف عن الجاسوس السوفيتي “كيم فيلبي” الذي عمل في جهاز المخابرات البريطاني في “واشنطن” العاصمة عام 1952 حيث أوكل الى “هارفي” منصب حساس كرئيس لمحطة وكالة المخابرات المركزية في “برلين ” و نظرًا لأنه كان من المستحيل فعليًا على أي من عملاء ” بوب ” اختراق ألمانيا الشرقية فقد قام “هارفي” بشكل سرى فى تجنيد عدد من العملاء المزدوجين الذين عملوا لصالح الألمان الشرقيين و خاصة أولئك الذين يعملون في مناطق الاتصالات و أرسلوا معلومات هامة حول إعداد الاتصالات لحكومة ألمانيا الشرقية و كان أحد أهم العملاء المزدوجين فى ” العملية جولد ” مصدرًا يُدعى “القناص” و الذي نقل المعلومات إلى ” بوب ” فيما يتعلق بالتغلغل السوفيتي للمصالح الغربية في برلين و فى الوقت الذى قام فيه ” هارفى بكشف بعض من تفاصيل ” العملية جولد ” لعدد قليل من الرجال في ” بوب ” و لم تكن معلومات كاملة حيث أخفى أمر النفق عنهم و حتى عن “روبرت مورفي ” الذي كان الرجل الثاني في قيادة ” بوب ” عام 1954 و لم يعرف اى شئ عن العملية الى أن أطلعه ” ألان دالاس ” بها و على التقدم المحرز فيها حيث أعطى الضوء الأخضر للتنفيذ الفعلى لها بعد اجتماعات سرية مع المخابرات البريطانية في “لندن” .
و بدأ سلاح المهندسين بالجيش الأمريكي مهمة الحفر اسفل الأرض في القطاع الشرقي من “برلين” الذي يحتله الروس بعد تجارب قام بها في صحراء “نيو مكسيكو” و باستخدام نفس أبعاد النفق المقترح في برلين و كان الحفر يتم بشكل سرى دون علم السلطات الألمانية الغربية تجنبا لافشاء أى معلومات حيث خدع ” هارفى ” عمدة برلين الغربية و أخبره أن المهندسين الامريكيين يقومون ببعض من الأعمال الجيولوجية فقط تحت المدينة لأن الحلفاء كانوا يخشون من أن الروس قد يحاولون تدمير نظام الصرف الصحي في “برلين” حيث كان بناء النفق مهمة معقدة و امتد لمسافة كبيرة تحت التربة الرملية بعمق 0.7 متر تحت الأرض بهدف الوصول الى منطقة الكابلات بالقرب من نهاية طريق سريع مزدحم كانت تستخدمه القوات الألمانية الشرقية و الروسية الى أن وصل العمال الأمريكيين المسؤلين عن حفر النفق اليها في 28 أغسطس 1954 لكن في الشهر التالي واجهوا عقبة عندما نتج عن الحفر خروج مياه من الأرض مما أستلزم إحضار مضخات لإزالة تلك الفوضى و تم الانتهاء من النفق و تجهيزه بشكل كامل في 28 من فبراير عام 1955 و بدا واضحا ان النفق يمتد لمسافة 460 متر تحت الأرض مباشرة إلى الحدود السوفيتية و مثلهم إلى المنطقة التي تحتوي على مرفق كابلات التحويل السوفياتي الرئيسي حيث تكون النفق من أقسام مترابطة و تم بناء ثلاث غرف سابقة التجهيز لإيواء الرجال الذين يراقبون الموقع تحت الأرض و تركيب أنظمة تكييف الهواء لتزويدهم بالحد الأدنى من وسائل الراحة و كان لكل غرفة باب معدني يغلقها عن بقية النفق و تم تركيب أجهزة التجسس الأولى في مايو عام 1955 حيث كان الولوج الى تلك الكابلات و التنصت على الخطوط السوفيتية مهمة معقدة استمرت حتى أغسطس من نفس العام .
