يرجع الفضل للتقدم العلمي الذى يعيش فيه العالم حاليا و خاصة فى المجال الطبي الى العديد من الدراسات و التجارب التى قام بها العلماء فى السابق لتحقيق اكتشافات و نظريات جديدة و التى ربما قد يكون بعضها قد حدث عن طريق الصدفة و البعض الأخر من خلال تجارب لا يصدق البعض حدوثها لأنها تتمتع بلمسات جنونية واحدة منها كانت بأوائل القرن العشرين فى الولايات المتحدة على يد طبيب أمريكي يدعى هنري كوتون و الذى قام على مدار 26 عاما بإجراء أكثر من 645 عملية غريبة من نوعها في مستشفى ترينتون للطب النفسي لمحاولة علاج المرضى النفسيين و تخليصهم من جنونهم عن طريق أزالة أسنانهم لأنه كان مؤمنا بأن الجنون العقلى ما هو الا مرض ناتج عن التهابات غير معالجة في الجسم و هو ما دفعه الى اجراء تلك التجارب الغريبة لاثبات نظريته التى تضعك فى حيرة عمن يكون المجنون الحقيقى هل هو المريض أم الطبيب نفسه .
فمع بدء توليه إدارة مستشفى “ترينتون” للطب النفسي فى ولاية ” نيوجيرسي ” بدأ الدكتور ” هنري كوتون ” في إزالة الأسنان المصابة لمرضاه اعتمادا على معتقداته الطبية لكن لدهشته أن هذا لم يشفيهم دائمًا من جنونهم بل على العكس فقد سائت حالتهم بعد منعتهم تلك العمليات من التحدث بوضوح أو تناول الطعام بشكل صحيح و بدلا من الاعتراف بخطأ نظريته العلاجيه خلص إلى أن سبب عدم نجاح عملياته الجراحية الدائم هو أن العدوى انتشرت كثيرًا فى الجسم و في هذه الحالة كان من الضروري إزالة أجزاء أخرى مصابة بما في ذلك اللوزتين و المعدة و المرارة و الخصيتين و المبيضين و القولون أو هكذا ادعى حيث أفاد بأنه تمكن من علاج 85٪ من مرضاه و بطبيعة الحال كان زملاؤه معجبين و متحمسين لتبني أساليبه و كان آباء الأطفال الغير مستقرين عقليًا حريصين على الحصول بمكان في جدوله الضيق و إذا لم يكن ذلك متاحا فكانوا يصرون على أن يفعل أطبائهم نفس عملياته الجراحية .
و الغريب فى الأمر أن الطبيب ” هنري كوتون ” أصبح رجلاً مشهوراً و معترف بعملياته و نظرياته في كل من أمريكا و أوروبا لمعالجاته الناجحة للجنون رغم ارتفاع معدل وفيات مرضاه نتيجة إستمراره فى إجراء تلك العمليات الجراحية الغريبة حيث كان في وقت ما يتوفي واحد من كل ثلاثة مرضى بعد خضوعهم لعلاج “كوتون” و هو ما جعل العديد من نزلاء المصحة العقلية يدركون خطورة تلك الجراحات و يرفضون الذهاب إلى غرفة العمليات لذلك كان يتم جرهم قسريا إلى هناك رغم مقاومتهم و صراخهم و مع ازدياد معدل الوفيات الى نسبة 30% بدء يدرك الخطر المحدق به لكنه ادعى أن سبب ذلك يرجع الى أن معظم المرضى كانوا بالفعل في حالة بدنية سيئة .
و لحسن الحظ لم يقع جميع الأطباء تحت تأثير سحر ” هنري كوتون ” حيث كان بعض الأطباء النفسيين متشككين في تلك الجراحات إضافة إلى ظهور العديد من الادعاءات التى تشير بأنه كان يسيء معاملة مرضاه و لكنه تمكن من استرضاء منتقديه باستبدال فريقه من الممرضين الذكور و الذين ينسب اليهم سوء المعاملة ليحل محلهم ممرضات إناث حيث ذكرت صحيفة النيويورك تايمز معلقة على ذلك الإجراء حينها بأنه من الطبيعي أن يكون الرجال قاسيين للغاية مع المرضى لذلك يعتقد ” كوتون ” أن وجود الممرضات سيكون مريح جدا لعقل المريض .