و بدأت ” العملية جولد ” تحقق المرجو منها بعد أن أصبح المستمعين الأمريكيين قادرين على مراقبة أكثر من 500 اتصال في نفس الوقت و بحلول الوقت الذي انتهت فيه العملية كانت وكالة المخابرات المركزية قد سجلت مكالمات على حوالي 50 ألف بكرة من الشرائط و رصدت 443 ألف محادثة مكتوبة بين السوفييت و الألمان الشرقيين اضافة الى 40 ألف ساعة من المحادثات الهاتفية و جمعت 1750 تقريرًا استخباراتيًا حيث كان ذلك النفق بمثابة ثروة استخباراتية ضخمة للغرب و من خلاله سجلت وكالة المخابرات المركزية كل محادثة سياسية و عسكرية مهمة صادرة من ألمانيا الشرقية إلى جميع المناطق السوفيتية في جميع أنحاء أوروبا و لكن رغم كل الأدوات التكنولوجية المتطورة المستخدمة في تشغيل النفق أدت الظروف الجوية غير المتوقعة بالتسبب في سقوطه حيث ضربت كميات هائلة من الأمطار برلين في أبريل عام 1956 مما أدى إلى إغراق النفق و كشف احدى غرفه من قبل طاقم الصيانة السوفيتي مما دفع ضباط وكالة المخابرات المركزية الذين يعملون فيه الى الفرار بشكل سريع و بحسب ما ورد فقد ترك “هارفي” وراءه ملاحظة ساخرة للروس مكتوب عليها “أنتم تدخلون الآن القطاع الأمريكي”.
و عندما تم الكشف أخيرًا عن خبر ” العملية جولد ” كان رد الفعل في الولايات المتحدة مبهجًا و أعطتها الصحافة عناوين رئيسية في جميع أنحاء البلاد و وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” العملية بأنها مغامرة ذات جرأة غير عادية و من المواد التي تُصنع منها أفلام الإثارة و وصفتها صحيفة “نيويورك هيرالد تريبيون” بأنها مثال على قدرة المخابرات المركزية على القيام بمهام جريئة حيث كانت ” العملية جولد ” بالفعل بمثابة أول مشروع عمل سري كبير خلال الحرب الباردة تنفذه وكالة المخابرات المركزية و حصل من خلالها “ويليام هارفي” على وسام المخابرات المتميز في حفل سري أقامه مدير الوكالة و بعد ذلك و وفقا للتحقيق الذي أجرته وكالة المخابرات المركزية الامريكية لاحقا بشأن قضية النفق فقد توصلوا الى أن العميل البريطاني المزدوج “جورج بليك” قد نبه السوفييت لتلك الخطط الامريكية و كانت الخيارات المتاحة أمام قادتهم إما إيقاف عملية ضارة محتملة أو خسارة عميل قيم لأن كشف العملية فى بدايتها سيكون دليل ان هناك من سرب معلومات عنها و ستبدأ الشكوك تحوم حول ” بيليك ” ليستقروا فى النهاية على حماية مصدرهم و تركوا الأمريكيين يقومون ببناء النفق دون عوائق و عندما عثر طاقم الصيانة السوفيتي “بالصدفة” على النفق لم يكن هناك مفر من انهاء العملية و لاحقا تم القبض على “بليك” في وقت لاحق و اعترف بتسريب معلومات ذلك النفق الى السوفييت و حُكم عليه بالسجن لمدة 42 عامًا لكنه هرب بجرأة من سجنه شديد التحصين في إنجلترا عام 1966 و شق طريقه إلى “موسكو” حيث عومل كبطل .
و توالت السنوات و كان لا يزال ذلك النفق موجودا الا انه فى فترة التسعينيات تم نقل جزء منه بطول 12 مترا ليتم عرضه فى متحف الحلفاء و نقل بعض من الاجزاء الاخرى له لعرضها فى متحف المخابرات الامريكيه .