و أستمرت تلك التجارب على مدار 26 عاما و بحلول عام 1924 بدأ التحقيق المناسب في أساليب ” هنري كوتون” الطبية بقيادة الدكتورة “فيليس جريناكر” التى كانت لديها حدس أن هناك شيئًا غير طبيعي بشأن ذلك الطبيب و إجراءاته خاصة بعد أن شاهدت بيئة المستشفى و وجدتها ضارة بالصحة العقلية لمرضاها و اعتقدت أن ذلك الطبيب غريب الأطوار و كان أكثر ما أزعج ” جريناكر ” أن معظم مرضى “كوتون” ليس لديهم أسنان و الأهم من ذلك أنها وجدت سجلات الموظفين فوضوية و أن بيانات “كوتون” متناقضة و لمحاولة الوصول الى أدلة أعمق حققت مع 62 مريضا من ضحايا ” هنري كوتون ” لتجد من وسط رواياتهم قصص مروعة كما أكتشفت أن سبعة عشر مريضًا قد ماتوا بعد عمليات ” هنري كوتون ” الجراحية مباشرة بينما عانى آخرون لبضعة أشهر قبل أن يموتوا أيضا و بالطبع لم يتم تضمين هذه الوفيات في السجلات كما أظهرت نتائج أخرى أن خمسة مرضى فقط تعافوا تمامًا و تحسن ثلاثة أخرين لكن الأعراض كانت ما تزال موجودة بينما بقية المرضى لم يتحسنوا .
جعلت تلك الشواهد الطبيبة ” فيليس ” أكثر ريبة من أي وقت مضى و قررت الاتصال بالمرضى السابقين الذين خرجوا من المستشفى و الذين يُفترض أنهم شُفيوا أو تحسنوا و بعد إجراء مقابلات معهم أكتشفت أن جميعهم ما زالوا غير مستقرين عقليًا و بالتزامن مع تحقيقات الطبيبة ” جريناكر ” تم تشكيل لجنة فى مجلس الشيوخ بولاية “نيو جيرسي” للتحقق عما يحدث فى تلك المستشفى و خلال التحقيقات تظاهر ” هنري كوتون ” فجأة بالجنون و مع مرور الوقت تم تجاهل تقرير ” جريناكر ” و فقد مجلس شيوخ الاهتمام بتلك التحقيقات و نجى الطبيب ” كوتون ” من تلك الازمة و المسائلة بأعجوبة حيث قال أنه تعافى بعد تلك الأزمة النفسية من خلال ازالة بعض أسنانه المصابة لذلك قام أيضًا بخلع أسنان زوجته و كذلك أسنان ولديه من أجل الوقاية .
و عاد الطلب على علاجات ” هنري كوتون ” المجنون و الذى لم يكتفى بمواصلة إجراءاته الجراحية في مستشفى “ترينتون” فقط بل سافر حول “الولايات المتحدة” و “أوروبا” لإلقاء محاضرات و افتتح أيضًا عيادة خاصة به حيث رحب بالمرضى الأثرياء الذين يئسوا من شفاء أحبائهم من الجنون و بحلول الثلاثينيات تقاعد و أصبح مديرا فخريا حيث لم يمنعه ذلك من استمرار عملياته الجراحية و ابتكار فكرة جديدة كانت أكثر جنونا حيث كان يعتقد أنه من الجيد إجراء عمليات استئصال القولون للأطفال لوقايتهم من الجنون و منعهم من الانخراط في عادات سيئة مثل العادة السرية كما انتقد أطباء الأسنان لأنه يعتقد أن عملهم فى اصلاح الأسنان هو أمر بائس بدلاً من خلعها ببساطة.
أقرأ أيضا : دانكان ماكدوجال الطبيب الذى أجرى تجربة لقياس وزن الروح البشرية
و بدأت فى الثلاثينيات تحقيقات جديدة من قبل مجلس إدارة المستشفى و بعض من الأفراد المنتمين الى المؤسسات الطبية و الوكالات الحكومية فى ” نيوجيرسى ” و الذين قاموا بفحص سجلات 645 مريضًا خضعوا لعمليات ” هنري كوتون ” و مقارنتها بـ 407 مرضى أخرين لم يخضعوا لتلك العمليات الجراحية حيث وجدوا أن معدل الشفاء كان أعلى لدى المرضى الذين لم يعالجوا من ” كوتون ” و بطبيعة الحال حارب الطبيب و أنصاره بشدة الادعاءات بأن عملياتهم الجراحية كانت مضرة و في خضم هذه المعركة الأخيرة توفي “كوتون” بنوبة قلبية عام 1933 و يتنفس المرضى العقليين في مستشفى “ترينتون” الصعداء حيث أظهرت السجلات أن ذلك الطبيب و مساعدوه قاموا بخلع أكثر من 11000 سن و أجروا 645 عملية جراحية كبرى و قتلوا و شوهوا مئات الأشخاص و مع ذلك فقد صدر نعى فى جريدة “التايمز” بأنه يجب على الجميع أن يأسفوا لفقدان هذا الرائد العظيم الذي كان و سيظل تأثيره الإنساني موجودا بيننا .